الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 263/للأدب والتاريخ

مجلة الرسالة/العدد 263/للأدب والتاريخ

بتاريخ: 18 - 07 - 1938


مصطفى صادق الرافعي 1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 31 -

مقالاته للرسالة (2)

كان أكثر جلساء الرافعي في هذه الفترة هم الأصدقاء (س. ا. ع)، فكان لهم سره ونجواه، وإلى موعدهم مغداه ومراحه؛ وكان حديثهم إليه وحديثه إليهم هو عنده مادة الفكر وموضوع الكتابة؛ وكان لكل واحد من الثلاثة الأصدقاء في هذه الفترة مشكلة تملأ فراغ رأسه، فهي له في الليل مشغلة وفي النهار مشغلة. . .

أما (س) فكان على نية الزواج، وقد ترامتْ أمانيه إلى واحدة من أهله، ولكن (التقاليد) وقفت بينها وبينه موقفاً ما، أورثه ضجراً وملالة وسخطاً على الناس وتبرُّماً بالحياة وخروجاً على ما تواضع الناس عليه من التقاليد في شئون الزواج. . .

وأما (ا) فكان في عهد بين عهدين من حياته: قد ودَّع ماضيه بما فيه من عبث ومَجَانة، وطلَّق شهواته ونزواته إلى عهد يستشرف إلى ما فيه من المتاع الحلال في ظلّ الزوجة المحبوبة المحبّة؛ فسمّى زوجته وعقدَ عقْدَه، ثم وقف ينتظر اليوم الذي يبني فيه بأهله قلقاً عجلان، واليوم الموعود لا يحين لأن التقاليد تبعد به كلما دنا موعده. . .

وأما (ع) فشاب قد انفرد في الحياة من أهله: فَقَد أمه وهو غلام، فما كاد يستوي شبابه حتى مضى يلتمس ما فقد منذ طفولته من حنان الأنثى، فتزوج، ثم فقد زوجه؛ ثم تزوج، فما بقيتْ الثانية إلا بمقدار ما بقيت الأولى، ولكنها خلَّفتْ بضعة منها بين يديه مصوَّرة في طفلة سلبتها القدرةُ أمَّها يوم منحتها الحياة!

. . . هو أب ولا زوج له، وهو عزَبٌ وكانت له زوجتان، وهو فتى يؤمن بالله ويلحد في القدر، وهو شخصيتان منفصلتان تعرف إحداهما في المسجد وتعرف الثانية في الشارع، وله عين عفة وعين فاجرة؛ وله في الحياة تجربة ورأي، وله إلى الهوى والملذات مثلُ اندفاع الشاب الذي لم يذق ولم يجرب بعد! ثلاثة نفر لكل منهم رأيه في الحياة ومذهبه، ولكنهم قد التقوا في مجلس الرافعي على هوى واحد، فأحلوه من أنفسهم وأحلهم من نفسه؛ فكان له من أحاديثهم شعور الشباب ولهم من حديثه حكمة الشيخ، وللأدب من كل مجلس يجمعهم وإياه موضوع حي مما كتب الرافعي لقراء الرسالة. . .

ومن هذه الموضوعات (قصة أب)

ذلك هو الصديق (ع) كان الله له. . .!

جلس مجلسه يوماً إلى الرافعي يشكو بثه وهمه والدموع تترقرق في عينيه؛ واستمع الرافعي إلى شكاته متألماً حزيناً؛ فما فرغ (الأب) من قصته حتى جمع الرافعي (قصاصات) الحديث فجعلها في جيبه وجلس يتفكر. . . ثم كانت (قصة أب)

وفي الأسبوع التالي كان زفاف أبنته إلى ابن أخيه في حفل أهلي خاص وصفه الرافعي في مقاله (عرش الورد)؛ وهو العرش الذي نظمه بيده الأستاذ سامي الرافعي لمجلس العروسين، وجعل فيه فنِّه وعاطفته نحو أخته وابن عمه وقدَّمه إليهما هدية عرس

ولما جلس العروسان ذراعاً إلى ذراع في عرش الورد، بارك لهما الرافعي ودعا؛ ثم خرج ليمضي ساعات في القهوة. ولقيني هناك وحدي، فانتحينا ناحية على حيْد الشارع لا يترامى إليها من أضواء القمر إلا شعاع حائل؛ وكان الرافعي يؤثر دائماً أن يجعل مجلسه على ذلك الرصيف في جانب من القهوة، ويسميه (بلاج طنطا) إذ كان انفساح الشارع أمامه، وما يتعاقب عليه في الليل والنهار من ألوان الجمال في الطبيعة والناس - مما يحبِّب إلى العين أن تنظر، وإلى النفس أن تنبسط، وإلى الفكر أن يبدع فيما يخلق من ألوان الجمال. . .

وكان الليل نائما يحلم، والطبيعة ساجية لا يُسمع من صوتها إلا همسٌ خافت، وفي الجو شعر يهزج في سِرار النسيم وفي حفيف الشجر، وعرائس الخيال تُطيف راقصة تنفح بالعطر وترفُّ بالنور. . ولكن الرافعي جلس مجلسه صامتاً لا يتحدث، إلا كلمات إلى النادل يطلب كوب ماء ليشرب أو جمرات للكركرة. . . واحترمتُ صمته فسكتُّ عنه. . .

ومضت ساعة، ثم رفع عينيه إليّ وهو يقول: (الليلةُ عرس ابنتي. . .!)

ولم يسمع جوابي، لأن دمعة كانت تترقرق في عينيه وهو يتحدث حبستني عن الجواب. . .! دمعة لم أترجم معناها إلا بعد سنتين، يوم جاءني يقول والدمع يلمع تحت أهدابه: (إن وهيبة مسافرة إلى زوجها في أمريكا؛ ليس من الحق أن تبقى هنا وهو هناك!)

ثم يومَ جاءني بعدها يقول وفي يده صحيفة أمريكية. (انظر هذه الصورة، إنهم يسمونه هناك: أصغر سائح مصري في أمريكا. . إنه حفيدي الصغير. . .!)

لقد كان الرافعي يحب أولاده حباً لا أعرف مثله فيمن أعرف؛ ووهيبة كبرى أولاده، ذكرها في (الديوان)، وغنى لها في (النظرات) وأرَّخ زواجها في (عرش الورد)

وكانت المقالة التالية هي (الإنسانية العليا)

وهي باب من القول في الأدب الديني تنتظم مع (وحي الهجرة) و (الإشراق الإلهي) و (سموّ الفقر) تحت باب واحد. . .

. . . كان يعتاد الرافعي كما يعتاد كلَّ إنسانٌ، نوباتٌ من الضيق والهم تقعد به وتصرفه عما يحاول من عمل؛ ولم يكن له علاج من هذا الضيق الذي يعتاده إلا أن يقرأ قرآناً أو ينظر في كتاب من كتب السيرة النبوية، فينفرج همه ويزول ما به، ويهون عليه ما يلقى من دنياه. . .

في نوبة من هذه النوبات التي تضيق بها الدنيا على إنسان، تناول الرافعي كتابا من كتب الشمائل يسرِّي به عن نفسه، فاتفق له رأي. . . وخرج من مطالعته بمقالة (الإنسانية العليا)

. . . وكان للرسائل التي ترد للرافعي في البريد من قراء الرسالة أثر يوحي إليه في أحيان كثيرة بما يكتب لقرائه، فهي منهم وإليهم؛ فمنذ بدأ الرافعي يكتب في الرسالة أخذت رسائل القراء ترد إليه كثيرة متتابعة في موضوعات شتى ولمناسبات متعددة، حتى كان يبلغ ما يصل إليه أحياناً في اليوم الواحد ثلاثين رسالة؛ وكان يقرؤها جميعاً ويحفظها في درج خاص من مكتبه؛ وسأتحدث عن هذه الرسائل في باب خاص له موعده، إنما يعنيني اليوم أن أتحدث عن الموضوعات التي استملاها من رسائله. ومن هذه الموضوعات مقالة (تربية لؤلؤية)

كانت تصدر في القاهرة في ذلك الوقت مجلة (الأسبوع) وقد فتحت صدرها لطائفة من شباب الجنسين يكتبون فيها وحي عقولهم وقلوبهم و. . . وغرائزهم، وكانت صفحاتها لهؤلاء الشبان والشابات أوسع من صدر الحليم، فلم تلبث بهذه السماحة أن صارت - كما يقول العامة - بطن حمار! وأصبحت ميداناً للغزل البريء وغير البريء، وموعداً من مواعد التلاقي والوداع

وفي صبيحة يوم، حمل البريد إلى الرفعي رسالة من سيدة كريمة، تلفته إلى محاورة داعرة تعترك فيها أقلام طائفة من الشبان في مجلة الأسبوع. وبعث الرافعي في طلب أعداد المجلة فجيء بها؛ فما قرأها حتى تناول القلم وأملى على مقالة (تربية لؤلؤية)

في هذه المقالة، خلاصة رأي الرافعي في حرية المرأة وحقها في المساواة؛ وترى لهذا الرأي بقية فيما نشر من مقالات الزواج والطائشة، والجمال البائس، وغيرها؛ وهو يزعم أنه بهذا الرأي من أنصار المرأة عند من يعرف أين يكون انتصار المرأة. وللرافعي حين يتحدث في هذا الموضوع حجة قوية وبرهان ماض، إلى روح رفافة شعر ساحر. ولست واجداً أحداً يرد عليه في ذلك على قلة من تجد من أنصاره، وقد جلست مرة إلى المربي الكبير الأستاذ محمد عبد الواحد خلاف نداول الرأي في أدب الرافعي ومذهبه الاجتماعي لمناسبةٍ ما فيما كتب الرافعي للرسالة، فقال لي (إنك لن تجد أحداً من أنصار الجديد يرضى هذا المذهب، ولكنك لن تجد أحداً - أيضاً - يستطيع أن يصاول الرافعي في هذا الميدان بمثل حجته وقوة إقناعه. . .!)

. . . وأرضى الرافعي بهذا المقال السيدةَ الكريمة التي كتبت إليه، ولكنه أغضب مئات من القارئات وعشرات من القارئين؛ فانثالت عليه الرسائل من هؤلاء وهؤلاء غاضبة مستنكرة، إلا بضع رسائل. . .

ولما كتب مقالة (تربية لؤلؤة) وأرسل بها، ركب قطار البحر إلى الإسكندرية ليستريح يوماً هناك، يتزود فيه لفنه وأدبه من عرائس الشاطئ. . . كان قد كتب مقالة السالف وأرسل به، ولكن معانيه بقيت في نفسه؛ فلما ذهب إلى الشاطئ وجد تمام موضوعه، فعاد ليملي عليّ مقالة (لحوم البحر) وهي قصيدة مترجمة عن الشيطان على نسق من النثر الشعري فاق فيه الرافعيُّ وغلَب. . .

كان للرافعي عادةٌ حين يعجبه موضوع مما كَتب أن يسأل عنه كلّ من يلقى من أصحابه. . . (هل قرأت مقالتي الأخيرة. . .؟ وما رأيك فيها. . .؟ هل يملك أحد أن يعرض لرأيٍ فيها بالنقد. . .؟

وكان يعتدّ كثيراً بمقالة (تربية لؤلؤة)، وفي ذات مساء بعد نشر تلك المقالة، قصد إلى القهوة ليريح أعصابه؛ فصادف الأصدقاء (س. ا. ع)؛ فما كاد يستقر به المجلس بينهم حتى أخذ يسأل كل واحد: (هل قرأت. . .؟ ما رأيك. . .؟ هل يملك أحد. . .؟)

كان للرافعي في كل واحد من أصدقائه الثلاثة رأي، وكان لكل واحد في نفسه حقيقة، ولهم في الحياة نظرات تغترب وتقترب؛ وكلهم قد حُرِموا المرأةَ لوناً من ألوان الحرمان؛ ولكل منهم في المرأة رأي؛ مما تخيّلها، أو مما كابدها، أو مما شقي بها. . .

والرافعي رجل قد فارق الشباب وخلعه فيما خلع من ماضيه؛ وإنه لزوج وأب ويوشك أن يكونَ جدَّا؛ فلا قدرة له على أن يعود القهقري إلى ماضي شبابه يستوحيه خواطر الفتيان وأحلام الشباب في المرأة والحب والزواج؛ وهؤلاء الأصدقاء - على ما قدّمتُ من نُعوتهم في أول هذا الفصل - تجمعهم صفة العزوبة على اختلاف ألوانها؛ وما يزالون في باكر الشباب وفي يقظات الحُلم؛ وكلهم قد مارس المرأة نوعاً من المراس: في وهمه أو في حياته. . .

فما كاد الحديث يبدأ بين الرافعي وأصدقائه حتى أخذ يتشعب فنوناً، وساقهم الرافعي بحسن احتياله إلى هدف يرمي إليه. . . فما انفض المجلس حتى كان ثلاثتهم على ميعاد مع الرافعي ليجيبوه كتابةً عن أسئلة ثلاث وجهها إلى كل منهم، على أن يلتزم الصدق، وبجانب الحياء، ويخلص في الإجابة؛ وكانت الأسئلة هي:

(ا) كيف ترى المرأة في وهمك؟ وأين مكانها من حياتك؟ وماذا مارست من شأنها وعرفت من خبرها؟

(ب) لماذا لم تتزوج؟

(ج) صف ما تحب من أخلاق زوجتك المستقبلة؟

وجاء الميعاد المضروب، وسعى الأصدقاء الثلاثة إلى الرافعي بأجوبتهم؛ فمنها كانت مقالة الرافعي (س. ا. ع) وهي أولى مقالاته في الزواج؛ ثم تتابعت مقالاته في هذا الموضوع، فخطا بها إلى قلوب الشباب خطوات، وكان بينهم وبينه من قبلُ سد منيع

قبل أن يكتب الرافعي هذه المقالة بأيام، جاءه رسالة من بعض الأدباء يسأله أن يكتب إليه في أسباب أزمة الزواج؛ استيفاء لبحث يهم أن يصدره في كتاب. . . وأحسب أن هذا السؤال كان الحافز الأول للرافعي إلى الكتابة في هذا الموضوع. وقد بعث الرافعي إلى السائل بجواب سؤاله؛ وكان جواباً فيه كثير من الدقة والتحديد والعمق، ولم أقرأه منشوراً منذ أرسله إلى طالبه

بدأ كثير من الشبان يهتمون بما يكتب الرافعي؛ إذ كان بهذا الموضوع يعالج مشكلة كل شاب عَزَب، وتضاعفتْ رسائل القراء إليه، وطال الجدل في موضوعه بين طواف من الشباب في مجالسهم الخاصة. . .

فلما كانت أيام بعد مقالة (س. ا. ع) جاء إلى مجلسنا في القهوة شاب من أصدقائنا المتأدبين، هو الأستاذ إسماعيل خ، وهو محام ناشئ له ولوع بالأدب وشهوة في الجدل، وفيه إلى ذلك لين في الخلق وشذوذ في الطبع؛ وكان الرافعي يعرفه عرفاننا فما رآه حتى وجد فيه عنوان مقالة. . . فما عليه يسأله ضاحكا. . . وأجاب الأستاذ إسماعيل: (الزواج! وما يحملني على هذا العنت؟ أتريدني على أن أبيع حريتي من أجل امرأة؟. . .) ومضى يؤيد دعواه بالبراهين والأمثال. . .

وتم للرافعي موضوعه، فأملى عليّ في اليوم التالي مقالة (استنوق الجمل)

في هذه المقالة يجد القراء سبباً آخر لانصراف الشباب عن الزواج غير ما قدّم س. ا. ع في المقالة السابقة؛ فهي الحلقة الثانية من هذه السلسلة. . .

وأحس الرافعي بالتعب، فانصرف عن الكتابة أسبوعاً ليستجم، ولمْ من هنا ومن هناك طائفة من منثور القول فأرسله إلى الرسالة بعنوان كلمة وكليمة. وهي عبارات قصيرة من جوامع الكلم، ليس بينها رابطة في الفكر ولا في الموضوع، وكل كلمة منها موضوع بتمامه

وقد قدَّمت القول عن هذه الكلمات القصار التي كان الرافعي ينشرها بعنوان (كلمة وكليمة)؛ فحسبي هنا أن أشير إلى موضوع هذه الكليمات ودوافعها:

في هذه الكلمات التي نشرها بالعدد 65 سنة 1934 كلمات عن المرأة والحب؛ وهذه من فضلات المعاني التي اجتمعت له في مقالات المرأة والزواج ولم يجد لها موضعاً مما كتب. . . وفي هذه الكلمات رسائل إلى (فلانة) من تلك الرسائل التي قدّمت الإشارة إليها عند الحديث عن حب الرافعي. وفيها كلمات عن السياسة المصرية يعرف دوافعها من يذكر الحال السياسة التي كانت في مصر لذلك العهد وحكومة صدقي باشا تحتضر. . .

فمن هذه العناصر الثلاثة اجتمع له هذا القدر من كلمة وكليمة

(طنطا)

محمد سعيد العريان