مجلة الرسالة/العدد 27/القصص
→ تأزين الهواء | مجلة الرسالة - العدد 27 القصص [[مؤلف:|]] |
وجه صالح للسينما ← |
بتاريخ: 08 - 01 - 1934 |
الحقيقة
للآنسة سهير القلماوي ليسانسييه فى الآداب
(هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟)
(قرآن كريم)
تململت في فراشها وظلت تنظر ذات اليمين وذات الشمال ثم تغمض عينيها وتفتحهما ثانية وتفكر أين هي هيه. . . أين هي؟. . . آه! هي في المستشفى، وقد جاءت إليها منذ أيام؟ منذ أسابيع؟ منذ شهور؟ لا تدري. ولكن لم جاءت؟ يقولون إنها مصابة بمرض عقلي أنهك أعصابها. وحياتها في خطر من جرائه. ها ها! مضحك! أهذا كل ما في الامر؟. . . ولكن أين أختها؟ لقد كانت جالسة هنا منذ حين، ولقد أوصتها أن تكتب كل ما تمليه عليها، ولكن الظاهر انه لم يكن هناك ما يملى فقامت. وضحكت ضحكة عصبية عالية. ها ها! الساذجة! إلا تدري إن رحلاتي في عالم الأرواح اصبح يحوطها جو من غريب، جو يقبض الأنفاس فلا أستطيع التحرك ولا التكلم ولا. . . ولا التفكير. . ترى هل أوفق؟ أعينيني أيتها القوى الخفية، أعينيني، ارحميني، فما في مطالبي إجحاف ولا ظلم ولا طمع. كل ما أريده هو أن اعرف الحقيقة.
دخلت الأخت ودلائل السهر بادية عليها: اصفرار في الوجه، وورم في العينين، وخمول ووهن في الأعصاب.
(أين كنت؟ آه من لي بهذا الاطمئنان، بل هذا البرود الذي يسود حياتك. أنت لا تعرفين عما أريد أن أعرف شيئا، ومع هذا أنت لا تأبهين بشيء. إيمان مطلق وهدوء تام. ثم هؤلاء الأولاد، أولادك ماذا علمتهم عن الحياة، عن الموت، عن الله، عن الحساب، عن الروح. . . لا شيء، لا شيء، لأنك لا تعلمين شيئا، ولا تردين أن تفكري لتصلي إلى شيء)
(كفاك أختاه ما أنت فيه من وهن الأعصاب. أريحي رأسك قليلا. لقد شغلت هذه المسائل رؤوس آلاف الناس قبلك، وستشغل رؤوس آلاف الناس بعدك. ولن يوفق إليها أحد لأن الله أراد ذلك، وإرادة الله ليس لها مرد.) فصاحت فيه (لم بنه الله عن البحث والتفكير، ولم يأمرني إلا اعرف شيئا عن هذه الاشياء، اقتربي هنا، ماذا كتبت؟ لا لا أريد شيئا من هذا، اكتبي ما أمليه عليك كله، اكتبيه رسالة مني إلى أهل هذا العالم كلهم، سأعرف الحقيقة اليوم، ستقودني إليها قوة خفية لا أعرف عنها شيئا الآن ولكني سأعرفها بعد حين. إياك أن تفوتك كلمة واحدة أو إشارة واحدة. أفهمت؟)
(نعم اختاه، سأكتب كل شيء)
لقد كانت دائمة الصمت كثيرة التفكير. اتسعت دائرة تفكيرها على مدى الأيام حتى شملت اعوص ما فكر فيه الإنسان وأغمضه. ولم تصل إلى العشرين من عمرها إلا وشغل تفكيرها هذا الكون بما فيه من قوى خفية. قوى تتلاعب بالإنسان كيفما شاءت، وهو لا يدري من أمرها شيئا. يحاول ويحاول ولكن سرعان ما يعرف ضآلة المرحلة التي اجتازها أمام ذلك الخصم المظلم من الأسرار والخفايا.
أشفقت عليها أمها مما هي فيه، وحاولت أن تدخل إلى تلك النفس المفكرة الصامتة الحزينة بعض ما يسليها أو يريح فكرها، ولكن نصيبها كان الفشل المؤلم.
وهاهي ذي الأيام تجري سريعة والأم يزداد اشفاقها، وخوفها والفتاة يزداد نحولها وضعفها، ويزداد احتقارها لكل شيء في العالم إلا ما تفكر فيه. كل متعة تنظر إليها كما ينظر الشاب إلى ألاعيب صباه، وإذا ما رغبها أحد في أي لذة أو سلوة هزت كتفيها وقالت:! (لست أدري ما هذه السذاجة؟ لقد القي إليكم مدبر هذا الكون بهذه الألاعيب لتلهوا بها عن اللذة الكبرى: لذة العلم، لذة معرفة الحياة وما بعدها.)
ساءت حالها على مر الأيام فأرغمت على ملازمة الفراش في مستشفى الأمراض العقلية، ولكن ذلك لم يمنعها من مواصلة التفكير. وكثيرا ما قرأت في كتب الدين، وكثيرا ما قرأت القرآن، تقف عند بعض آياته فتسترسل في التفكير العميق، وكثيرا ما وقفت عند الآية (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وحملت الآية أكثر ما يمكن من معاني الاستهزاء والسخرية (وهؤلاء الناس لا يعلمون شيئا، ولكنهم لا يجتهدون في أن يعلموا شيئا. قنعوا بما لهم وفسروا العلم بتلك المحاولات التافهة التي يقضون العمر في تحصيلها وكأنها هي العلم، لقد انشغلوا عن العلم الحق، عن أهم ما يتشوقون إليه. لقد خدعوا أنفسهم والبسوها ثوبا من الإيمان والاطمئنان وهم يعلمون في قرارة نفوسهم انه ليس إلا مبردا للنار المتقدة، وملطفا لهذا التطلع الغريزي)
جلست الأخت قرب سرير أختها وأخذت تلاحظها وتدون بعض هذه الملاحظات، وانتظرت والقلم في يدها أن تكتب ما تمليه عليها كما وعدت، ولكن النعاس غلبها فنامت. لم يطل نومها حتى قامت فزعة مذعورة على صوت أختها المحشرج وهي تصيح صيحة منكرة قائلة (لن تفتر عزيمتي مهما سرت، فسر بي أيها النور، سأتبعك، سأتبعك فوق الجبال، في أعماق الانهار، في السماء، في جوف الأرض تعلو وتنخفض ولكني اتبعك. لن ارجع كما رجعت قبل يوم، ولن انظر إلى نفسي فتشغلني عنك، سر أنا وراءك.)
كتبت الأخت واستمرت هي تقول (بدأت افهم، نعم عرفت، ولكني لا أقوى على التعبير عما اعرف، لماذا!؟. . . . كلا لن أفكر في هذا، سر، سر، أيها النور إني وراءك، آه ألهذا إذن نموت ولهذا إذن نحيا، نعم ولهذا يجب إلا نعرف، فهمت، عرفت، ولكن يجب أن اعرف أشياء اخرى، يجب أن اعرف السر الأعظم سر سر، إني وراءك.)
(نعم لقد عرفت كل هذا ايضا، ولكن كيف أعبر عنه؟ فلأحاول فلأحاول، لا، لا أقوى سأعبر عندما أعود إلى هذا، إلى ماذا اسميه؟ إلى هذا الملعب، إلى روضة الاطفال، إلى ما يسمونه العالم. ها! ها!
(لقد أعياني السير، أما آن لي أن اعرف الله، أن اعرف القوى المهيمنة على كل شيء، على كل ملاعب الأطفال هذه، ما اكثر عددها وما اشد اعتداد كل منها بنفسها! كأن ليس هناك سواها. لقد عييت، ولكن كلا كلا، سأسير، سر إني وراءك. . .
(رهبة شلت حواسي، لقد امتزج هذا النور الذي انبعه بالظلام حوله، ولقد كانا قبل يزيد كل منهما في قوة الآخر. . جو غريب لا هو ظلام، ولا هو نور، شيء ثقيل ينزل على رئتي، الكلام عسير، والتنفس شاق. . . . .
ستار هائل عظيم أمسكت بطرفه يد خفية. سيزاح هذا الستار دون شك ووراءه الحقيقة الكبرى. كل ما في ينبض بذلك. ازداد الثقل على رئتي. . . لا أستطيع التكلم، الستار يزاح، التنفس عسير عسير، لقد قضي كل شيء، سأعرف سأعرف، سينزل الستار، هو ينزل بالفعل قليلا. . قليلا، سأعرف سأعرف، قليلا، بطيئا، لقد عر. . . فت. . . . آه.
ودوت صرختها قوة كالرعد مرعبة محشرجة، ثم ساد الصمت، صمت عميق، عميق رهيب مخيف، وقفت الأخت عن الكتابة فزعة مذعورة ولكنها لم تقو على تحريك رأسها ناحية أختها المريضة، حاولت أن تنادي فلم تفلح، وأخيرا أدارت رأسها فصرخت هي الأخرى صرخة مروعة، أمامها عينان جاحظتان خيل إليها انهما فصلتا من الرأس، وانهما كل شيء على الفراش. وحولهما عروق نافرة زرقاء متوترة مشدودة أغمضت عينيها وفتحتهما مرة ومرتين، وأخيرا استطاعت بعد لأي أن تمد يدها لتلمس الجسد أمامها، فردت يدها قشعريرة شديدة مكهربة، ودوى صوت هائل رن في أذنيها. تبينته فإذا هو ضحك استهزاء، ضحك غريب الصوت متواصل، وكأن آت من عالم آخر، ليس لها به عهد، ضحك، بل إغراق في الضحك، ثم ماذا؟ صوت كلمات، صوت هادئ رزين ولكنه مسموع برغم هذه الضحكات الهازئة العالية المتواصلة. ماذا يقول؟ ماذا؟. (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟)
سهير القلماوي