مجلة الرسالة/العدد 265/حول أدب الرافعي
→ بين العقاد والرافعي | مجلة الرسالة - العدد 265 حول أدب الرافعي [[مؤلف:|]] |
الفروسية العربية ← |
بتاريخ: 01 - 08 - 1938 |
بين القديم والجديد
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
- 5 -
لقد أخذنا على كاتب مقالات (بين العقاد والرافعي) أنواعاً من الأغلاط ذكرنا لكل منها أمثلة عدة دون استقصاء. فهناك أغلاط اضطراب في التفكير كالتي ذكرنا في كلمتنا الثانية؛ وهناك أغلاط جور ومحاباة كالتي عددنا في كلمتنا الثالثة؛ ثم هناك أغلاط ضعف في الفهم أخطأ بها الكاتب لب الموضوع كالتي فصلنا في الكلمة الرابعة. وكلها تدل دلالة واضحة على أن كاتب تلك المقالات لم يكن فيها يفكر بعقله وإنما كان يفكر بهواه.
إلا أن أغلاط التفكير بالهوى ليست كلها في الدلالة أو في التبعة سواء. فان ذا الهوى المتعصب لمذهب أو لكاتب قد يتأثر عقله بعصبيته وهواه من حيث لا يدري، فيقع في الخطأ من حيث لا يقصد، وتكون آثار الهوى والعصبية ظاهرة في كتاباته وأحكامه لكل إنسان سواء هو ومن لف لفه. مثل هذا لا يزيد الهوى والعصبية على أن يفسد عليه تفكيره فتصبح أفكاره وآراؤه وأحكامه غير ذات قيمة، ولكن من غير أن يحمل في ذلك تبعة خلقية تذكر.
أما إذا تأثر ذو العصبية والهوى بعصبيته وهواه إلى الحد الذي يشعر بأثرهما في رأيه وحكمه ثم لا يقاومهما مقاومة مجدية ولكن يتابعهما ويطاوعهما فيما يوحيان إليه من إخفاء ما لا يوافقهما من الحق، وتحريف ما يخالفهما من الواقع، فأنه عندئذ يكون قد جمع على نفسه ضعفين: ضعف العقل وضعف الخلق؛ وتحمل في سبيل هواه تبعتين: تبعة الخطأ وتبعة سوء النية فيه.
وقد كان فيما نبهنا إليه بالفعل من أغلاط ذلك الكاتب غلطتان لا يمكن حملهما على مجرد الخطأ العقلي. وقع في أولاهما حين أراد أن يعتذر عن تغيير رأي كان أرتآه، فيه بعض مدح للرافعي، ووقع في أخراهما حين أراد أن يعتذر عن سوء فهم لبعض ما قال الرافعي نبهه إليه الفاضل الفلسطيني علي كمال. وقد اعتذر في كلا الموقفين بما يخالف الواقع: اعتذر في الموقف الأول بأنه لم يكن حدد نوع الذهن حين قال إن الرافعي أديب الذهن، والواقع أنه كان حدده تحديداً واضحاً، وحدده بنفي بعض الأقسام التي قسم إليها الذهن عند اعتذاره ذلك. واعتذر في الموقف الثاني باضطراب وقع خطأ في ترتيب الجمل التي عبر بها عن رأيه، والواقع أنه لم يكن في ترتيب جمله تلك أي اضطراب، ولم يكن له عذر في مخالفته الواقع في ذينك الموقفين، لأنه كان يستطيع الاستيثاق مما قال أو كتب بالرجوع إلى ما كان قد خطه قلمه في موضعه من كلامه إن كان ضعف الذاكرة هو الذي جعله ينسى حقيقة ما كان قد كتب ولم يكن قد مضى عليه أكثر من أسبوعين. لكن الذي به ليس هو ضعف الذاكرة ولكن صعوبة أو استحالة يجدها في الاعتراف بحق إذا كان عليه، فاعتذر بما اعتذر به رغم مخالفة الواقع اعتماداً فيما نظن على أن القراء يقل فيهم من يكلف نفسه عناء مضاهاة ما زعم بما وقع منه بالفعل.
لكن هاتين السقطتين ليس لهما فوق دلالتهما النفسية أية أهمية ذاتية إذ هما منه وإليه. هو أخطأ وهو يجتهد في ستر خطئه عن الناس ولو بشيء من التوسع في تحديد الصدق. فإذا كان قد فارق الصدق بهذا فالضرر لاحق به هو لا بغيره. أما إذا كان ضرر ذلك يعود على غيره من قريب أو من بعيد فان وجه المسألة يتغير بقدر ذلك. ويصبح وجه المسألة أشد تغيراً إذا كان الذي يتناوله بالتحريف والتلفيق كلام غيره لا كلامه هو. أما إذا كان الكلام المحرف أو الملفق هو كلام شخص يكرهه قد تصدى هو لنقده وكان التحريف والتلفيق من شأنه أن يؤذي الشخص المنقود كما وقع للرافعي، فإننا عندئذ نصبح أمام مسألة جديدة تتعدى الإنصاف في النقد إلى الأمانة في النقل، وتتجاوز الخطأ في الرأي إلى التدليس العمد وإلى محاولة النيل من الخصم في النقد الأدبي عن طريق غير شريف.
ومقالات (بين العقاد والرافعي) لم تبرأ من هذا العيب. ولعلنا كنا نعفو فلا ننتبه إليه لولا غرور ومكابرة يبدوان فيما يكتب صاحبها، ولولا أن صاحبها جعل من الفروق الأساسية بين مدرستي (الرافعي والعقاد) امتياز الثانية على الأولى بما سماه (الصدق الجميل) من ناحية، وتصحيح الأمزجة والنفوس بالأدب وللأدب من ناحية أخرى. فنحن مضطرون إلى تبيين ظاهرة كالتي أشرنا إليها، لا لأنها من الواقع فحسب، ولكن وفاء بحق النقد واختباراً لتينك الميزتين أمتحققتان هما في الكاتب كنموذج للمدرسة التي ينتسب إليها أم غير متحققتين
والزلات التي سقط بها الكاتب وجانب فيها الصدق يصح تقسيمها إلى قسمين: قسم يتعلق بتحريف ما كتب إخوان الرافعي عن الرافعي، وقسم يتعلق بما كتب الرافعي عن نفسه، وهو أهم الاثنين
ونحن إذ نتعرض لتحريف الكاتب بعض ما قال الأستاذان سعيد العريان ومحمود شاكر لا نريد بذلك أن ننصفهما، فهما قادران على الانتصاف حين يريدان، ولكن نريد أن ننصف الرافعي الذي استعان الكاتب على الإساءة إليه بتحريفه قول صديقيه، متخذاً من قولهما المحرف شاهداً عليه
وأول ما يلقي الناقد من هذا النوع من سقطات ذلك الكاتب تزُّيده فيما قال العريان في موضعين على الأقل في مقاله الأول: أولهما يتعلق برغبة الرافعي عن شراء (وحي الأربعين) وهي نقطة تافهة لولا أن صاحبنا المحلل النفسي مولع باستخراج الخطير من التافه. وثانيهما يتعلق بالبواعث التي دعت الرافعي لنقد (وحي الأربعين)
وقد قدم الكاتب بين يدي ما اقترف قوله: (إنما يعنيني اليوم ما كتبه الأستاذ سعيد العريان! ففيما كتبه وهو أخص أصدقاء الرافعي مصداق لكثير مما تخيلته فيه). ثم انتقل إلى تفصيل ما أجمل في هذه العبارة فقال:
(في إباء الرافعي أن يشتري كتاب وحي الأربعين مع حاجته لنقده ما يشير إلى ضيق الأفق النفسي الذي كان يعيش فيه، وتصوير للون من الحقد الصغير قلما يعيش في) نفس (رحبة الجوانب الخ)
فأنت ترى كيف أجدت مطالعاته في مباحث علم النفس الحديثة هذه المقدرة على استنتاج الخطير من التافه. وسنسلم له أن كل ما استنتج من ضيق الأفق النفسي والحقد الصغير أو الكبير ينتج من إباء الرافعي شراء كتاب وحي الأربعين مع حاجته لنقده. سنسلم له تلك النتيجة من هذه المقدمة! لكن بقى أن نثبت المقدمة حتى تصح النتيجة وإلا كان هذا الرجل يفتري على الناس مرتين: يفتري الشتم ويفتري الأسباب إليه. وقد اعتمد كما ترى في ثبوت هذه المقدمة على ما كتب أخص أصدقاء الرافعي، سعيد العريان. فإذا صح هذا فله بعد ذلك أن يستنتج منها ما شاء طبق وحي قراءته الحديثة في علم النفس. وواضح أن مدار الاستشهاد في تلك المقدمة ليس هو إباء الرافعي أن يشتري كتاب العقاد - فما نحسب العقاد ولا قطباً يشتريان شيئاً من كتب الرافعي - ولكن موضع الاستشهاد هو إباء الرافعي شراء الكتاب (مع حاجته لنقده). فبعبارة (مع حاجته لنقده) هي مدار الاستشهاد في الواقع. وعمدة قطب في إثبات هذه الحاجة عند الرافعي هو سعيد العريان
لكن سعيد العريان لم يقل شيئاً من هذا بل أخبر بعكس هذا، أخبر في مقاله الخامس والعشرين (رسالة 240) أنه هو حرض الرافعي على نقده (وحي الأربعين) انتصافاً لمخازن ولدار العلوم، وأن الرافعي أبى أولاً ثم أجاب على شرط أن لا يكون هو مشتري الكتاب (لأن عليه قسما من قبل ألا يدفع قرشاً من جيبه في كتاب من كتب العقاد. . .!)
ولسنا ندري متى أقسم الرافعي ذلك القسم، وليس هذا بمهم الآن، إنما المهم أولاً أن الرافعي لم ير حتى في رغبته في إرضاء صديق ما يبرر نكثه بذلك القسم، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن الرافعي أقسم حين أقسم عن عقيدة، واستمسك بذلك القسم حين استمسك عن عقيدة، وهذا ضد ما ذهب إليه قطب في أن الرافعي كان يصدر في أدبه عن غير عقيدة. ثم المهم ثانياً أن الحاجة إلى نقد (وحي الأربعين) لم تكن بالرافعي، ولكن بسعيد العريان. العريان حرض الرافعي على النقد كما ذكرنا ولرغبته في رؤية الأديبين الكبيرين يتصاولان. لكن المسألة على هذا الوضع المتفق مع ما أخبر به صديق الرافعي، ليس فيها شيء يشهد لقطب في شيء مما يريد. فماذا يفعل سيد قطب وهو يريد أن يستشهد لنفسه بصديق الرافعي على الرافعي؟ ينقل حاجة العريان إلى نقد (وحي الأربعين) فينسبها إلى الرافعي، ويترك الخبر بعد تحريفه منسوباً إلى العريان كما كان، فيكون العريان بذلك هو الذي شهد على الرافعي، ويتم لقطب ما يريد من الاستشهاد ولا بأس في ذلك على ما يظهر عند المدرسة الجديدة التي يمثلها سيد قطب، والتي يميزها عن المدرسة القديمة مذهب (الصدق الجميل)
أما الموضع الثاني الذي تزيد فيه قطب ليستشهد بالعريان على الرافعي فقوله من نفس المقال:
(وفي البواعث التي تدعوه لنقد) وحي الأربعين (كما صورها صديقه ما يصور نظرة الرجل إلى النقد والأدب والغاية منهما ومدى نظرته العامة للحياة واتساع مداها في نفسه، وهو لا يبعد كثيراً عن المدى الذي تصورته له) وليس في هذه العبارة شيء حتى تأتي إلى آخرها فتنقلب دلالتها عندك ويصبح الرافعي المسكين بين صديقه وعدوه قد اجتمعا في الجملة على تجريحه وذمه وكاتبها لا يكلف نفسه بها شيئاً، فهو يلقيها دعوى عريضة ثم يتحقق بعد ذلك من صحتها من شاء أو لينقضها من شاء! أما هو فلا يكلف نفسه من إثباتها شيئاً، ويكفيه أن ينتفع فيها بالإيحاء النفسي معتمداً على تصديق القارئ إياه فيما يلقي في روعه عن تصوير صديق الرافعي لبواعث الرافعي على نقد وحي الأربعين. وأكثر القراء حتى من أنصار الرافعي لا يجشمون أنفسهم اختبار صدق دعوى سيد قطب هذه بعرضها على ما قال العريان في موضعه من فصوله في تاريخ الرافعي، فيمر أكثرهم وقد وقر في نفوسهم شيء من هذا الاتفاق ولو في الجملة بين صديق الرافعي وعدوه على تجريح الرافعي.
إنك تقرأ تاريخ نقد الرافعي وحي الأربعين فيما قصه العريان في فصليه الخامس والعشرين والسادس والعشرين فلا ترى أساساً لهذا الذي يدعيه قطب، بل ترى شيئاً ينقض في صميمه دعواه هذه وينقض غيرها مما ادعاه. يعرض الرافعي على العريان ومخلوف أن يختارا أجود ما في الديوان لينظر فيه ثلاثتهم فما اتفقوا عليه فيه جعلوه حكمهم على الديوان كله. وليس وراء هذا في إنصاف خصم لخصمه في الأدب مذهب. فلما استبطأهما فيما انتدبهما له قال (أحسبكما لم تجدا ما تطلبان ولن تجدا. . . إذن فلنقرأ الديوان معاً من فاتحته فما أحسب الشاعر يختار فاتحة الديوان إلا من أجود شعره. . .!) وآخر قوله هذا مظهر آخر لنفس الرغبة في إنصاف العقاد وإن كان أولهما يدل على عقيدته في أدبه ويستشهد لها ضمناً بإبطاء أديبين في اتفاقهما على جيد في الديوان ينتقيانه، كأن الجيد الذي يتفق على جودته قليل في ذلك الديوان. سيقال طبعاً إن هذا ليس بحكم يعتد به على الديوان، فلو كان الأديبان الناظران فيه من المدرسة الجديدة لأسرع إليهما الاتفاق على جيد كثير. حسن. ولسنا نريد بما قلنا حكماً على الديوان ولكن نريد حكما على الروح التي نظر بها الرافعي وأخواه فيه، وهي روح إنصاف ورغبة في إنصاف من غير شك على نقيض الروح الذي نظر وينظر به سيد قطب ممثل المدرسة الحديثة في أدب عميد المدرسة التي يلقبها بالقديمة ولا يعجبه من أدبها ولا من روحها شيء.
نظر الرافعي وأخواه في ديوان العقاد معاً ساعات طووه بعدها، وأشار الرافعي على مخلوف فكتب، وهاج به العقاد ساخراً منه ومن دار العلوم، ولام مخلوفاً إخوانه على تهييج العقاد بدار العلوم، وألقى العريان تبعة ذلك اللوم على الرافعي يريد تحريكه لنقد الديوان؛ وتحرك الرافعي للنقد بعد تردد، ولكنه بعد إذ عزم مضى لا يبالي بما كان للعقاد يومئذ من سلطان مكنه له الأدب السياسي لدى القراء، ولا يعتبر إلا مذهبه في الأدب وطريقته، وسواء عنده أكان رأيه هو رأي الجماعة أم لا يكون ما دام ماضياً على طريقته ونهجه كما يصف العريان.
أي شيء في هذا يا ترى مما يمكن أن يؤخذ على الرافعي من قريب أو من بعيد؟ لا شيء! لا شيء يمكن أن يراه الناقد إلا ناقداً ينظر في أعمال الرافعي بمجهر البغضاء ثم لا يرى إلا ما يصوره الخيال. إنها حكاية واقعية غير عادية تصور الرافعي أستاذاً في مدرسته يلقي على تلميذين وزميلين له درساً عملياً في النقد وفي ما ينبغي للناقد من نزاهة في الحكم، وتحرز من الهوى عند الخصومة وشجاعة في المنازلة إذا لم يكن من المنازلة بد، وتضحية في سبيل الغاية، واستمساك بما يعرف أنه الحق. أما ما ارتآه العريان من تحفز كان بالرافعي لعراك العقاد فالعبرة فيه بأن ذلك لم يسرع بالرافعي إلى تحيف العقاد وظلمه في ديوانه أو هضمه. وفي رأينا أن هذا مظهر لفارق أساسي آخر بين المدرستين: مدرسة الأدب الأخلاقي، ومدرسة الأدب غير الأخلاقي اللتين تتنازعان توجيه الأدب الآن، وهو فارق نعرف أثره في كتابة المنتسبين إلى كل من المدرستين، نعرفه في نزوع شاكر والعريان إلى الإنصاف حتى من أنفسهما وصاحبهما، وقد يغلوان في ذلك أحياناً كما يشتد المدرس على ابنه التلميذ في فصله مبالغة في العدل بين طلبته، وتعرفه في نزوع سيد قطب إلى التزيد والتحريف والإسراف.
أما شاكر فأنه أيضاً لم يسلم مما أصاب العريان من تحريف لقوله في الرافعي. وقد مثل معه سيد قطب حكاية عمرو مع أبي موسى من جديد. لكن يكفينا الآن ما كتبنا في تبيين القسم الأول من مغالطات قطب وتحريفاتها لننتقل إلى تحريفه أقوال الرافعي وهو أهم القسمين.
إن آخر مثال ضربناه في المقال الماضي لسوء فهم قطب هو في الواقع أول مثال لتحريفه كلام الرافعي ليستقيم له وجه الاستهزاء به والزراية عليه. فقد ضرب الرافعي بنهر الكوثر يجري بين شاطئين من ذهب على أرض من الدر والياقوت مثالاً للشعر الخالد المطرد بقوله المحب في حبيبته، فجاء قطب وقال إن الرافعي لا يتشكك في أن نهراً يجري بين شاطئين من ذهب على الدر والياقوت (أجمل) من نهر يجري بين شاطئين من العشب الأخضر على أرض من الرمل والطين. ومهما تكن نتيجة المفاضلة بين النهرين عند المدرسة الجديدة من ناحية الجمال، فان نتيجة المفاضلة بينهما من ناحية الخلود والاطراد ليست موضع شك عند أحد. ولو أخذ قطب الكلام على ظاهره لم يكن فيه مغمز يغمز الرافعي به، فلم يجد بأساً في أن يضع الجمال بدلاً من الخلود والاطراد في كلام الرافعي ليصل إلى ما يريد. ولو غير مدرس للغة العربية فعل هذا لالتمسنا له العذر عن طريق جهله بمعاني الكلمات على وضوحها وبساطتها في هذه الحالة، لكن سيد قطب أخصائي في اللغة العربية وأديب وشاعر فلا يمكن أن يلتمس له العذر من هذه الناحية، ولم يبق إلا أن يكون تعمد التحريف في كلام الرافعي ليصل إلى ما يريد. فإذا أصر على ما فعل، وعدها على الرافعي غلطة بغلطات كخبر (الأسدي الذي يخترق شوارع القاهرة) في مثل زائر القاهرة الذي ضربه ليخلص إلى أن الرافعي (لم يحس الإحساس بجمال (الطبيعة بل. . . لم يوهب الطبيعة التي تحس هذا الجمال) - إذا أصرَّ قطب على زلته إمعاناً في تشويه الرافعي عند القراء كما فعل في مقاله الحادي عشر زاد ذلك في شناعتها وسقط بها في هاوية مالها من قرار.
وإلى مثل هذا عمد قطب حين أراد أن يتكلم عن حب الرافعي ليثبت أنه لا يعرف ما الحب وأن ليس له قلب يقول الرافعي:
(نصيحتي لكل من أبغض من أحب ألا يحتفل بأن صاحبته (غاظته) وأن يكبر نفسه عن أن يغيظ امرأة. إنه متى أرخى هذين الطرفين سقطت هي بعيدا عن قلبه، فإنها معلقة إلى قلبه في هذين الخيطين من نفسه). وهي قطعة مقتبسة من كتاب (رسائل الأحزان) وهو تاريخ حب للرافعي انقلب إلى بغض كما بين ذلك سعيد العريان في فصوله لمن لم يكن قرأ ذلك الكتاب، فالقطعة تدور كلها وتتوقف استقامة معناها على كلمة (أبغض) الواردة في أولها. لكن سيد قطب لما لم يجد فيها كما هي موضعاً لتهكمه ولا دليلاً على مزاعمه عمد إليها فحرف معناها بأن أسقط منها ما يؤدي معنى البغض وراح يصيح: (أرأيت؟ - إن الحبيبة (بعد انقطاع الحب) لا تتعلق بنفس من كان يحبها إلا بخيطين اثنين: غيظها له وغيظه لها! ولا شيء وراء ذلك!) ثم طفق يعلق على ذلك ما شاء له الحنق والبغض، وانتهى به الأمر في مقاله الحادي عشر إلى أن يقرر في غرور وتوكيد وإصرار: (فحين يقول الرافعي إن الحبيبة لا تتعلق بقلب حبيبها (بعد انتهاء الحب) إلا بخيطين اثنين هما غيظها له وغيظه لها. . . يدل على أنه لم يحس الحب يوماً ما ولم يحسن ملاحظته في غيره، بل لم يكن ذا طبيعة قابلة للحب، ولا مستعدة لتلقي دفعاته وانفساحه ولو كتب بعد ذلك عن الحب ألف كتاب). وتستطيع أن تتبين مبلغ إسرافه بهذا الكلام على الرافعي إذا وضعت فيه بدلا من (بعد انتهاء الحب) كلمات تؤدي معنى الرافعي مثل (بعد انقلاب الحب إلى بغض). هنالك يتضح مبلغ جناية هذا الرجل على الرافعي وعلى الحقيقة وعلى النقد بذلك التغيير الطفيف الذي أدخله على كلام الرافعي جرياً فيما يظهر على قاعدة (الصدق الجميل) الذي يفرق عند هذا الناقد الجديد بين مدرسة الرافعي ومدرسة العقاد. . .
بقى مثال واحد ثم نغلق هذا الباب. انتقد الرافعي بيت العقاد:
فيك مني ومن الناس ومن ... كل موجود وموعود تؤام
بما انتقده به وأخذ على العقاد، وإن في لفظ شديد، أنه لم يحترس مما يدخل في عموم (كل موجود) مما لا يليق أن يكون في حبيبة محب ذي ذوق. وأراد قطب أن يسخف نقد الرافعي فزعم أن الرافعي قال إن (كل موجود هو البق والقمل والنمل. . . الخ) ولو نسب إليه أنه قال: (إن من كل موجود كذا وكذا. . . الخ) لكان كلاماً ظاهر الصدق ليس فيه موضع للتسخيف الذي يريده صاحبنا والذي لا يتأتى إلا إذا سقطت (من) الدالة على البعضية. فلم ير صاحبنا مانعاً من إسقاطها! وهل هي إلا حرف ذو حرفين يتحقق بإسقاطه شيء من تصحيح الأمزجة والنفوس؟
وقد رد أخونا محمود شاكر هذه الغلطة من سيد قطب إلى أنه لم يفهم الفرق بين (من) في كلام الرافعي و (من) في كلام العقاد. ووددنا لو أن الأمر كان كذلك فان عدم فهم الحرف أخف من تعمد إسقاطه، لكن سيد قطب خريج دار العلوم وأخصائي في اللغة العربية يعلم منها تلاميذه كل يوم مثل هذا الذي يعتذر عنه محمود شاكر بأنه يجهله. فلم يبق إلا الاحتمال الآخر على ما فيه.
تلك ثلاثة أمثلة حرف فيها صاحبنا كلام الرافعي تحريف الحاذق الماهر: تحريفاً طفيفاً من حيث اللفظ عميقاً من حيث المعنى، ورتب على ذلك من النتائج الخطيرة ما لا ينتج من كلام الرافعي، فهو قد تجنى على الرافعي مرتين: مرة بذمه ذماً بالغاً باطلا، ومرة بتحريف كلامه لتبرير ذلك الندم. فصدّق بذلك وبأغلاطه الأخرى ما نبهنا إليه من قبل من انزلاق مخاصم الحق وتورطه في أغلاط ومهاو ما كان لولا معاداته الحق ليتردى فيها وينتقم بذلك من نفسه للحق أبلغ انتقام.
محمد أحمد الغمراوي