مجلة الرسالة/العدد 27/دراسات أدبية
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 27 دراسات أدبية [[مؤلف:|]] |
العلوم ← |
بتاريخ: 08 - 01 - 1934 |
ايفان بونين صاحب جائزة نوبل في هذا العام
بقلم محمد أمين حسونة
لم يكن ايفان بونين بالكاتب المغمور أذاع صيته وأنبه ذكره في عالم
الأدبفوزه بجائزة نوبل، بل هو من أقدم الأدباء الروسيين المعاصرين،
وهو يمثل تلك العبقرية المثالية التي نعرفها في تولستوي وتورجنيف
وديستويفسكي
وقد تجلت هذه العبقرية في سمو تفكيره وفي نزعته العاتية بالحياة، وإذا كان مكسيم جوركي يتزعم اليوم الحركة الأدبية في داخل روسيا، فان ايفان بونين يتزعمها في خارجها، تدل على ذلك مؤلفاته القصصية التي نقلت إلى معظم اللغات الحية، ومركزه الأدبي الممتاز الذي يحسده عليه حتى مواطنوه.
ويعد بونين في طليعة كتاب القصة في العالم، ويقوم فنه - كما يصفه جيروم تاردو - على الابتكار والافتنان في الصورة التي بمخيلتنا، وبالأصوات والكلمات التي تطرق آذاننا، والإشادة بتلك العاطفة التي يبررها السرور المنبعث من القلب، وحيث لا تتجاوز أهمية الخير والشر غيرهما مما يحدث في الحياة.
وقد جاء بونين بفكرة كانت تعد غريبة من قبل، وهي أن الفنان يجب أن يكون إلها، لا تحاسبه إلا نفسه، فحياة الفن تتجاذبها عوامل شتى، يتحارب فيها الجميل والدميم، وليس للفنان إلا أن يسمو بفنه فوق هذه العوامل دون أن ينقاد إلى إحدى الطريقتين، وعليه أن يجعل حياته سعيدة طافية.
وتكاد هذه الفكرة التي يدين بها بونين، تبرز من خلال فنه الرائع الذي يبدو قويا في أشكال واضحة بديعة، كما إنها خلاصة أفكاره التي يطالعنا بها في مؤلفاته الخالدة، وقد كتب الجزء الأكبر من هذه المؤلفات بعيدا عن بلاده، وهي تحمل إلى جانب عاطفته المشبوبة وحبه لوطنه، طابع الإنسانية وتحقيق المثل الأعلى، وفي هذا دلالة واضحة على الحيوية الكامنة في ذهنه وقد اعترفت بهذا الأكاديمية السويدية وقدرت هذه العبقرية الحية فذهبت تجوس خلال العالم وتفتش في قرية صغيرة في جنوب فرنسا لتخرج منها إلى الناس الفنان الذي عرف كيف يواجه الخطوب ويصمد زمناً في وجه العاصفة فيحتفظ - برغم فاقته المادية بتلك البهجة الموسيقية التي تواتينا رنانة خفاقة، والتي أمكنها بها أن يثبت للعالم أن العبقرية الروسية لم تغرق بعد وأن كانت السفينة قد غرقت بجميع ما فيها!
ظهرت أول أعمال بونين الأدبية في روسيا، عام 1901 وهي عبارة عن مجموعة أشعار نال عنها (جائزة بوشكين الأدبية) وانتخب بعد ذلك بأربعة أعوام عضوا (بالأكاديمية الروسية) حيث جلس مكان تولستوي وجوركي ودستويفسكي وغيرهم من أعلام الأدبالروسي.
وهو يجيد الإنجليزية إجادة تامة، وقد تعلق بدراسة الأدبالإنجليزي منذ حداثته، وترجم إلى الروسية أشعار كبلنج وتينسون وغيرها من الشعراء الإنجليز
وقد فر على أثر قيام الثورة البلشفية وتسجيل اسمه في القائمة السوداء إلى فرنسا حيث يقيم مذ ذلك الوقت في قرية (جراس) التي يخلص لها الحب برغم انتفاء المشابهة بينها وبين مسقط رأسه كما يقول!
ولأيفان بونين مسحة أرستقراطية في كتابته، ويستوي في أسلوبه الغموض والإبهام احيانا، ويتسم أدبه بدقة الملاحظة واستقصاء الفكرة، وانسجام الخيال، والتواء التعبير، وإسهاب الوصف مما قد يضجر القارئ ويدفعه إلى الممل والتبرم، وهو إلى جانب هذا؛ واقعي، كثير التهكم خاصة عندما يتعرض لوصف غباء الفلاحين من أبناء وطنه كما في روايته (القرية)، واكثر ما نلاحظه في فنه (ترديده ذكر الموت، ووصف الموت وحياة العزلة وروح التصوف التي يطالعنا بها بين سطور رواياته.
وايفان بونين اقرب إلى بوشكين في آدابه منه إلى تولستوي أو ديستويفسكي، ولذا يرتسم خطى بوشكين ويعده أستاذه، ونراه يعترف بهذا فيضع تمثاله الهادئ المفكر على عتبة روايته الجميلة (سر الحب المقدس)
وقد أشار إلى هذا الناقد الفرنسي جيروم تاردوفي خطابه عن (علاقة الأدبالروسي بالأدب الفرنسي المعاصر)، وذلك في الحفلة التي أقامتها أخيرا الجالية الروسية في باريس لتكريم ايفان بونين بمناسبة فوزه بجائزة نوبل فقال:
منذ أن أصدر مليتور دي فوجويه كتابه عن الفن الروائي الروسي، تجلت أمام أعيننا - نحن الفرنسيين - آدابكم الخالدة، وكنا قبل ذلك في حالة جهل ساذج لا نعرف ماذا يكتبون وكيف يفكرون في بلادكم، لا نعلم بوجود تلك العبقرية النادرة التي يمثلها في بطرسبرج وفي موسكو كتاب ومؤلفون ألموا بمختلف نواحي الأدب، وكان من جراء هذا الحدث التاريخي أن تطور الأدب الفرنسي وانتحى ناحية جديدة، فهل هناك روائي فرنسي يستطيع أن يؤكد لنا أنه لم يتأثر بهؤلاء العباقرة في دائرة قوته وذوقه الأدبي
(لقد جاءنا تولستوي بأشياء كانت مجهولة عند أمثال موباسان وفلوبير وستندال، وهي أنه من المستطاع تشييد عمل فني حول مشكلة أخلاقية، وعلمنا دستويفسكي أن في الإنسان شيئا آخر غير الشعور العام الذي أوضحه الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر، بل أنه يوجد في كل فرد منا عالم خاص من الشعور الغامض المظلم دفعنا دستويفسكي إلى أن نستكشفه ونتبينه، أما دروس تورجنيف فلم تكن ثمينة إلى هذا الحد، لانه كما يظهر تتلمذ على الأدبالفرنسي ولكن فنه الرائع كشف لنا عن عقليتكم وشعوركم وطبيعتكم.
(وإلى جانب هذه الأسماء العظيمة، يجب أن أضيف اسما آخر، فليس كتاب دي فوجويه وحده هو واسطة التعارف التي بيننا وبين هؤلاء الكتاب، فهناك بريميه الذي يحدثنا عن بوشكين ذلك الفنان الملهم والشاعر الروسي المحبوب، الذي اتضح لي بعد قراءته أن هناك صلة وثيقة بين فنه وأدب ايفان بونين، ذلك الفن الذي يذكرنا - نحن الذين تسممنا بأفكار علماء النفس وعلماء الوعظ - بأنه لا حاجة بنا مطلقا إلى خلط الخير بالشر)
كتب ايفان بونين إلى الآن نحو عشر روايات كلها تفيض بالنزعة الانسانية وتحقيق المثل الأعلى، منها: كأس الحياة، والليل ورجل من سان فرنسسكو، وسر الحب المقدس، ثم (القرية) التي يقول عنها مكسيم جوركي إنها (خير ما كتبه الروائيون عن الفلاح الروسي) والتي أنصف فيها بونين هذا الفلاح - الذي لم تغيره النظم الحالية - خير إنصاف، لأنه إذا كانت القيصرية قد ظلمته، فان البلشفية غمطت حقه وازدرته في الوقت الذي شادت فيه ورفعت من شأن العامل هناك.
وقد أخرجت المطابع في الفترة الأخيرة، رواية بونين الخالدة (حياة ارسنيف) ومن المؤكد أنه نال بها وحدها (جائزة نوبل)، وقد وصفها أحد النقاد بأنها عبارة عن حياة بونين نفسه، ولكن بونين يدفع هذا يقول:
ان (حياة ارسنيف) تشبه إلى حد ما تاريخ حياتي، ولكنها في نظري اقرب إلى الرواية الحقيقة، ومع ذلك فإني إذا كتبت فإنما استقى فني من ذاكرتي، وهذا ما يجعل بعضهم يظن أني سردت تاريخ حياتي في هذه الرواية. ومما يشجعني على العمل أن المرئيات التي صقلت في ذهني بمرور الزمن هي التي تدفع بي دائما إلى ترديد ذكريات عن الطفولة والشباب والكهولة.
(ويمكن لأي كاتب تعرض لنقد (حياة ارسنيف) أن يطلق عليها اسم (حياة دورانت) أو (حياة ديبون) أو حياة أي شخص آخر، فهي حياة فقط، وحياة رجل في دائرة ضيقة جاء إلى العالم يبحث عما كان بين الملايين من لداته، فهو يعمل ويشقى ويحب ويريق دمه ويجاهد من أجل سعادته فينهض أو يرزح تحت حمل الحياة).
وليس لايفان بونين اتجاه أدبي آخر، بل هو يردد ما سبقه إليه جيته عندما سئل من أنت؟ فأجاب: لا أعلم. . . وأنا سعيد بذلك، فأنا رجل حر وحسب. . . نعم إنني لست جيته، لكنني رجل حر مثله، ومحب لمهنتي، برغم الصعوبات المحيطة بها، إذ إنها تتيح لي حرية العمل والإنتاج وحرية امتلاك نفسي، وقد سافر بونين في أوائل هذا الشهر إلى استكهلم حيث تسلم جائزة نوبل، وسيعود بعد ذلك إلى قرية (جراس) التي ينوي إلا يتركها حتى ينتهي من كتابة الجزء الثاني من (حياة ارسنيف).