الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 266/حول أدب الرافعي

مجلة الرسالة/العدد 266/حول أدب الرافعي

مجلة الرسالة - العدد 266
حول أدب الرافعي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 08 - 08 - 1938


بين القديم والجديد

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

- 6 -

لعل من الخير أن ننظر نظرة في الأمور التي تشبه أن تكون أصولاً في النقد عند صاحب مقالات (بين العقاد والرافعي) والتي يمكن استنباطها من كلامه

ولعل من أبرز هذه الأصول ما يصح أن يسمى بالعلمية. ولسنا نريد بالعلمية هنا علمية التفكير، فقد وزناه من ناحية علمية التفكير فلم نجده منها في شيء؛ إنما نريد بها هنا علمية الأفكار. فصاحب تلك المقالات معجب جداً فيما يبدو بالعلم وبما يمكن أن يدخله الأديب في أدبه من النظريات والحقائق العلمية. تعرف ذلك من طبيعة أكثر الأمثلة التي ضربها لتفوق العقاد عنده على الرافعي، وتعرفه من تجشيمه نفسه قراءة ما قرأ من المباحث العلمية المنقولة إلى العربية كي يرقى كما يقول إلى محاولة استيعاب العقاد. وهذه النزعة إلى العلم تشكر فيه لولا ما يفسدها عليه في الموضوع الذي هو بصدده من تعصب للعقاد يجعله يتلقى كل ما يرد أو يتوهم أنه ورد على قلم العقاد من الأفكار العلمية كما يتلقى الوحي بالتسليم والإكبار المطلقين

والمثال الأول الذي ضربه لاحتياج الناظر في أدب العقاد إلى ألوان من الثقافة كالتي استمدها هو من قراءاته العلمية قطعة من (وحي الأربعين) عنوانها (سعادة في قمقم). وقد تساءل بعد أن ذكر أبياتها التسعة (هل فهم الرافعيون شيئاً من هذه القطعة مع وضوح كل لفظة فيها وكل عبارة؟). وما نظن الرافعيين أو غير الرافعيين يفهمون من مرماها شيئاً حتى يبلغوا البيت السادس منها

بسر على شفتي فاتن ... يباح إلى شفتي مغرم

وهو بيت رقيق ليس في القطعة كلها مظهر للشاعرية غيره، إذا بلغه القارئ ظن أن القطعة كتبت في قبلة، لأن السر الذي يباح إلى شفتين لا يمكن أن يكون غيرها. حتى إذا بلغ القارئ البيت الثامن وما أنا بالمشتهي قبلة ... ولا بالحريص على مغنم

زال عنه كل شك في المراد من القطعة كلها، وإن بقي حيث كان من صعوبة توجيه القطعة إلى المعنى المراد كما يصعب أحياناً على قارئ اللغز حتى بعد عرفانه الحل أن يطبق لفظه على الشيء المقصود!

ولكي يشاركنا القارئ في تقدير القطعة نوردها له وإن شغلت مكاناً.

هنا قمقم سابح في الدم ... أسائل عنه ولم أعلم

جهلت خباياه حتى أتى ... عريف الطلاسم بالمعجم

ففيه كما قيل مسجونة ... سعادة بعض بني آدم

تجن جنوناً بنور الضحى ... وتذبل في حبسها المظلم

وقد زعموا أن إطلاقها ... رهين بهمة ذاك الفم

إلى هنا لا نظن قارئاً مهما بلغت ثقافته من التنوع والعمق، وبلغ هو من الاستعداد الطبيعي، يستطيع أن يدرك من هذه الأبيات معنى واضحاً، أو أن يقول إن المقصود بها هو قبلة حتى يقرأ عقب ذلك:

بسر على شفتي فاتن ... يباح إلى شفتي مفرم

فهل أنت مطلقها منعماً ... فديتك أم لست بالمنعم؟

وما أنا بالمشتهي قبلة ... ولا بالحريص على مغنم

ولكنما أنا أبكي أسى ... لتلك الشهيدة في القمقم

فليس في القطعة كما ترى ما يدل على المراد منها غير البيتين اللذين ذكرنا. والآن وقد عرفت المراد هل تستطيع ولو بشيء من التعسف أن تطبق القطعة على القبلة المطلوبة؟ سيد قطب يقول إنك تستطيع بشرط أن تعرف نظرية فرويد في العقل الباطن، وأن تكون على استعداد لأن تحس (بأن النوازع والرغبات المكبوتة في النفس، والأشجان والبلابل والاضطرابات التي تعتريها إبان ضرام الحب، تظل تعتلج في النفس وتقلقها وتهزها هزا كمواد البركان المكتوم حتى ينفس عنها ويتاح لها التعبير فإذا هي سعادة وهدوء وراحة.) (وكيف يكون التعبير؟ يكون بقبلة على شفتي فاتن تبيح السر إلى شفتي مغرم، وعندئذ تنطلق تلك الشهيدة في القمقم التي يبكي لها أسى). فهل تستطيع الآن بعد هذا التفسير الطويل المبني على نظرية فرويد في العقل الباطن أن تطبق أبيات القصيدة على القبلة المقصودة فتقول مثلاً ما هو ذلك القمقم السابح في الدم المسجونة فيه تلك الشهيدة؟ أما نحن فلا نحسب أحدا في حاجة إلى نظرية فرويد أو غير فرويد في العقل الباطن أو الظاهر ليعرف أن رغبات الحب التي يتلهف إليها تؤلمه قبل تحققها فإذا تحققت هدأ وارتاح وسعد زمنا ما، ولا نحسب معرفة ذلك تحتاج إلى استعداد خاص في أحد، فكل إنسان يدركه في نفسه، حتى الطفل لو نطق وأحسن التعبير لقال إن ذلك كذلك، وفي دموعه قبل تحقق كل رغبة شديدة وابتسامه أو ضحكه بعد تحققها ولما تجف دموعه ما يغني عن كل نطق وتعبير. لكن صاحبنا ذا الثقافات يزعم أنك لا تعرف ذلك إلا إذا كنت ذا استعداد خاص وتثقفت بنظرية فرويد!. ليكن ذلك. فكيف يمكن فهم تلك الأبيات إذن في ضوء نظرية فرويد؟

إن أقل ما يطلب في الشعر الجيد ذي المعاني العلمية المتراكبة أن يحتوي على إشارات واضحة تكون مفتاحاً إلى تلك المعاني لمن يعرفها، بحيث إذا توجه الذهن إليها بدأ يدرك المعنى العميق المقصود، ولا يزال ذلك المعنى يزداد وضوحاً وتفصيلاً بالإشارة بعد الإشارة، والقرينة جنب القرينة، حتى يرتفع كل شك فيه، ويلبسه الكلام كأنما كان مقدراً عليه. لكن هذه القطعة فيها إشارات تصرف الذهن عن معناها إذا كان معناها هو كل ما ذكر سيد قطب. وأول ما تلقى فيها من هذه الصوارف هو هذا القمقم السابح في الدم، فانك تحاول جهدك أن تجد له تفسيراً حتى بعد معرفتك مرمى القطعة فلا تستطيع.

ثم ليكن ذلك القمقم ما يكون، فعند أي طرفي الحب هو! إن كان عند المحب فهو لا شك يعرف رغبة نفسه ويعرف طريق التعبير الذي يريد، فلا حاجة إلى معجم عريف الطلاسم ليحل له اللغز. وإذا كان القمقم للحبيبة وكانت سعادته هو مسجونة فيه - كما هو الأقرب إلى المعقول - قام تفسير السيد قطب وتطبيقه نظرية فرويد حائلاً دون ذلك، إذ تصبح النوازع والرغبات المكبوتة هي نوازع الحبيبة ورغباتها، فكأنها هي التي تشتهي القبلة لا هو، والشعر صريح في أن عكس ذلك هو المقصود.

فالقطعة كما ترى متخاذلة متضاربة إن حاولت أن تطبق عليها كل علم سيد قطب، وأن تفهم منها بالعقل ما فهم هو منها بالوهم. أما إذا تركت النظرية العلمية جانباً وحاولت أن تفهم من القطعة مرادها في بساطة بدليل البيتين اللذين ذكرنا لك، أصبح للقطعة معنى مفهوم على غموض فيه وعيوب فيها. فما دام المطلوب هو قبلة من الحبيبة فيها سعادة المحب، والحبيبة هي التي تملك منحها من فمها الشبيه إلى حد ما بالقمقم، أمكن توجيه القطعة وتبرير الشاعر إلى حد كبير في تخيله أن سعادته المتمثلة في قبلة من حبيبته محبوسة في فم تلك الحبيبة حتى تطلقها هي. أما وصف القمقم بأنه سابح في الدم فيجب حمله على ضرورة الشعر والقافية، أو على أنه وصف معيب لشدة احمرار الشفتين، أو على أن الشاعر أراد أن يلغز في قبلة فجاء بهذا الوصف وبغيره ليعمي على القارئ بعض التعمية.

فأنت ترى أن القطعة لا تحتاج إلى علم فرويد أو علم سيد قطب لحلها، بل هي تزداد تعقيداً وبعداً عن المعقول إن أنت حاولت إدخال العلم فيها. لكن العقاد لا يكون هو ما هو عند سيد قطب إلا إذا حشر العلم في شعره، وإلا فبم يمتاز العقاد على الرافعي ويمتاز هو عن مثل شاكر والعريان؟

هذا عن المثال الأول. أما المثال الثاني فقطعة مأخوذة عن (عابر سبيل) تحت عنوان (ابنا النور - الزهر يخاطب الجوهر) وهي في رأينا قطعة حسنة أوضح كثيراً من القطعة الأولى، لكنها لا تحتاج من العلم لفهمها أكثر مما يعرف الطالب الثانوي عن انعكاس الضوء وانكساره وامتصاصه، وعن التمثيل الخضري في النبات. وليس هناك بعد ذلك إلا خيال الشاعر في التصوير يجاريه خيال القارئ في التصور. وقد أحسن كل الإحسان حين لخص الموقف في طول عمر الجوهر الجماد وقصر حياة الزهر بقوله على لسان الزهر يخاطب الجوهر:

ومعدن النور فيك حي ... وفيك معنى الحياة فان

فيا زماناً بلا حياة ... إني حياة بلا زمان

وإن كنت تلمح شيئاً من تقصير اللفظ عن المعنى في قوله:

(وفيك معنى الحياة فان) فان (فانٍ) في الغالب لا تستعمل إلا للدلالة على الموت الذي سيكون بدلاً من الموت الواقع، لكن الشاعر المقيد بالقافية قلما يجتمع له في الشعر كل ما يريد. على أن المهم فيما نحن بصدده هو ما في تقدير سيد قطب للثقافة اللازمة لفهم القطعة من الإسراف والتهويل

أما المثال الثالث فهو قول العقاد:

بك خف الجناح يا أيها الط ... ير وما كنت بالجناح تخف

لطف روح أعار جنبيك ريشاً ... فمن الروح لا من الريش لطف

وهما بيتان ليس فيهما معنى كبير، وليس فيهما من الصنعة أكثر من عكس الترتيب الطبيعي وهو كثير في الأدب العربي؛ لكن سيد قطب الذي لا بد أن يجد لكل قول للعقاد معنى علمياً ما أمكن ذلك، يتمثل في هذين البيتين نظرية علمية يحكيها في قوله (فعلم وظائف الأعضاء يقول إن الوظيفة تخلق العضو) ويطيق النظرية بقوله: (فوظيفة الطيران هي التي خلقت الريش وقبله الجناح!)، فجاء قوله هذا دليلاً واضحاً على أن الأديب إذا لم يترب تربية علمية، وجمع آراءه وأفكاره العلمية من الكتب والمجلات، يكون أميل إلى تصديق كل ما يساق إليه باسم العلم وإن خالف في ظاهرة المعقول. وإلا فكيف يمكن أن تخلق وظيفة الطيران الريش والجناح قبل أن توجد الوظيفة نفسها؟ إذ من الواضح أن لا طيران ولا وظيفة طيران في طائر قبل أن يوجد الريش والجناح. فلو قال قائل مثل هذا الكلام من غير أن ينسبه للعلم لكان موضعاً لتهكم صاحبنا واستهزائه. أما وقد نسب هذا الكلام إلى العلم فيما قرأ فهو يقبله من غير نظر ولا تمحيص.

إن المعقول ليس هو خلق الوظيفة العضو، ولكن تنميتها إياه. فالعضو لا بد أن يوجد لأداء الوظيفة، واستعماله فيها بعد ذلك ينميه ويقويه ويرقيه. أما سبب إيجاد العضو فليس العلم يعرفه وإن حاول بعض العلماء أن يفسره بمثل هذا الغرض الذي لا يفسر شيئاً، والذي لا يعبأ العلم به في الواقع لأنه لا يمكن أن يختبر صحته لا بالتجربة ولا بالمشاهدة. والفروض العلمية لا حرج على العلماء في فرضها. فليفرض منهم منها ما شاء ما دام ذلك يساعده على التفكير. لكن العلماء يعرفون أن لا قيمة لهذه الفروض ما لم تساعد على إجراء تجارب ومشاهدات لاختبارها، وما لم تؤيدها هذه التجارب والمشاهدات بعد إجرائها؛ لكن غير العلماء يكبرون كل ما ينسب إلى العلم وينزلونه من عقولهم منزلة واحدة، فلا يفرقون بين حقائقه ونظرياته وفروضه. وعندنا أن مسارعة المشتغل بالأدب إلى قبول مثل هذا الفرض الذي يخالف المعقول تنازل من ذلك الأديب عن حرية التفكير التي يحرص عليها مثلاً ويغالي فيها إذا كان الموضوع لا يتصل بالعلم ولكن يتصل بالدين.

والمثال الرابع الذي ضربه سيد قطب لاتساع ثقافة العقاد وتفوقه بها على الرافعي يتصل بنظرية دروين، وهو مقطوعة (الجيبون) أو (أمام قفص الجيبون) وأحسن ما في هذه المقطوعة خيالها؛ أما اتصالها بالواقع وبحقيقة نظرية دروين فليست منه في شيء كبير. إنها تذكر النظرية كما يفهمها غير العلماء، فتجعل (الجيبون) أبا العبقري أي الإنسان، وتجعل الناس أبناء (الجيبون). والناس في العادة ينسبون هذا الرأي لدروين ودروين منه بريء، فان دروين لم يقل إن الإنسان أصله قرد كما يقول العقاد، وإن صح أن يفهم من نظريته في أصل الأنواع بالانتخاب الطبيعي أن القرد والإنسان يرجعان في سلسلة النشوء إلى أصل واحد بعيد ليس بقرد ولا إنسان، فترقي فرع عن هذا الأصل فصار إنساناً، وسار فرع آخر سيرة أخرى فصار قرداً. فقول العقاد للجيبون:

كيف يرضى لك البنون مقاماً ... مزرياً في حديقة الحيوان

قول يدل على سوء فهم لنظرية دروين.

ثم إن النظرية لا تقول بأن الفرق بين الإنسان والقرد فرق زمني في صميمه، ولا أن الإنسان أقدم من القرد حتى يصح لأحد أن يظن أن القرد إذا استوفى زمنه ومرت عليه ملايين السنين صار إنساناً. إن القرد أقدم ظهوراً على الأرض من الإنسان في حكم العلم إلى الآن، فلو كان القرد يستطيع رقياً إلى الإنسانية لترقى. إن سنن الترقي قد حكمت حكمها بين الاثنين، فلن يصير القرد إنساناً مهما عاش، وإن جاز أن ينحط الإنسان فيصير قرداً أو شبه قرد إذا قصر في استعمال ما وهبه الله على الوجه الذي اختاره الله له حقبة كافية من الزمن؛ فان هناك سنة انحطاط بالترك والإهمال والمعصية، كما أن هناك سنة ارتقاء بالاستعمال والإحسان والطاعة.

والناس يعطون نظرية دروين فوق ما لها من قوة عند العلماء فيظنون أنها تفسر خلق الأنواع، ويضل منهم بهذا الظن من يضل إذ لم يبق عنده لوجود الإله من داع. لكن النظرية في حقيقتها لا تفسر إلا حفظ الأنواع، أما مجيء الأنواع وخلقها فان النظرية لا تفسره. هي - كما يقول دريتش في محاضرات جيفورد التذكارية - سلبية الأثر لا إيجابيته: تفسر كيف انعدم المنعدم من الأنواع، ولا تفسر كيف وجد الموجود.

على أن من المهم أن ننبه في هذا المقام أن سنة التطور لا يشك فيها الآن أحد من العلماء، لكن طريق التطور وعلمه وأسبابه هي موضع الأخذ والرد والبحث بينهم. فأخونا علي الطنطاوي كان على حق حين أنكر نظرية دروين كما يصورها العقاد في مقطوعته، والذي انتقده في الرسالة على حق في قوله: إن التطور يقول به كل العلماء المعتد برأيهم، وعلى باطل إذا كان قصده بهذا أن هؤلاء العلماء يفهمون من التطور ما فهمه ووصفه العقاد في مقطوعته.

فمقطوعة العقاد إذا أخذت بتفاصيلها العلمية مبنية على خطأ كبير، وهي من الناحية العلمية لا تساوي أكثر مما يعتقده الناس عادة في نظرية دروين؛ وإذا أخذت من الناحية الشعرية الخيالية وحمل خطؤها العلمي على أنه خيال شاعر كان لها شيء من القيمة، ولكن شتان بين قيمتها هذه وبين ما يدعيه لها سيد قطب بضعفه العلمي وافتتانه بالعقاد.

فالعلمية التي يقيس بها سيد قطب تفوق العقاد على الرافعي علمية ضعيفة ناقصة في بعض الأمثلة، ومهوَّلة هوّلها الوهم والافتتان في بعض الأمثلة الأخرى. وهي في الحالتين لا تزيد شيئاً عنها في الأمثلة التي جاء بها من كلام الرافعي واتخذ منها سبباً للزراية عليه، وإن سلمت أمثلة الرافعي من الخطأ الذي وقع في بعض أمثلة العقاد.

ومن أول ما تهكم به على الرافعي من هذا النوع قوله في حبيبته:

سيالة الأعطاف أين ترنحت ... تطلق لكهربة الهوى سيالها

وقوله فيها أيضاً:

يا نجمة أنا في أفلاكها قمر ... من جذبها لي قد أضللت أفلاكي

ولا يزيد قطب في نقد هذين البيتين على أن يقول مبالغة في الإيحاء بتهكمه إلى القارئ: (ولا شيء وراء هذا العبث الذي لا نريد له نقاشاً)!. ويظهر أن عيب هذين البيتين وأمثالهما عنده هو وضوح معناهما، فان الرافعي عنده (سهل جداً لا يكلف مجهوداً ولا عناء)، مع أننا لا نظنه يفهم كثيراً من (حديث القمر) لو أعاد قراءته الآن. فصعوبة الكلام على فهمه مزية يكبر بها الكلام عنده فيما يظهر، ويسميها في العقاد سموا وسموقا وإن كان يسميها في الرافعي مداحلة ومعاظلة! هذا هو القياس عنده في الواقع لا العلمية، وإلا فأي فرق في العلمية بين المعنى العلمي الواضح والمعنى العلمي الغامض لو كان يقيس قياساً صحيحاً؟ بل الوضوح في المعاني العلمية أحق بالتقدير في الأدب من الغموض

إن السبيل في مثل هذا أن ينظر إلى دقة المعنى العلمي ودقة التطابق في الاستعارة بين الحقيقة وبين المجاز. وليس أصدق في التعبير عما يعتري المحب من هزة ورجفة إذا اقترب منه حبيبه من تشبيه ذلك بالهزة التي تعتري من يسري فيه سيال كهربائي. ولا يقدح في التعبير وحسنه ولا في البيت وصدقه أن المعنى العلمي المستعار معروف مألوف، فذلك مما يزيده حسناً عند من يريدون بالكلام الإفهام لا الإبهام. أما البيت الثاني فهو من باب الاستعارة التمثيلية النادرة. وهو بيت بقصيدة وحده. ثم معناه ليس بالشائع المبتذل، والقانون العلمي المشار إليه فيه أعم وأهم من نظرية دروين. فذلك البيت الفريد ليس فيه عيب ولكن السبب في ناقده الذي يكيل بمكيالين ويفكر بمنطقين

ومثل هذا البيت الثاني قول الرافعي لحبيبه الناسي له:

يا من على البعد ينسانا ونذكره ... لسوف تذكرنا يوماً وننساكا

إن الظلام الذي يجلوك يا قمر ... له صباح متى تدركه أخفاكا

وهذا البيت الثاني هو أيضاً من الاستعارة التمثيلية النادرة والمعنى المستعار ظاهرة طبيعية معروفة مألوفة، لكن المطابقة بين حال الرافعي في شقائه بحبه المنسي ورجائه الفرج بالنسيان، وبين ظلام الليل يجلو القمر فإذا جاء الصباح أخفاه - هذه المطابقة في الاستعارة مطابقة نادرة لا يكاد الإنسان يقضي حقها وحق أمثالها عجباً. لكن صاحبنا الذي يرمي الرافعي ومن معه بأنهم شكليون يخطئ جوهر الموضوع مرة أخرى فلا ترى من البيت إلا تمثيل الحب بالظلام، والحب عنده لا يكون ظلاماً أبداً فالرافعي لا يمكن أن يكون ذاق الحب أبداً، وليس يشفع للرافعي أن الحب الذي شبهه بالظلام هو حب شقي به لنسيان حبيبه إياه، فلا يصح في إنصاف ولا في أدب أن يقاس على حب آخر يسعد به صاحبه لاستجابة حبيبه له فيه. لا! الحب أياً كان لا يمكن أن يكون ظلاماً عند سيد قطب؛ فمن رآه ظلاماً فقد زل زلة بألف، ودل دلالة قاطعة على أنه شكلي لم يذق الحب قط! ليت شعر النقد - إن صح هذا - ماذا يكون الحكم فيمن شبه الحب بالجحيم وظلمتها؟ ومن هو؟ سيد قطب! هو سيد قطب في شعره الذي نشره بالرسالة (عدد 220) بعنوان (ريحانتي الأولى أو الحرمان) وإليك بعضه إن كان لا بد أن نذكر لك منه مثالاً:

ريحانتي الأولى وروح شبابي ... أئذا دعوت سمعت رجع جوابي

أنا في الجحيم ها وأنت بجنة ... من روح إعجاب وريق شباب

أنا في الجحيم وأنت ناعمة المنى ... خضراء ذات تطلع وطلاب

أنا لا أريدك ها هنا في عالمي ... إني أعيذك من لظى وعذاب

ولكيلا تظن أن سيد قطب يتفلسف حين يقول هذا اقرأ له من مقطوعة أخرى من نفس الشعر:

عيني رعتك وأنت نابتة فلم ... تغفل ولم تفتر ولم تتألم

حتى إذا أينعت وانطلق الشذى ... ألفيت نفسي في صميم جهنم

ملقى هنالك لا أحس ولا أرى ... إلا الشواظ وكل داج معتم

أفي نورٍ هذا من حبه يا ترى أم في جب من جهنم؟ هذا هو الذي لم يعجبه بيت الرافعي فتجنى عليه ما تجنى وأطال قلمه فيه بما أطال، وأنساه تجنيه وهواه الواقع وما خطت يمينه قبلها ببضعة أشهر ليكون كلامه حجة عليه يفضحه الله به، وليعلم الناس أجمعون أن مقالات (بين العقاد والرافعي) كتبها عابث يتجنى لا ناقد يتحقق، ولا أديب يبتغي وجه الأدب

محمد أحمد الغمراوي