مجلة الرسالة/العدد 261/التعليم الإلزامي في مصر
→ الكبريت | مجلة الرسالة - العدد 261 التعليم الإلزامي في مصر [[مؤلف:|]] |
قصة الكلمة المترجمة ← |
بتاريخ: 04 - 07 - 1938 |
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري
مدير دار الآثار العراقية
قرأت في مجلة مصرية مقالة لأحد الأساتذة، يقول فيها: (إن تقارير مفتشي التعليم ومراقبيه) أظهرت في السنين الأخيرة شيئاً جديداً لم يكن ملحوظاً من قبل، وهو أن الأولاد الذين يمارسون الزراعة في الحقل أو الصناعة في المعمل أو التجارة في السوق من متخرجي المدارس الإلزامية، لا تكاد تمضي عليهم أربع سنوات أو خمس، حتى ينسوا القراءة والكتابة، وتمحى من ذاكرتهم البقية الباقية من الحروف الأبجدية، فيعودون بذلك إلى الأمية مرة أخرى. . .)
إنني لم أطلع على نصوص التقارير التي يشير إليها صاحب المقال، فلا أعرف تفاصيل ما لاحظه المفتشون في هذا الباب. ومع ذلك لم أجد في هذه النتيجة شيئاً يستوجب الاستغراب، نظراً إلى ما أعرفه عن الظروف المحيطة بالتعليم الإلزامي في مصر من جهة، وعن التجارب التي مرت على الأمم الغربية في هذه القضية من جهة أخرى. . .
إنني لا أشارك المحرر في الأسباب التي يعزو إليها هذه النتيجة، كما لا أوافقه على الوسائل التي يقترحها لمعالجة القضية. ومع هذا لا أرى لزوماً لمناقشة الآراء الواردة في المقال المشار إليه، بل أفضل أن أبحث عن القضية من (أساسها)، بقطع النظر عن آراء المحرر فيها.
- 1 -
يظن الكثيرون أن (تعليم القراءة من الأمور البسيطة) التي يستطيع أن يقوم بها كل من (يعرف القراءة والكتابة) وبالأحرى كل من يعلم شيئاً من (مبادئ أصول التدريس). في حين أن هذا التعليم من الأعمال الدقيقة المحفوفة بالمزالق الكثيرة التي لا يمكن تجنبها إلا بيقظة متواصلة وتمرين خاص. .
لأن (تعليم القراءة) لا يعني (تعويد الطالب على قراءة بعض الكتب المعينة)، بل يعني (إكساب الطالب المقدرة على قراءة أي كتاب كان).
ومع هذا، فكثيراً ما نجد أن المعلمين لا يقدرون خطورة هذا المبدأ حق التقدير؛ فيوجهون جهودهم إلى تعليم القراءة من الكتب المدرسية المخصصة لهذا الغرض، دون أن يمرنوا الطلاب على القراءة السريعة بوجه عام.
في حين أن الطلاب كثيراً ما يتعلمون قراءة تلك الكتب على طريقة الاستظهار، دون أن يجهدوا أنظارهم وأذهانهم في تتبع الكلمات المطبوعة في سطورها. وكثيراً ما ينخدع المعلمون بسرعة هذه القراءة، فلا ينتبهون إلى أن الطالب قد قرأ معظم ما قرأه عن ظهر الغيب، دون ملاحظة الكتاب. وهذه الحالة تتفشى بوجه خاص، عندما يكون الصف مزدحماً بالطلاب، وعند ما يتمشى المعلم في تدريسه على طريقة ميكانيكية، لا نصيب فيها لليقظة والاهتمام. يقرأ المعلم العبارة بنفسه بصوت جهوري، ثم يطلب قراءتها من أحد الطلاب، ثم من ثان، فثالث، فرابع؛ ويكرر هذه العملية عشرات المرات. . وكثيراً ما تنصرف أنظار القسم الأعظم من سائر الطلاب - خلال هذه القراءة والتكرار - عن أسطر الكتاب إلى أشياء أخرى؛ غير أن آذانهم تبقى مستهدفة لتأثير الألفاظ التي يلفظها المعلم ويكررها سائر الطلاب، بطبيعة الحال. وإذا ما تكررت قراءة العبارات عدة مرات، يكون هؤلاء الطلاب قد حفظوا الشيء الكثير منها عن طريق السمع؛ وإذا ما جاء دورهم في القراءة، أخذوا يقرءونها (قراءة ظاهرية) تكون حصة النظر فيها محدودة جداً، ويكون العامل الأصلي في سرعتها هو الحافظة السمعية وحدها. .
ولذلك كثيراً ما نرى بعض الطلاب (يقرءون دون أن ينظروا)؛ وإذا ما طلب إليهم أن يبدءوا القراءة من محل غير المحل المعتاد، يضطرون إلى التهجي، فيقرءون بتلعثم وتردد وبطء؛ غير أنهم إذا ما تمكنوا من قراءة الكلمة الأولى بعد هذا الجهد، فتذكروا الكلمة التي تليها، أخذوا يستعينون بذاكرتهم السمعية، فصاروا يقرءون ما بعدها بسرعة واسترسال. . . . وكثيراً ما لا ينتبه المعلمون إلى (حقيقة الأمر) في هذه القراءة الظاهرية وينخدعون بهذه السرعة، ويظنون أنهم نجحوا في تعليم القراءة. . شاهدت هذه الحالة في عدد غير قليل من المدارس في دروس مئات من المعلمين، وما أعرفه عن مدارس التعليم الإلزامي في مصر يخولني حق الجزم بأن هذه الحالة ليست من الأمور النادرة هناك أيضاً. . . .
وعندما تكون طريقة تدريس القراءة مشوبة بهذه الصورة بنواقص وشوائب كثيرة، فلا حاجة للبيان بأن عدداً غير قليل من الطلاب عندما ينتهون من الدراسة الإلزامية، لا يكونون قد تعلموا القراءة بكل معنى الكلمة، بل يكونون قد تعلموا قراءة بعض الكتب قراءة ميكانيكية، لم تخرج من دور التهجي والتردد إلا بإعانة الذاكرة السمعية. . . فهل من مجال للاستغراب إذا ما فقد هؤلاء خلال بضع سنوات ما كانوا قد اكتسبوه من المقدرة السطحية في القراءة الميكانيكية فعادوا إلى الأمية بصورة تدريجية؟
فإذا أردنا أن ننجو من هذه المزلقة الأليمة، يجب علينا أن نهتم بإصلاح طرق تعليم القراءة، ونسعى إلى حمل الطلاب على قراءة كتب متنوعة، فنتجنب كل ما من شأنه أن يجعل القراءة ميكانيكية وظاهرية
- 2 -
مع هذا يجب عليّ أن أصرح بأن كل ذلك أيضاً لا يضمن معالجة المشكلة التي نبحث عنها معالجة قطعية.
لأن (مقدرة القراءة) في حد ذاتها ليست من الأمور التي ترسخ في النفس بمجرد اكتسابها، بل هي من القابليات التي لا تعيش وتنمو إلا بالعمل والتكرار والمران. . إنها من القابليات التي تضعف وتتلاشى شيئاً فشيئاً عندما تبقى (عاطلة) ولا تجد مجالاً للعمل بصورة متصلة. . .
افرضوا أن طالباً مجتهداً ونبيهاً، قد تعلم القراءة بصورة جيدة، فأصبح قادراً على قراءة الكتب بصورة مرضية. . ثم تصوروا أن هذا الطالب ترك القراءة بعد خروجه من المدرسة؛ فقد مضى عليه عدة سنوات دون أن يقرأ شيئاً، ودون أن يجد في بيئته دافعاً يدفعه إلى استعمال قابلية القراءة التي كان اكتسبها قبلاً. لا شك في أن القابلية المبحوث عنها سوف لا تحافظ على قوتها مدة طويلة من الزمن، بل ستكون عرضة للضعف بصورة تدريجية. . . وسيزداد هذا الضعف على ممر السنين فيعود صاحبها إلى دور القراءة (بالتهجي) كالمبتدئين؛ وإذا استمر الحال على هذا المنوال مدة أخرى، فسيفقد قابلية القراءة التي كان اكتسبها في المدرسة، وسيعود إلى الأمية مرة أخرى.
وهذا هو ما يحدث في الحياة الاعتيادية. في كثير من الأحيان ينتهي الطفل من التعليم الإلزامي فيترك المدرسة ويذهب إلى الحقل أو المعمل، للاشتغال مع والديه. . . ولا يجد هناك فرصة لتغذية القابلية التي كان قد اكتسبها، ولا يشعر بدافع يدفعه إلى قراءة شيء يحرك ويجدد تلك القابلية، فينسى في حياته الجديدة، بصورة تدريجية كل ما كان اكتسبه في حياته المدرسية. . .
إن القول بأن (التعليم في الصغر كالنقش في الحجر) بصورة مطلقة، لا يتفق مع الحقائق الراهنة: فإن الدماغ ليس نوع من الأحجار الجامدة التي تحافظ على كل ما ينقش فيها؛ والقابليات التي يكتسبها الدماغ لا تشبه النقوش التي تحفر على الحجر بوجه من الوجوه؛ ولا سيما دماغ الطفل، فإنه يمتاز بمرونة كبيرة، يكتسب بسرعة، غير أنه قد يفقد أيضاً بسرعة
هذه حقيقة هامة يجب أن نضعها نصب أعيننا عندما نفكر في أمر التعليم الإلزامي ومكافحة الأمية: يجب علينا أن نهتم بتغذية قابلية القراءة وتقويتها - بعد المدرسة - بقدر ما نهتم بتوليدها وتنميتها في المدرسة. . . يجب علينا أن نتوسل بشتى الوسائل التي تدفع إلى القراءة - بعد الانتهاء من الدراسة الإلزامية - خلال مزاولة أعمال الحياة الاعتيادية. . .
وإلا، فيجب علينا ألا نستغرب إذا ما وجدنا (قابلية القراءة) التي بذلنا كل تلك الجهود في سبيلها قد أخذت تندثر وتتلاشى شيئاً فشيئاً. . . و (الأمية) التي قضينا كل تلك الأوقات في سبيل مكافحتها داخل المدرسة وفي سن الطفولة، عادت إلى الحكم بعد مدة، فاستولت على النفوس تدريجياً في ساحة الحياة، وفي سن الرشد والشباب. . .
- 3 -
إن تجارب الأمم الغربية - المسطورة في تواريخ معارفها - تؤيد الملاحظات النظرية التي سردناها آنفاً؛ فإن رجال معارف تلك الأمم أيضاً كانوا قد اصطدموا بالمشكلة التي بحثنا عنها، في بدء انكبابهم على تعميم التعليم ومكافحة الأمية؛ وهم أيضاً كانوا قد لاحظوا - عندئذ - أن معظم الطلاب الذين يتخرجون من المدارس الابتدائية ويدخلون معترك الحياة، ينسون بصورة تدريجية الكثير مما كانوا تعلموه في المدرسة خلال سني التعليم الإلزامي. وكثيراً ما يصل بهم الأمر إلى درجة (نسيان الأبجدية) والعودة إلى الأمية
إن هذه النتيجة مَثَلت للعيان، على وجه أخص، عندما أخذوا يفحصون معلومات الراشدين الذين يبلغون السن العسكرية فيدخلون الثكنات. . . فقد وجدوا بين هؤلاء الجنود عدداً غير قليل من الذين لا يستطيعون أن يقرءوا شيئاً بالرغم من أنهم تعلموا القراءة والكتابة - في طفولتهم - في المدارس التي داوموا فيها.
ولذلك أخذوا يبذلون الجهود الكبيرة لمعالجة هذه المشكلة، ويتوسلون بوسائل شتى لتوقي هذه النتيجة
وكان من جملة الوسائل التي توسلوا بها إحداث دروس ومدارس تجمع الراشدين أيام الأحد، أو أحد ليالي الأسبوع طول السنة، أو خلال بعض الأشهر منها بقصد (تكرار) و (ترسيخ) المعلومات التي كانوا اكتسبوها خلال دراستهم الابتدائية. . .
إن الألمان الذين كانوا أسبق أمم الغرب إلى تطبيق نظام التعليم الإلزامي، أحدثوا مثل هذه الدروس منذ القرن الثامن عشر، وجعلوا المواظبة عليها من الأمور المحتمة على كل فرد، منذ انتهائه من الدراسة الابتدائية حتى دخوله الخدمة العسكرية. . .
إن كثيراً من الأمم الغربية حذت حذو الألمان في هذا الباب، في القرن التاسع عشر، وأحدثت مثل هذه الدروس والمدارس، تحت أشكال وأسماء مختلفة. . .
في الواقع أن الحاجة إلى التوسل بمثل هذه الوسائل قد زالت من الغرب، نظراً إلى انتشار القراءة والكتابة بين جميع الطبقات، وازدياد حاجة الناس إليها في كل البيئات وفي جميع نواحي الحياة، وانتشار الكتب التي تلذ الناس وتفيدهم مع ازدياد المكتبات التي أصبحت في متناول أيديهم. . . فإن كل ذلك لم يدع - في البلاد الغربية - حاجة إلى لإدامة الدروس والمدارس التي كانت تستهدف (التكرار) و (الترسيخ). . . ولذلك حدث تطور عظيم في أهداف الدروس والمدارس الخاصة بالراشدين. غير أن الأهداف الحالية والتطورات الأخيرة يجب ألا تنسينا الغرض الأصلي الذي كان استوجب إحداث مثل هذه الدروس والمدارس. ويجب أن نلاحظ على الدوام أن تلك الدروس والمدارس لعبت دوراً هاماً في ضمان نجاح التعليم الإلزامي، ومكافحة الأمية في عهودها الأولى
إنني أعتقد أن الملاحظات الآنفة الذكر تكفي لإظهار أنواع الواجبات التي تترتب على وزارات المعارف التي تهتم بأمر التعليم الإلزامي ومكافحة الأمية:
يجب عليها أن تسعى لتحسن طرق تدريس القراءة، وتدريب المعلمين للقيام بأعباء هذا التدريس كما يجب عليها أن تتخذ التدابير اللازمة لإيجاد سلسلة كتب ونشرات ملائمة لحاجات الناس وميولهم، على اختلاف مهنهم وبيئاتهم. . .
ويجب عليها أن تتوسل بوسائل متنوعة لنشر تلك الكتب بين الناس، لتسهل تغذية رغبة المطالعة في نفوسهم. . . .
وأخيراً يجب عليها أن تتوسل ببعض الوسائل التي تضمن اجتماع الشبان في المدرسة من حين إلى حين - بعد انتهائهم من سني التعليم الإلزامي - لإدامة علاقتهم بالدرس والمطالعة بصورة منتظمة. . .
وإذا لم تفعل ذلك يجب أن تعلم جيداً أن الجهود التي تبذلها والنفقات التي تنفقها في سبيل نشر التعليم في الأرياف وبين جميع طبقات الناس، لا تثمر الثمرة الكافية، ولا يبعد أن يذهب معظمها هباء منثورا. . .
أنتهز هذه الفرصة لألفت أنظار وزارات المعارف في البلاد العربية - ولا سيما في مصر - إلى هذه الواجبات التي تترتب عليها لإتمام مهمتها في نشر التعليم ومكافحة الأمية بصورة فعلية
قلت: لا سيما في مصر. . . لأنها المملكة العربية الوحيدة التي استطاعت أن تسن قانوناً للتعليم الإلزامي، وأن تضع خطة عملية لتنفيذ أحكام ذلك القانون، وتحقيق نشر التعليم بين جميع طبقات الناس وفي جميع أنحاء البلاد. . . . فعليها - قبل غيرها - يترتب واجب الإسراع في اتخاذ التدابير التي سردناها آنفاً. . .
(بغداد)
ساطع الحصري