مجلة الرسالة/العدد 27/الشافعي واضع علم أصول الفقه
→ عام جديد! | مجلة الرسالة - العدد 27 الشافعي واضع علم أصول الفقه [[مؤلف:|]] |
صفي الدين الحلي ← |
بتاريخ: 08 - 01 - 1934 |
للأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية
الآداب
- 5 -
أ - الدراسات الفقهية إلى عهد الشافعي. ب - أهل الرأي وأهل الحديث
ج - الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث وآثاره وكتبه
د. وضع الشافعي علم أصول الفقه
وفي صدر العهد العباسي تمكن الاستنباط واستقرت أصوله وجعل لفظ (الفقه) ينتهي بالتدريج إلى أن يكون غير مقصور على المعنى الأصلي أي الاستنباط من الأدلة التي ليست نصوصاً واصبح المعنى الأول للفقه هو: (الأحكام الشرعية العملية المأخوذة من أدلتها التفصيلية) نصوصا كانت أو رأياً وسمي أهل هذا الشأن بالفقهاء ونشأ التأليف في الفقه بهذا المعنى وانقسم الفقه إلى طريقتين طريقة أهل الرأي والقياس، وهم أهل العراق، وطريقة أهل الحديث وهم: أهل الحجاز
ب - أهل الرأي وأهل الحديث
ومقدم جماعة أهل الرأي الذي استقر المذهب فيه وفي أصحابه هو: (أبو حنيفة) المعتبر أبا لمذهب أهل العراق، أسسه وأعانه على تأسيسه تلميذاه الجليلان: (أبو يوسف) القاضي المتوفي سنة 182هـ - 797م و (محمد بن الحسن) الشيباني المتوفي سنة 189هـ - 804 م
ولئن كان حماد بن سليمان الكوفي المتوفى سنة 120هـ - 737 و738 م هو أول من جمع حوله طائفة من التلاميذ يعلمهم الفقه. مع ميل غالب للرأي. وكان (أبو حنيفة) من هؤلاء التلاميذ فان حماداً لم يترك آثراً علميا مكتوبا. أما أبو حنيفة فيقول صاحب (الفهرست)؛ وله من الكتب (كتاب الفقه الأكبر) - كتاب رسالته إلى اليسقى - كتاب العالم والمتعلم - رواه عنه مقاتل - كتاب الرد على القدرية - والعالم براً وبحراً، شرقا وغربا، بعداً وقرباً، تدوينه رضى الله عنه) ص 202
ويذكر الموفق بين أحمد المكي الحنفي في كتابه (مناقب الأمام الأعظم) آثر أبي حنيفة الفقه بقوله جـ1 ص 136، 137: (وأبو حنيفة أول من دون علم هذه الشريعة، لم يسبقه أحد ممن قبله لأن الصحابة والتابعين لم يضعوا في علم الشريعة أبوابا مبوبة ولا كتبا مرتبة إنما كانوا يعتمدون على قوة فهمهم وجعلوا قلوبهم صناديق علمهم فنشأ أبو حنيفة بعدهم فرأى العلم منشرا فخاف عليه الخلف السوء أن يضيعوه ولهذا قال - صلعم -: أن الله تعالى لا يقبض العلم انزاعا ينتزعه من الناس وإنما ينتزعه بموت العلماء فيبقى رؤساء جهال فيفتون بغير علم فيضلون ويضلون فلذلك دونه أبو حنيفة فجعله أبوابا مبوبة وكتبا مرتبة. فبدأ بالطهارة ثم بالصلاة ثم بسائر العبادات على الولاء ثم بالمعاملات ثم ختم بكتاب المواريث
وإنما ابتدأ بالطهارة ثم بالصلاة لأن المكلف بعد صحة الاعتقاد أول ما يخاطب بالصلوات لأنها أخص العبادات واعم وجوبا، وآخر المعاملات لأن الأصل عدمها وبراءة الذمة منها وختمه بالوصايا والمواريث لأنها آخر أحوال الإنسان فما احسن ما ابتدأ به وختم وما أحذقه وأفهم وأفقه وأمهر وأعلم وأبصر
ثم جاء الأئمة من بعده فاقتبسوا من علمه واقتدوا به وفرعوا كتبهم على كتبه، ولهذا روينا بإسناد حسن عن الشافعي - رح - أنه قال في حديث طويل: (العلماء عيال على أبي حنيفة في الفقه)
وروى عن ابن سريج - رح - أنه (سمع رجلا يتكلم في أبي حنيفة فقال له يا هذا مه، فان ثلاثة أرباع العلم مسلمة له بالإجماع والرابع لا نسلمه لهم،
قال: وكيف ذلك؟ قال: لان العلم سؤال وجواب، وهو أول من وضع الأسئلة فهذا نصف العلم، ثم أجاب عنها فقال بعض: أصاب، وبعض: أخطأ، فإذا جعلنا صوابه بخطئه صار له نصف النصف الثاني والربع الرابع ينازعهم فيه ولا يسلم لهم. . . ولأنه - رح - أول من وضع كتابا في الفرائض وأول من وضع كتابا في الشروط. والشروط لا يستطيع أن يضعها إلا من تناهى في العلم وعرف مذاهب العلماء ومقالاتهم لأن الشروط تتفرع على جميع كتب الفقه ويتحرز بها من كل المذاهب لئلا ينقضها حاكم بنقض أو فسخ. . . وقد قيل بلغت مسائل أبي حنيفة خمسمائة ألف مسألة وكتبه، وكتب أصحابه تدل على ذلك)
وجملة القول: أن مذهب أهل الرأي هو الذي رتب أبواب الفقه، وأكثر من جمع مسائله في الأبواب المختلفة وكان الحديث قليلاً في العراق فاستكثروا من القياس ومهروا فيه فلذلك قيل: (أهل الرأي)
وإنما كان أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق لأن المدينة دار الهجرة، ومأوى الصحابة ومن انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد وغيره من شؤون الدولة أكثر.
ومذهب أهل العراق كان يقصد إلى جعل الفقه وافيا بحاجة الدولة التشريعية فكان همه: أن يجعل الفقه فصولا مرتبة يسهل الرجوع إليها عند القضاء والاستفتاء، وكان همه أن يكثر التفاريع حتى تقوم بما يعرض ويتجدد من الحوادث. لا جرم كان مذهب أهل الرأي مذهب الفضاء، وكان أئمة قضاة كأبي يوسف، ومحمد. وكان أهل الحديث يعيبون أهل الرأي بكثرة مسائلهم وقلة رواياتهم
وسئل رقبة بن مصقلة عن أبي حنيفة فقال: (هو أعلم الناس بما لم يكن، وأجهلهم بما قد كان، وقد روى هذا القول عن حفص بن غياث في أبي حنيفة: يريد أنه لم يكن له بآثار من مضى) عن كتاب مختصر جامع بيان العلم
ويروى ابن عبد البر في كتاب (الانتقاء) ص 147 (عن الحكم بن واقد قال: رأيت أبا حنيفة يفتي من أول النهار إلى أن يعلو النهار، فلما خف عنه الناس دنوت منه فقلت: يا أبا حنيفة لو أن أبا بكر وعمر في مجلسنا هذا ثم ورد عليهما ما ورد عليك من هذه المسائل المشكلة لكفا عن بعض الجواب ووقفا عنه. فنظر إليه وقال: أمحموم أنت؟ يعني مبرسما)
أما أهل الحديث - أهل الحجاز - فإمامهم (مالك بن أنس) وكانت طريق أهل الحجاز في الأسانيد أعلى من سواهم وامتن في الصحة لاشتدادهم في شروط النقل من العدالة والضبط، وتجافيهم عن قبول (المجهول الحال)، في ذلك
وكتب (مالك) كتاب (الموطأ) أودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه ورتبه على أبواب الفقه
وفي كتاب (تبيض الصحيفة): أن (مالكا) في ترتيبه للموطأ متابع لأبي حنيفة، ومن العسير إثبات ذلك، فان أبا حنيفة ومالكا كانا متعاصرين، وإن تأخر الأجل بمالك وأقدم ما حفظ من المجاميع الفقهية المؤلفة في عصور الفقه الأولى بين السنيين هو (موطأ مالك)
ويقول صاحب الفهرست في سرد كتب مالك:. . وله من الكتب؛ كتاب (الموطأ - كتاب رسالته إلى الرشيد - ص 199
وكانت وجهة أهل الحجاز كوجهة أهل العراق تدوين الأحكام الشرعية مبوبة مرتية، إلا أن اعتماد أهل الحديث على السنة أكثر من اعتمادهم على الرأي، بل هم كانوا يعتبرون الرأي ضرورة لا يلجأون إليها إلا على كره وعلى غير اطمئنان
وقد روى عن مالك: انه قال في بعض ما كان ينزل فيسأل عنه فيجتهد فيه رأيه: (أن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) مختصر جامع بيان العلم ص 192
وكان أهل الحديث يكرهون أن يتكاثر والناس بالمسائل كما يتكاثر أهل الدرهم بالدراهم، وكانوا يكرهون السؤال عما لم يكن، قالوا: إلا ترى أنهم كانوا يكرهون الجواب في مسائل الأحكام ما لم تنزل، فكيف بوضع الاستحسان والظن والتكلف وتسطير ذلك واتخاذه دينا!
وفي (الانتقاء): قال (الهيثم بن جميل): (شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: (لا أدري)
ولم يكن أهل الحديث مع ذلك ينكرون اجتهاد الرأي والقياس على الأصول في النازلة تنزل عند عدم النصوص)
ح - الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث
ظهر الشافعي والأمر على ما وصفنا من نهضة الدراسة الفقهية في بلاد الإسلام نهضة ترمي إلى الوفاء بالحاجة العلمية في دولة تريد أن تجعل أحكام الشرع دستوراً لها
ومن انقسام الفقهاء إلى أهل رأي يعتمدون في نهضتهم على سرعة إفهامهم ونفاذ عقولهم وقوتهم في الجدل. وأهل حديث يعتمدون على السنن والآثار ولا يأخذون من الرأي إلا بما تدعو إليه الضرورة
كان أهل الرأي يعيبون أصحاب الحديث بالإكثار من الروايات الذي هو مظنة لقلة التدبر والتفهم (حكي عن أبي يوسف قال: سألني الأعمش عن مسألة وأنا وهو لا غير، فأجبته، فقال لي: من أين قلت هذا يا يعقوب؟ فقلت: بالحديث الذي حدثتني أنت. فقال يا يعقوب أني لأحفظ هذا الحديث من قبل أن يجتمع أبواك ما عرفت تأويله إلى الآن. مختصر جامع بيان العلم ص 182
فأصحاب الحديث كانوا حافظين لأخبار رسول الله، إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل، وكلما أورد عليهم أحد من أصحاب الرأي سؤالا أو أشكالا بقوا في أيديهم متحيرين. الرازي ص 38
هم ضعاف في الاستنباط وفي القدرة على دفع المطاعن والشبهات عن الحديث
(يتبع)