مجلة الرسالة/العدد 266/غزل العقاد
→ جورجياس أو البيان | مجلة الرسالة - العدد 266 غزل العقاد [[مؤلف:|]] |
حول أدب الرافعي ← |
بتاريخ: 08 - 08 - 1938 |
للأستاذ سيد قطب
- 15 -
لقد جهد أخونا الغمراوي أن ينقض ما قلت عن الرافعي فجاء بمغالطات لم يعصمه منها ما يتشح به من دين وخلق محتكرين للرافعيين وأغاليط يعرفها طلاب المدارس الثانوية عن المعادن وخواصها! ثم لم يبلغ بعد الجهد والعرق المتصبب إلا كما يبلغ من تقول له: إن هذه المسألة ليست من الرياضيات العالية، فهي مسألة على (القواعد الأربع الأصلية) وحلها هو كذا. فيأتي لك بحل آخر، ويظن أن ذلك يخرجها من الحيز الضيق، حيز القواعد الأصلية، إلى مجال الرياضيات العالية
ذلك شأني وشأنه في تفسير كلام الرافعي، وربما كان ختام هذه المقالات، تفكها بتلك (الغمراويات) والأمر لله!
على حدود تعريفنا للشاعر الكبير، التقينا البارحة بالعقاد في حديثه عن الجمال، ونحن بالطبع لم نستقص ما قال، ولكنها نماذج تبين الوجهة، وتكشف عن المعدن، وسيأتي غيرها في (غزل العقاد)
وهانحن أولاء نلتقي به اليوم كذلك في حديثه عن (الحب) على هذه الحدود، بل نلمحه وراءها ببعيد، يهضب في خطواته الجبارة، وهو ما يكاد يلقي باله إلى الزواحف والفواحص حوله من المتظلعين على الطريق!
فما الحب عند شاعرنا الكبير؟
إنه لن يقف به عند اللهفة الظامئة، أو الفورة العارمة، ولا عند الحنين والدموع، أو الفرحة والاستمتاع. فللحب بعد هذا وذلك وشائج بالحياة الكبرى، ومسارب في الكون والطبيعة، ومدارج وملاعب في ساحة الخلود
وليس هو إحساساً في نفس فرد، ولكنه فورة وقوة في نفس كون، ودفعة ومضطرب في ضمير دنيا، وحياة وحركة في قلب وجود
وليس هو مصادفة عابرة، ولا فلتة غير مقصودة، ولكنه نظام وقصد، تهيئهما الأقدار لبلوغ مآرب وغايات، ولتحقيق آمال وخيالات والنفس الكبيرة التي يحملها العقاد، والقلوب المنفسحة التي وهبت لأمثاله، إنما هي معارض يبدي فيها هذا الحب فنونه ويلعب أدواره ويقرب فيها من غاياته، ويحقق أحلامه في أنسب الظروف والأحوال!
فالحب تمهيد للخلود، ومران على حياة الخالدين، حتى لا يفاجأ القانون بهذه الحياة، على بعد النقلة والشقة بين الحياتين!
هذي الليالي الدنيوية نفحة ... من عالم الملكوت والأعراف
لولا النعيم بها لما خطرت لنا ... مُثلُ النعيم بجنة ألفاف
ولهذا يتيقظ المحبون، ويعافون النوم. أليس النوم راحة لأهل الفناء من المتاعب وتجديداً لقواهم المنخذلة في كد العيشة، فما شأنه في اللحظات المقبوسة من النعيم الخالد
يقظة الحب من خلود وماذا ... يصنع النوم بين أهل الخلود؟
وإذا ذقت من موائد هذا الح ... ب فالنوم من فتات العبيد
والحياة والأحياء، إنما كانوا ينزعون للخلود، ويبتغون الدوام، فلما عز عليهم المطلب، وأبت طبيعتهم ما يطلبون، عوضوا عنه بالحب، فكان عوضاً كاملاً شائقاً تمناه الخالدون!
ما الحب، ما الحب؟ إلا أنه بدل ... من الخلود فما أغلاه من بدل
نزهي به حين يزهى الخالدون بما ... نالوه من أبد باق ومن أزل
داموا فلما تقاضينا الدوام لنا ... قالوا لنا: (حسبكم بالحب من أمل)
داموا وقد حسدونا في سعادتهم ... على السعادة بين الموت والقبل
وفي هذا الإحساس الفريد، يلتقي الشاعر الكبير، بالعالم المفكر، بالفيلسوف العظيم، وتصح نظرة كل منهم في الحب، وغاية الطبيعة منه، وذلك حد العبقرية في الفنون
ويصح أن نتبع بما سبق قوله:
أتحلمين بشيء كامل أبداً ... أتم من عالم في قلب حِببن؟
(فالكمال) المنشود في الحب صنو (الخلود) أو غايته أو وسيلته: فهو صنوه لأنه غرض مثله من أغراض الحياة؛ وهو غايته، لأن الحياة إنما تريد الدوام لتتهيأ به للكمال؛ وهو وسيلته، لأن الحياة لن تنال الخلود وهي ناقصة متحيفة الجوانب والأجزاء وهو هذا كله في حس الشاعر الملهم بما في ضمير الأكوان والآباد ويكمل هذه النظرة ويشرحها حديثه في كتاب (مراجعات في الآداب والفنون) في فصل: (الزهر والحب):
(لقد تعودنا أن نحسب العلاقة بين الذكر والأنثى أصلاً الحب بجميع صنوفه وألوانه، ولكنا إذا واجهنا الحقيقة من وجهة أعم وأعمق، تبين لنا أن هذا الحب بين الذكر والأنثى هو فرع طارئ من أصل إلهي قديم شامل للموجودات، مستقر في طبيعة الوجود، هو حب الكمال والدوام، وليس الحب بين الذكر والأنثى غاية في ذاته، وإنما هو واسطة من وسائط هذا الحب الأصيل)
والحب قد احتضن الحياة وهي جنين، حتى إذا برزت للوجود أخذ بيدها وقادها في مسالك الطبيعة، وحاول أن يسمو بها عن منبتها وينزع بها إلى الخلد والسماء:
هي الحياة جنين الحب من قدم ... لولا (التجاذب) ما ضمتك أكوان
والتجاذب بين (الإلكترون) و (البروتون) يقوم عليه بناء الذرة، فتبني على أساسها الأكوان. ولم يكن العقاد في حاجة للعلم بهذه النظرية التي أثبتها أخيراً (تحطيم الذرة) ليقول إن الحياة جنين الحب، ولكنها الشاعرية الكبيرة تنساح في تيارها العلوم والثقافات حتى تعود جزءاً منها لا ينماز عن طبيعتها وماهيتها
والحب يقود هذه الأرض، وينزع بها عن منشئها، ولهذا ينادي ربان الزورق النائم، وهو في سبحة من سبحات الحب:
نام رباننا وهمنا بعيداً ... فامض يا فلك في يدي (كوبيد)
وأتّبعه فالكون أجمع يا فل ... ك لَقي في يمين هذا الوليد
هو ربان هذه الأرض فأمن ... هـ على ملكك الصغير الزهيد
وتعلم منه عبور السموا ... ت فما دون سبحه من بعيد
وإذا كان الجمال كما قدمنا آنفاً هو خلاصة آمال الوجود وأشواقه، فحب هذا الجمال حب للوجود، ما كان منه ومن كان. والمعانق للجمال معانق للفضاء بأسره بما فيه من أنواع وأطماع. ومن يعش في بحبوبة الحب فإنما يعيش في الكون كله، فهو مدار العالم. يتضح كل ذلك في قصائد متفرقة:
إنا لمن معشر حب الجمال لهم ... حب لما كان في الدنيا ومن كانوا وأنا المعانق للفضاء بأسره ... في جسم أغيد كالندى شفاف
نحن في بحبوحة الحب وهل ... غير هذا الحب في الكون مدار؟
والحب رفعة للنفس؛ ونقلة إلى عالم النجوم، وعمق في الحيوية تطول به الأعمار، وإيغال في المجاهل والآباد والعهود والأزمان
كم علونا من دارة بعد أخرى ... وطوينا العهود بعد العهود
والحب من يغش ركبه ... يساير النجم كل حين
لحظة ترفع عمري ... حقبا متصلات
ربّ عمر طال بالرف ... عة لا بالسنوات
لحظة لا بل خلود ... لاح بين اللحظات
كالسموات تراها ... في شباك الحلقات
رب آباد تجلت ... من كوى مختلفات
وقطيرات زمان ... ملأت كأس حياة
وأنني لأكتفي في هذه النماذج، بما سقتها من أجله؛ وإلا فوراء هذا مجال واسع لبيان الطرافة في الحس والتعبير، في رؤية الخلود من خلال هذه اللحظات، كالآباد تتجلى من كوي مختلفات أو كالقطيرات التي تمتلئ بها الكأس، وهي قطيرات زمان فاضت بها كأس حياة. . .
والحب قدرة قادرة، تهب أصحابها مشابه من الألوهة، ومقابس من النبوة، وتنضح بالمعجزة. لا، بل إنها لتهب في بعض الأحيان ما لا تهبه الأقدار:
ليس مكان في السماء كلها ... عن شاعر أو عاشق بناء
بجناحيه من الحب ومن ... حسنك الخفاق ينجاب الفضاء
داوني داوني فقد كان عيسى ... يبعث الداثرين بالأسماء
وكلا الحب والعبادة وحي ... فوق ذرع الحجا وفوق الذكاء
أمسيت أنظر لا أرى أمنية ... كبرت وما خلقي بالاستخفاف
تبسم ألا يرضيك أن ابتسامة ... بثغرك أمضي من صنوف المقادر
والحب بهذه القدرة يجمّل الحياة ويجددها، ويخلق منها دنيا بعد دنيا، وكوناً وراء كون: أنظر فهل تجد المروج كعهدها ... من قبل في الحدقات والآناف
وهي السماء أم ارتقت أجوازها ... في النور آلافاً على آلاف؟
ويقول في أبيات بعنوان (معنى جديد):
قد شهدتُ الزمان في كل وجه ... وبلوتُ الحياة في كل معنى
وختمت الدنيا! فما من قديم ... كان إلا يعاد وصفاً ولوناً
فإذا للحياة معنى جديد=لم نجده من قبل أو لم يجدنا
ذاك معناك أنت حين وهبت ال ... قلب نوراً من طلعة الشمس أسنى
ومنحت الحب الإلهي حبَّا ... وكسوت الحسن السماوي حسناً
وفي قصيدة بعنوان: (جمال يتجدد)
كما قلت لي الربيع جميل ... قلت حقاً وزاد عندي جمالا
عجباً لي. بل العجيبة عندي ... صور الكون كم يسعن كمالا
خلتني قد وعيتهن عيانا ... وتتبعت من وَعوها خيالا
شاعراً عاشقاً وقارئ كتب ... قرأ الكتب دارساً، فأطالا
فإذا نظرة بلحظك تبدى ... صوراً ما طرقن عندي بالا
بعداد الأنوار في أعين الحُ ... بِّ نعد الأكوان والأجيالا
وبعض هذا كان يمكن سوقه في معرض الحديث عن (الجمال) ولكن التفرقة بين حديث الحب وحديث الجمال في النفس الشاعرة ليس بمستطاع في كل الأحوال، وكلاهما مادة واحدة في الحس والخيال
ويحسن أن نتبع حديث الشعر بحديث النثر، وكلاهما يتساوق ويتكامل في فن العقاد. يقول في كتاب المراجعات من فصل بعنوان: (أصل الجمال في نظر العلم):
(ومما لا مراء فيه أن الحب يرينا من فتنة الحياة مالا نراه بغيره وأن جمال المرأة أغلى محاسن هذه الدنيا المشهودة. بيد أن الحب لا يخلق فتنة الحياة؛ وليس جمال المرأة هو كل ما في الدنيا من المحاسن، ولكنهما يصبغان الدنيا بهذه الصبغة لأنهما يوقظان القلب ويذكيان الشعور ويبعثان كوامن الوجدان فيفتح لما حوله، ويرى ما لم يكن يراه، ويستوعب ما كان يلمحه بطرف العين، ويستحسن ما كان في غفلته عن حسنه قبل أن تتراءى الدنيا لخواطره في ثوبها الجديد. وكذلك تفعل الخمر حين تركض بالشعور وتلهب الدم فإنها تري النشوان من المحاسن ما لم يكن يراه في صحوه وتضاعف إحساسه وعطفه فيشعر بسرور هذا العطف في داخل نفسه ويشعر في الدنيا ببهجة تخفي على من حوله؛ ولذلك قيل إن الحب سكر أو أنه ضرب من الجنون)
والحب ملخص للأحاسيس الإنسانية في نفس الشاعر
غض عينيك قليلاً واستعد ... خطوات العام في الأفق الوسيع
كم ترى من خفقة غنت بها ... ساعة العمر التي بين الضلوع
كم ترى من قبلة رنت بها ... تلكم الساعة؟ قل لو تستطيع
كم ترى من نشوة حامت بنا ... حول عليين والعرش الرفيع
هو (حب) فإذا فرقته ... فهو ما راع قديماً ويروع
ووراء دلالة هذه الأبيات على ما أوردناها له تلمح ملكة التشخيص والتصوير، وهي تعمل عملها في نفس الشاعر وتخلق له من لحظات حبه شخوصاً ماثلة في ضميره، يغمض عينيه عن الدنيا الظاهرة ليتملاها ويستمتع بها واحدة واحدة، ويعمق بهذا متعة الحب، ويجوف خطراته
ولا ننس وراء ذلك كله هذا الخيال الطريف الذي يصور (العام) وهو يخطو في الأفق الوسيع، مرموقاً باللحظ والانتباه والإعجاب!
والحب معلم، يهب الحس فطانة، والروح نفاذا، والفكر يقظة، وفيه مهرب من الحياة إذا ساءت إلى دنيا جديدة:
إذا ساءت الدنيا ففي الحب مهرب ... وتحسن دنيا من أحاط به الحب
فبالحب تدري الحسن والقبح عندها ... وفي الحب علم لا تعلمه الكتب
والحب هو الذي يعمر القلب ويحييه، وحين يخلو القلب منه ينتهي إلى عالم خراب، وجدب كجدب اليباب:
هو الحب الذي يع ... مر هذا القلب لا المجد
حبك إن أخل منه يوماً ... خلوت في عالم خراب
يمر بي اليوم لا أراك كما ... يمر بالأرض عامها القاحل وهو ليس دموعاً ولا آهات، وليس ابتسامات وتثنيات:
إنما الحب شراب عاصف ... يسكر الراوين منه والظماء
لهذا كله فالكون والحياة حفيان بالحب، يستقبلانه بما فيهما من سرور وابتهاج، ويهيئان له من الطرافة والجدة كل ثمين مذخور، ويبذلان له من كنوزهما وأسرارهما ما لا يباح، ويعترفان بحقه عليهما وفضله:
وهو يقول من قصيدة عن يوم لقاء:
قال: سيوفي زائراً في غد ... يا لغد! كيف غد يشرق
بالشمس؟ أم شمس غد وحده ... مذخورة من أجله تخلق
كيما نرى الدنيا، وما شأنها ... سربالها المبتذل المخلق
في حلة لا تتحلى بها ... إلا لمن يَعشق أو يُعشق
وفي قصيدة بعنوان عروس الليالي:
عروس الليالي تهبط اليوم من عل ... وتدنو على طول النوى والتدلل
سرت بين شرق من ضياء ومغرب ... وبين جنوب من ضياء وشمأل
ولما سألته الحياة جواز المرور بها، لم يجد أحظى لديها من الحب يفتح منها المغاليق والستور:
قالت جوازك قلت هاك ... حب أنال به رضاك
فدخلت في حذر الحيا ... ة وراء ألفاف الشباك
هذا هو (الحب) عند العقاد: عالم مترامي الأطراف، وفن من أعجب فنون الحياة، ومجال للخيال والحس والتعبير على غير مثال
ونحن نعيدها مرة أخرى: لو أن شاعراً قال هذا وسكت لجاوز حد الشاعر الكبير
وعلى هدى من رأيه في الجمال، ورأيه في الحب، سنتحدث عن (غزل العقاد). وإن كان كثيرون سيتساءلون الآن: ماذا سيقول غير ما قال؟ وسنجيبهم بعد قليل: تلك أوليات المقال
(حلوان)
سيد قطب