الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 261/الفروسة العربية

مجلة الرسالة/العدد 261/الفروسة العربية

بتاريخ: 04 - 07 - 1938


للأستاذ جميل قبعين

- 1 -

محاضرة قيمة ألقاها الميجر كلوب قائد قوة البادية في شرق

الأردن بتاريخ 25 تشرين ثاني سنة 1936 في الجمعية

الأسيوية الملكية في لندن ونشرتها مجلة الجمعية في عدد يناير

سنة 1937

تحمل كلمة الفروسية معاني مختلفة في إنكلترا وتوقظ في أذهان الكثيرين منا شعوراً مبهماً وانطباعاً خيالياً عن فرسان بأسلحتهم اللامعة وملابسهم الجميلة الجذابة، وقد نستعمل هذه الكلمة في كثير من الأحيان للدلالة على احترام المرأة، ولكن إذا ما رجعنا إلى الحقيقة وجدنا هذا الاتجاه في التفكير في الفروسية سطحيا وخيالياً لأن الفروسية نشأت وانتشرت كنظام خاص في الحياة عند بزوغ فجر المدينة. ولكي أوضح ما أقصد باستعمال كلمة الفروسية يجب أن أرجع بكم إلى العصور الخالية.

عندما كانت موارد الرزق تنحصر في الزراعة وتربية المواشي، وكان الإنسان في إنكلترا وأوربا على العموم يستطيع أن يجمع بين العملين معا لأن جو هذه البلاد الرطب كان يهيئ كثرة الكلأ وخصوبة المرعى، ولذلك كان بإمكان المزارع أن ينصرف إلى أعمال الحرث والحصاد، وفي نفس الوقت يقتني المواشي التي ترعى بالقرب من مزرعته لكثرة الأعشاب. ولكن تطبيق هذه الطريقة في تنظيم العمل كان متعذراً في القارات الأخرى وعلى الأخص آسيا وأفريقيا حيث تقل الأمطار وتعاني مساحات واسعة منها المحل والجفاف لقلة سقوط الأمطار وبطبيعة الحال تقل المراعي وتبعد المسافة بينها - ولذلك كان المزارع الذي لا يتمكن من ترك حقله غير واجد مرعى لأغنامه. وهكذا كان الجمع بين الزراعة والرعي غير ممكن. ولذلك بقى سكان تلك البلاد ألوف السنين منقسمين إلى قسمين متباينين الرعاة والمزارعين أو البدو والحضره وهكذا أوجدت طريقتا المعيشة بينه تباينا في الأخلاق وتباعدا في المجتمع فتأصل العداء.

قد يستغرب الرجل الإنكليزي في هذه الأيام أن يجد عندما يزور البدو تشابها عظيما بين عاداتهم وبين عادات الفرسان الأوروبيين في العصر الإقطاعي، ولهذا ترون أنني استعملت كلمة (الفروسية) عنواناً لمحاضرتي.

وقد يكون غريباً أن تعلموا أنه لا توجد كلمة في اللغة العربية للدلالة على الفروسية كنظام خاص مع العلم بأننا نرى البدو يعيشون بروح فرسان القرون الوسطى، والسبب في ذلك أنهم لا ينظرون إلى نظام معيشتهم كنظام يمكن درسه بل كحياة طبيعية ولما كانوا لا يعرفون القراءة لم يتمكنوا من درس أنظمة غيرهم من الأمم، ولهذا لم يجدوا ضرورة لإيجاد اسم خاص لطريقتهم. في الحياة. ولو وصفت الصفات المميزة للفروسية لمزارع أو حضري من سكان هذه البلاد لأجابك على الفور أنك تتكلم عن حياة البدو. وعليه فإني أرجو من حضراتكم أن تبعدوا المعنى الخيالي الذي يتصل بكلمتي الفروسية والفرسان لأني أعني باستعمال هذه الكلمة عادات البدو أي نظام الحياة اليومي ونظام الحكم الديمقراطي بينهم.

حياة البدو والمزارع

يمكننا عند دراسة أخلاق وطباع البدوي والمزارع أن نبدأ بدراسة وجهة نظر كل منهم نحو الحرب. تنحصر كل ثروة المزارع في مسكنه وحقوله وأشجاره فإذا ما سلم أملاكه إلى عدو يصبح على الفور جائعاً متشرداً، وهذه النتيجة المنتظرة تجبره على الاستماتة في الدفاع إذا ما هوجم، وفي نفس الوقت نرى أن الزراعة عمل مستمر يستوعب كل أوقات الفصول الأربعة بحيث لا يبقى له وقت يقضيه بالسفر والتنقل بحثاً عن المغامرة، ولذلك تجده يدافع دفاع المستميت دون الاهتمام بقواعد الحرب أو بتطلب المجد الشخصي، وحالة المزارع هذه تقوده إلى أن ينظر إلى الحرب نظرة الكراهية، فإذا ما هوجم ترى أن همه الأول أن ينتصر بأسرع ما يمكن بطرق شريفة أو غير شريفة، وبما أن غرضه الأسمى هو الدفاع لا المجد، وبما أنه يقطن في القرى نراه يفرض على كل شخص في المجتمع أن يشترك في الدفاع لكي يضمن السلامة والفوز. وهكذا يمكننا حصر نظرة المزارع إلى الحرب فيما يلي: 1 - الدفاع المستميت

2 - كره المغامرات الحربية

3 - التصميم على الفوز بطرق مشروعة أو غير مشروعة

4 - فكرة خدمة المجتمع

أما نظرة البدوي للحرب فهي على العكس تماماً وذلك لأن ثروة البدوي هي الخيل والجمال والغنم وليست من الأملاك الثابتة كالبيوت والحقول والبساتين، لذلك نراه غير مضطر لمقاتلة عدو إلى الرمق الأخير بل على العكس قد يتمكن من إنقاذ كل أمواله بتقهقر منظم سريع. وعلاوة على ذلك فإن المواشي شيء مزعج في الحرب إذ أنها قد تتشتت أو تذبح ولو كان صاحبها منتصراً في الحرب. كل هذه الاعتبارات تشير إلى حقيقة واحدة وهي أن طريقة البدوي في الدفاع ضد عدو قوي هي التقهقر السريع وليست الاستماتة في الدفاع كما يفعل القروي

وهنا لا يسعني إلا أن أتحول قليلاً من البحث عن الحرب إلى السياسة. إن الفلاح يدافع عن بلدته ويقاتل قتال المستميت دونها ولكنه إذا غلب على أمره خضع واستسلم إلى العدو تمسكاً بقطعة أرض يتركها له غالبوه، وإذا ما سمح له بالبقاء يدفع الضرائب الفادحة صاغراً ويتحمل أنواع الذل والإهانة. أما البدوي فإذا وجد نفسه محاطاً بعدو قوي استكان دون مقاومة وتظاهر بتقديم الخضوع إلى كبير الفريق الغالب حتى إذا ما رأي من عدوه غفلة رحل بسرعة إلى مكان قصي أمين حيث يصبح حراً طليقاً. وهكذا نرى أن البدوي رغم ضعفه في الدفاع ذو نفسية استقلالية تصبو إلى الحرية وهو أوسع حيلة وأعز نفساً واعظم كبرياء من القروي

وفي الهجوم أيضاً تجد البون شاسعاً بين البدوي والمزارع فإن هذا الأخير مرتبط بأرضه وبأعماله المستمرة، أما البدوي فقليل المشاغل كثير الفراغ وهو بسائق فطرته وطريقة معيشته معتاد ركوب الخيل والجمال وتحمل الأسفار البعيدة الشاقة ولذلك كانت المغامرات الحربية موضوع فخر وتسلية له وكانت الشهرة والمجد مطمعه في الحياة، لأن نظرة البدوي إلى الحرب لا تتجه لخدمة المجتمع نراه يتطلب في حروبه المجد والفخر والقيام بالأعمال العظيمة التي تنيله الشهرة، فالمجد والشهرة هما غايته من الحرب لا سلامة المجتمع.

إن أساليب الحرب في نظر البدوي أهم بكثير من النصر وكسب المعركة، والمجد بالتسابق بأعمال البطولة على أساليب الشرف هدفه الأسمى في القتال. وقد نشأ عن ذلك أساليب وعادات معقدة ورثنا بعضها فيما نسميه الروح الرياضية. فالبدوي لا يجد من الشرف أن يهاجم رجلاً نائماً أو أقل منه سلاحاً، وهكذا ظهرت تقاليد أهم صفاتها تطلب المجد والشهرة وإثارة روح التقدير والإعجاب في الآخرين بإتباع أساليب الشرف. ولا يجدي البدوي غضاضة في الاعتراف ببطولة العدو إذا كانت أساليب الشرف والاستقامة رائد هذا العدو في الحرب. كما أنه ينظر بازدراء للقروي الذي يحارب بقصد النصر دون التمسك بأساليب الشرف.

توجد ناحية غير مستحبة في طباع البدو الحربية وهي الأنانية والحسد، فالمحاربون البدو يحاربون لإظهار فروسيتهم ورجوليتهم وشجاعتهم الفردية بقدر الإمكان، وقد لا يشعر أحدهم بكراهية نحو عدو بعيد ولكنه ينفجر حاقداً إذا ما نافسه أحد رجال قبيلته بأعمال البطولة وسبقه بالشهرة. قد نرى نحن الأوربيين أن هذا أمر غير مستحب، ولكن الحقيقة أن هذه الصفة كانت من أهم الصفات الظاهرة لدى النبلاء الأوربيين في العصر الإقطاعي ومع أنها صفة غير جذابة ولكنها إحدى صفات الفروسية.

معاملة المرأة

إن الشيء الثاني الذي يميز حياة الفروسية أو حياة البدو هو طريقتهم في معاملة المرأة، فالمزارع مرتبط بعمله المنهك فلا ينتظر منه أن يشجع زوجته على التجمل والراحة في البيت بينما هو يقضي 12 - 13 ساعة يوميّاً في أعماله الزراعية، ولذلك تجد أن نساء المزارعين كن دائماً خشنات المظهر لاشتراكهن في الأعمال الشاقة خارج البيت. ولربما أوجدت حياة المزارع الجافة فيه عقلية خاملة خالية من الجو الخيالي البهيج

ولكن نظرة البدوي إلى المرأة تختلف تماماً عن نظرة المزارع إليها لما ذكر فيما سبق من أن البدوي قليل المشاغل وغايته القصوى في الحياة المجد وإثارة الإعجاب. ومن الطبيعي أن الإنسان عندما يتطلب ميزة خاصة على غيره يتطلب ان تعترف له المرأة بتلك الميزة، وأن إعفاء المرأة البدوية من الأعمال الجسيمة الشاقة المنهكة جعلها تحتفظ بنعومتها ورشاقتها، ومن الممكن أن فراغ وقتها أعطاها الفرصة الكافية للتزين والتجمل، ولذلك بقيت جميلة مشتهاة أكثر من زميلتها القروية الخشنة.

ينظر القروي إلى المرأة كوسيلة للخدمة والولادة وواسطة للربح. أما البدوي فيرى فيها مخلوقاً يجب العطف عليه والتغني به ويتخذها البدوي حكماً لتقدير أعماله. ومن المفيد أن نذكر أن المرأة البدوية بالرغم من كونها تعامل معاملة أحسن من زميلتها القروية، فإنها لم تكن مساوية للرجل، وأن التقدير والإعجاب اللذين كانا محيطين بها راجعان إلى اختلافهما في التكوين والخلقة عن الرجل - فالرجل كان المحارب والحاكم، والمرأة هي الجمال. إن الفروسية لا تعترف بمساواة الجنسين لأنهما مخلوقان مختلفان والمرأة لم تحاول أن تشارك الرجل في الحكم يوماً. وفكرة مثل هذه كانت غير مستحسنة من الطرفين

مزايا البدو الأخرى

إن طلاب المجد وحب الشهرة خلقا في البدوي مزايا أخرى أهمها الكرم والسخاء. يعتمد البدوي في حياته على قطعانه، وهي بطبيعة الحال عرضة للسلب والفقدان في كل لحظة، وهذه الحال قد تجعل الرجل الغني الوفير الخيرات في القبيلة يصبح فقيراً معدماً في اليوم التالي - وفي نفس الوقت قد يسترجع ما فقد بغزوة ثانية موفقة يقوم بها، ولذلك فإن البدوي يشبه الأموال بالأوساخ العالقة باليد تأتي اليوم وتذهب غداً. إن حياة التنقل المستمر جعلت من الصعب على البدوي أن يحتفظ بكثير من ضروريات الحياة، كما أن حبه للظهور وتعطشه للمجد كان لهما أثر كبير في أعماله القريبة من الخيال؛ فهو مستعد دائماً لأن يبذل كل ما يملك أو يمنح بسخاء جميع ما غنمه في غزوة شاقة خطرة لكي يظهر بمظهر شائق. أما القروي فهو بعكس ذلك تماماً لأن حياة الشقاء التي يعيشها واستقراره وتمكنه من التوفير أسباب كافية لجعله مقتراً

إن إحدى النتائج التي أجدها الكرم هو حسن الضيافة. وإني لأجد ضرورة لأن أقول بأن كل بدوي يملك بيتاً مفتوحاً أو بالأصح خيمة مفتوحة للضيوف في جميع ساعات الليل والنهار، وتكون الخيمة مقسمة إلى قسمين أحدهما للعائلة والآخر للضيوف. ولقد جرت العادة أن يضيف البدوي ضيفه ثلاثة أيام قبل أن يسائله من أين أتى وما هي مهمته

وهذا الكرم يصل إلى الفقراء من القبيلة، إذ أن من عادات البدو ألا يهملوا شيخاً ولا فقيراً، ولا يمكن لإنسان يعيش بين البدو أن يموت جوعاً. وكثيراً ما نرى شيخ القبيلة يوزع بعد عيد أو وليمة اللحم والأرز بنفسه أو يرسله إلى بيوت المسنين والأرامل. ويمكننا تلخيص صفات البدو فيما يلي:

1 - السعي وراء الشهرة في الحرب بالقيام بأعمال البطولة والمغامرات الفردية دون الاهتمام بربح المعركة

2 - تقدير المرأة واحترامها لأنوثتها واتخاذها وسيلة للتسلية والتمجيد وإن كان لا ينظر إليها كمساوية للرجل

3 - وجود دافع في البدوي يدفعه إلى القيام بأعمال البطولة والكرم حتى تكون أعماله هذه أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة في أكثر الأحيان

4 - الكرم وحسن الضيافة الحاتميان ويرجع سببهما أولاً إلى عدم الاطمئنان إلى بقاء الممتلكات بصورة مستمرة، وثانياً إلى حب التفوق والمجد اللذين يسعى البدوي إلى تحقيقهما في الحرب أيضاً

ولكي أشرح هذه الصفات الأربع سأستشهد ببعض قصص تصف لنا الفروسية العربية. والقصص التي من هذا النوع أكثر من أن تحصى. وقد أشاد بذكرها الشعراء وامتلأت بأخبارها كتب الأدب وتغنى بها العشاق والمطربون. ولقد كان هذا شأن التروبادور في القرون الوسطى في أوربا، واسمهم هذا مشتق من فعل طرب العربي. وقد كانوا يتجولون في البلاد مثيرين الحماسة برواية قصص الأبطال والأحاديث الغرامية

وسأقتصر على بعض القصص والحكايات كما أني سأذكر تجاربي الخاصة.

يتبع

جميل قبعين