مجلة الرسالة/العدد 261/جورجياس أو البيان
→ حواء | مجلة الرسالة - العدد 261 جورجياس أو البيان [[مؤلف:|]] |
بين مذهبين ← |
بتاريخ: 04 - 07 - 1938 |
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 2 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف لأنها أجمل محاوراته وأكملها جميعاً بأن تكون (إنجيلا) للفلسفة)
(روبنوفيير)
الأشخاص والمحاورة
بينت لك في المقال السابق أهمية هذه المحاورة وموضوعها. وأقدم إليك اليوم أشخاصها، ثم أبدأ في ترجمتها وفي التعليق على ما يحتاج منها إلى تعليق:
1 - الأشخاص
أولهم: (سقراط) بطل المحاورة كما قلنا. وسنرى أفلاطون متقمصاً إياه ومعلناً تلك الأفكار السامية المتعلقة بطبيعة (البيان) و (الأخلاق). وسنرمز له في الهامش بالحرف (ط)
وثانيهم: (جورجياس) وهو السفسطائي ومعلم البيان الذي يتخذ منه سقراط محوراً يدور حوله ويمطره وابلا من أسئلته البارعة ليثبت له أن فلسفته قائمة على المغالطة والجهل والغرور والكبرياء، وسنرمز له بالحرف (ج)
وثالثهم: (شيروفون) وهو صديق (سقراط) وتلميذه. وسنرمز له بالحرف (ش)
ورابعهم: (بولوس) وهو تلميذ (جورجياس) وصفيه، وسنرى أن (جورجياس) يتخذ منه محامياً يذود عن أفكاره أمام هجمات سقراط. وسنرمز له بالحرف (ب)
وخامسهم: (كالكليس) وهو من أهل (أثينا). ويتخذ أفلاطون منه ومن تلميذي سقراط وجورجياس الأنفين همزة وصل لإحكام الحوار. وسنرمز له بالحرف (ك)
2 - المحاورة
وتبدأ المحاورة في منزل (كاليكليس) حيث يصل (سقراط) متأخراً وكان يريد أن يستمع إلى حديث جورجياس السفسطائي فيقابله صاحب المنزل بقوله:
ك - أو هكذا تجيء (بعد المعركة) كما يقولون يا سقراط!؟
ط - وهل تأخرنا كثيراً عن (العيد) كما يقال؟
ك - نعم. نعم ولقد جئتم بعد عيد كامل البهجة والظرف!.
إذ الحق أن (جورجياس) كان يسمعنا منذ لحظة أشياء جميلة لا حصر لها!
ط - إن شيروفون - الموجود بيننا الآن - هو المسئول عن ذلك التأخير يا كاليكليس لأنه أرغمنا على الوقوف في الطريق
ش - ليس من ضير يا سقراط لأني سأصلح الأمر على أية حال. إن جورجياس صديقي، ولذلك سيكرر الآن إذا ما أردت نفس ما قد قال، أو هو سيرجئ الحديث إلى فرصة أخرى إذا فضلت
ك - ماذا يا شيروفون؟ أو بسقراط فضول لأن يسمع جورجياس؟
ش - لقد جئنا نقصد ذلك
ك - حسن! هيا معي إذاً فهو يقيم هنا. وسيبسط لكم الموضوع
ط - شكراً يا كاليكليس. ولكن أتراه يقبل التحدث معنا؟ إني لا أريد أن أعرف منه معرفة تامة خواص الفن الذي يمتهنه، وماذا يعد به وماذا يعلمه للناس، أما ما عدا ذلك فسوف يحدثنا عنه كما تقول في فرصة أخرى
ك - ليس أجدى من أن تسأله هو نفسه يا سقراط لأن هذه الناحية ليست بالدقة إلا جزءاً من الشرح الذي سيقدمه
- ليس أجمل من هذا. فعليك إذاً أن تسأله يا شيروفون!
ش - وماذا أطلب منه؟
ط - أي شيء هو!
ش - ماذا تريد أن تقول؟
ط - ألا تفهمني؟ إذا كانت مهنته - مثلاً - صناعة الأحذية فسيجيبك بأنه صانع أحذية!
ش - لقد فهمت وسأسأله قائلا: أخبرني يا جورجياس! أصحيح ما يقول كاليكليس من أنك تعد نفسك للإجابة على كل الأسئلة التي يستطيع أن يقدمها لك الإنسان؟ (يتقدم جورجياس)
ج - نعم يا شيروفون، فهو نفس ما قد أعلنت منذ لحظة وأضيف إليه الآن أنني لم أتلق من أحد منذ سنين كثيرة سؤالاً واحداً يعتبر جديداً على مثلي!
ش - وإذا فيجب أن تكون إجابتك يا جورجياس متناهية السهولة والسرعة!
ج - ليس عليك يا شيروفون إلا أن تجرب!
ب - نعم. ولكن سلني أنا إذا أردت يا شيروفون لأنه يبدو لي أن جورجياس خائر القوى بعد إذ تحدث في أشياء كثيرة.
ش - ماذا يا بولس؟ أتملق نفسك بادعائك أنك تستطيع أن تجيب بأحسن مما يجيب جورجياس؟
ب - وماذا يهمك إذا كنت سأجيبك إجابة تكفيك؟
ش - طبعا هذا لا يهم فأجب ما دمت تريد!
ب - سل
ش - ذلك ما سأفعل. إذا كان جورجياس ماهراً في نفس الفن الذي يحذقه أخوه هيروديكوس فأي الأسماء يصلح لأن نطلقه عليه إطلاقاً صحيحاً؟ أليس هو نفس الاسم الذي نطلقه على هيروديكوس؟
ب - من غير شك!
ش - وإذا أنكون محقين إذ أسميناه طبيباً؟
ب - بلا ريب.
ش - وإذا كان منهمكاً في نفس الفن الذي يشتغل به ايستوفون بن أجلاوفون أوفى فن أخيه فأي الأسماء نطلقها عليه؟
ب - واضح أنه اسم (المصور).
ش - حسن. ولكن في أي فن قد صار جورجياس عالماً، وأي اسم يصلح له فنطلقه عليه؟
ب - للناس يا شيروفون فنون كثيرة، والإنسان مدين في كشفها للتجربة لأن التجارب هي التي تجعل حياتنا متمشية مع قواعد الفن، بينما عدمها يجعلها تسير مع الصدفة العمياء. والناس يختلفون فيما بينهم، فالبعض ينهمك في ذلك الفن، والبعض ينهمك في فن آخر، ولكن أفضل الفنون هي ما كانت نصيب أفضل الناس كجورجياس لأن الفن الذي يشتغل به أفضل الفنون جميعاً!!
ط - يلوح لي حقا يا بولوس أن جورجياس قد مهر جداً في الخطابة لأنه لا يواصل الحديث الذي وجهه إلى شيروفون!!
ج - وكيف هذا يا سقراط؟
ط - يبدو لي أنه لا يجيب عما يسأله الناس!
ج - سله بنفسك، إذ لتجدنه مستعداً!
ط - إذا كان يسرك أن تجيب، فإني أسألك بسرور أعظم إذ يلوح لي أن ما يقوله بولوس يدل على أنه قد حذق فن (البلاغة) أكثر من حذقه فن المناقشة والإقناع!
ب - وماذا يحملك على هذا القول يا سقراط؟
ط - ذلك لأنك - وقد سألك شيروفون عن الفن الذي مهر فيه جورجياس - رحت تمدح هذا الفن دون أن تخبرنا عن ماهيته كأن هناك من يحتقره ويحط من شأنه!!
ب - ألم أقل إنه أفضل الفنون جميعاً؟
ط - ليكن كما تريد! ولكن أحداً لم يسألك عن صفة هذا الفن وكيفيته. لقد سألناك فقط عن ماهيته، وعن أي اسم يجب أن نطلقه على جورجياس، ولقد دَلَّك شيروفون على الطريق بالأمثلة، فأجبته في المبدأ إجابة حسنة قليلة الكلمات
فقل لنا كذلك: أي الفنون يمارس جورجياس؟ وأي الأسماء يصلح له؟؟ أو - بالأحرى - قل لنا أنت يا جورجياس: أي الأسماء يجب أن نسميك به؟ وبأي الفنون تشتغل؟
ج - بالبيان يا سقراط!
ط - إذاً يجب أن نسميك معلم البيان؟
ج - نعم، ومن المعلمين المجيدين يا سقراط، إذا ما شئت أن تسميني بما أفخر به على حد تعبير هوميروس!
ط - ليكن ما تريد!
ج - حسن - سمني إذاً هكذا!
ط - أتقول إنك قادر على تعليم هذا الفن للغير؟ ج - هذا ما أمتهنه هنا وفي كل مكان!
ط - وهل تريد يا جورجياس أن تستمر آناً مسئولاً وآناً مجيباً كما نفعل الآن، مرجئاً هذه الخطب الطويلة - كتلك التي بدأ بولوس بإحداها - إلى وقت آخر؟ إن يكن فخذ فيما وعدتنا به، واجعل إجابتك على كل سؤال قصيرة
ج - هناك يا سقراط من الإجابات ما يحتاج بالضرورة إلى سعة وبسط، ولكني سأحاول مع ذلك أن لأجيب بكل اختصار لأن من بين الأشياء التي تعجبني من نفسي انه لا يوجد من ينطق بنفس الإجابة في أقل تعبير كما أفعل
ط - هذا ما يجب هنا يا جورجياس. فأرني إذا ذلك الاختصار الفريد ولتترك الأقوال المطولة إلى فرصة أخرى
ج - سأسرك. وسترى أنك لم تسمع شخصاً يشرح باخصر من قولي؟
(يتبع)
محمد حسن ظاظا