مجلة الرسالة/العدد 260/قصة الكلمة المترجمة
→ تأملات في الأدب والحياة | مجلة الرسالة - العدد 260 قصة الكلمة المترجمة [[مؤلف:|]] |
جورجياس ← |
بتاريخ: 27 - 06 - 1938 |
(القتل أنفى للقتل)
لأستاذ جليل
- 2 -
قرأ الأستاذ الرافعي (رحمه الله) كلمة الأستاذ النشاشيبي فأرسل إلى الجريدة بمقالة عنوانها (ليست مترجمة) - البلاغ 20 رجب 1352 - قال فيها:
(قال الأستاذ الكبير محمد إسعاف النشاشيبي في كلمة للبلاغ إن عبارة (القتل أنفى للقتل) ليست بعربية ولا مولدة بل هي مترجمة. ولكن هذه الكلمة لم يشر إلى أصلها غير (الثعالبي) وهو مع ذلك لم يقطع فيها برأي، بل أشار إلى ترجمتها في صيغة من صيغ التمريض المعروفة عند الرواة فقال: (يحكى فيما ترجم عن أردشير) و (يحكى) هذه ليست نصاً في باب الرواية، ولو كانت العبارة مترجمة لتناقلتها الأئمة معزوة إلى قائلها أو لغتها التي قيلت فيها. ولقد ذكرها العسكري في كتابه (الصناعتين) على أنها (من قولهم) أي العرب أو المولدين ونقلها الرازي في تفسيره فقال: إن للعرب في هذا المعنى كلمات منها (قتل البعض إحياء للجميع) وأحسنها (القتل أنفى للقتل) وكذلك جاء بها أبن الأثير، ولم يعزها. وكل ذلك صريح في أن خبر الترجمة ما أنفرد به إلا الثعالبي، ولا يقوم الدليل على ترجمتها إلا بظهور أصلها الفارسي! فان كان علم ذلك عند أحد فليتفضل به مشكوراً مأجوراً)
قلت: هذه أقوال الذين أشار إليهم الأستاذ الرافعي (رحمه الله) أرويها وغيرها بعدها فوائد يرغب الأدباء في علمها:
قال أبو هلال العسكري في (كتاب الصناعتين): (والإيجاز القصر والحذف، فالقصر تقليل الألفاظ وتكثير المعاني وهو قول الله عز وجل: - ولكم في القصاص حياة - ويتبين فضل هذا الكلام إذا قرنته بما جاء عن العرب في معناه وهو قولهم: (القتل أنفى للقتل) فصار قول القرآن فوق هذا القول لزيادته عليه في الفائدة) ثم بين هذه الزيادة
وقال الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب): (اتفق علماء البيان على أن هذه الآية في الإيجاز مع جمع المعاني باللغة بالغة إلى أعلى الدرجات، وذلك لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة كقولهم: (قتل البعض إحياء للجميع)، وقول آخرين (أكثروا القتل ليقل القتل)؛ وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم: (القتل أنفى للقتل)؛ ثم إن لفظ القرآن أفصح من هذا، وبيان التفاوت من وجوه) وهي ستة وقد ذكرها، منها: (أن قول القائل: القتل أنفى للقتل لا يفيد إلا الردع عن القتل، وقوله (القصاص حياة) يفيد الردع عن القتل وعن الجرح وغيرهما فهو أجمع للفوائد. إن القتل ظلماً - قتلٌ، مع أنه لا يكون نافياً للقتل. إنما النافي لوقوع القتل هو القتل المخصوص وهو القصاص، فظاهر قولهم باطل، أما الآية فهي صحيحة ظاهراً وتقديراً، فظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب)
قلت: نسبة الرازي قولهم (قتل البعض إحياء للجميع) إلى العرب باطلة مثل نسبة عبارة القتل إليهم، فقد أطبق الأئمة المحققون على أن العربية الأولى، عربية (الجزيرة) لم تقل في وقت: (الكل والبعض). قال الجوهري في (تاج اللغة وصحاح العربية): (وكل وبعض معرفتان، ولم يجيء عن العرب بالألف واللام، وهو جائر لأن فيهما معنى الإضافة أضفت أو لم تضف) ونقل قول (الصحاح) صاحب (المختار)
وقال أبن منظور في (اللسان): (وقال أبو حائم: قلت للأصمعي: رأيت في كتاب ابن المقفع: (العلم كثير، ولكن أخذ البعض خير من ترك الكل) فأنكره أشد الإنكار، وقال الألف واللام لا يدخلان في بعض وكل لأنهما معرفة بغير ألف ولام. قال أبو حاتم: ولا تقول العرب الكل والبعض وقد أستعمله الناس حتى سيبويه والأخفش في كتبهما لقلة علمهما بهذا النحو فاجتنب ذلك فانه ليس من كلام العرب)
وفي (القاموس): (بعض لا تدخله اللام خلافاً لابن دُرُستُويَه)
وفي (شرح القاموس): (قال أبن سيدة: وفيه مسامحة، وهو في الحقيقة غير جائز. وفي العباب: وقد خالف أبن درستويه الناس قاطبة في عصره. وقال الناقدي:
فتى درستوي إلى خفض ... أخطأ في كل وفي بعض
دماغُه عفَّنه نومُه ... فصار محتاجاً إلى نفض
وقال أبن أبي الحديد في شرح النهج: (وقد استعملت في كثير فيما يتعلق بكلام المتكلمين والحكماء خاصة ألفاظ القوم مع علمي بأن العربية لا تجيزها نحو قولهم الكل والبعض والصفات الذاتية والجسمانيات ونحو ذلك مما لا يخفى على من له أدنى أنس بالأدب، ولكنا استهجنا تبديل ألفاظهم فمن كلم قوماً كلمهم باصطلاحهم)
وقد روى أبو العلاء هذا البيت في (رسالة الغفران) لسُحيم:
رأيت الغني والفقير كليهما ... إلى الموت يأتي الموت للكل معمداً
لكنه قاله في (الرسالة) قبل ذلك: (وكذلك قوله: الكل (أي قول ابن القارح) إدخاله الألف واللام مكروه، وكان أبو علي يجيزه ويدعي إجازته على سيبويه، فأما الكلام القديم فيفتقد فيه الكل والبعض)
وفي (المصباح): (قال الأزهري وأجاز النحويون إدخال الألف واللام على بعض وكل) وتجويز نحوي لا يثبت عربية قول بل يجيز أن يقوله المولد وإن لم يرد
فقولهم: (قتل البعض إحياء للجميع) مولد محدث، وقد روى الجاحظ في كتاب الحيوان هذا القول: (وقد قالوا: بعض القتل إحياء وبعض العفو إغراء، كما أن بعض المنع إعطاء. وهو كلام حسن من حكم المولدين المنشئين
وقال أبن الأثير في (المثل السائر): وهو - أي الإيجاز بالقصر - أعلى طبقات الإيجاز مكاناً، وأعوزه إمكاناً، وإذا وجد في كلام بعض البلغاء فإنما يوجد شاذاً نادراً. فمن ذلك ما ورد في القرآن الكريم (ولكم في القصاص حياة) فان قوله تعالى (القصاص حياة) لا يمكن التعبير عنه إلا بألفاظ كثيرة. ولا يلتفت إلى ما ورد عن العرب من قولهم: (القتل أنفى للقتل) فان من لا يعلم يظن أن هذا على وزن الآية، وليس كذلك، بل بينهما فرق من ثلاثة أوجه) ثم ذكرها ثم قال: (وقد صاغ أبو تمام هذا المعنى الوارد عن العرب في بعض بيت من شعره فقال:
وأخافكم كي تغمدوا أسيافكم ... إن الدم المغبر يحرسه الدم
فقوله: إن الدم المغبر يحرسه الدم أحسن مما ورد عن العرب من قولهم: القتل أنفى للقتل)
وممن مشى وراء غيره في نسبة العبارة الفارسية إلى العرب يحيى بن حمزة صاحب (الطراز) فقد قال: (ومن هذا قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة) فانظر إلى اللفظة الجميلة كم يندرج تحتها من المعاني التي لا يمكن حصرها، ولا ينتهي أحد إلى ضبطها، فأين هذا مما أثر عن العرب من قولهم: القتل أنفى للقتل وقد تميزت الآية عنه بوجوه ثلاثة) ثم ذكرها
ومنهم الأسيوطي فقد قال في (الإتقان): وقد فضلت (يعني الآية الكريمة) على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى وهو قولهم (القتل أنفى للقتل) بعشرين وجهاً أو أكثر، وقد أشار أبن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل وقال: لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك) ثم ذكر العشرين وجهاً
وصاحب (المفتاح) قال: (والعلم في الإيجاز قوله (علت كلمته) - في القصاص حياة - وإصابته المحز بفضله على ما كان عندهم أوجز كلام في هذا المعنى وذلك قولهم: القتل أنفى للقتل)
ونقا القزويني في (التلخيص والإيضاح) كلام المفتاح فقال: (عندهم)
وقد ذكر ابن القطقطي في كتابه (الآداب السلطانية والدول الإسلامية) قول الله وتلك العبارة قال: (قال الله تعالى: (ولكم في القصاص حياة) وقيل: القتل أنفى للقتل) وروى بعد ذلك هذا البيت غير منسوب إلى أحد:
بسفك الدما بجارتي تحقن الدما ... وبالقتل تنجو كل نفس من القتل
وهو أفصح من الكلمة الفارسية وأبين وأجود، وهو محدث.
وأضبط الروايات في نسب تلك العبارة رواية (غرر أخبار الفرس وسيرهم) للثعالبي. قال في الصفحة 483: (فصول من كلام أردشير في كل فن: القتل أنفى للقتل الخ)
و (غرر أخبار الفرس وسيرهم) كتاب جليل ترجمه كله أجمع إلى الفرنسية هـ. زتنبرج. وقد قال في ترجمة عبارة أردشير:
ونشرت البلاغ (20 رجب 1352) بعد مقالة الأستاذ الرافعي (رحمه الله) كلمة للشيخ عبد العزيز الأزهري، عنوانها: (هي عربية) ومما قال فيها:
(نشرتم أمس في صحيفتكم أن جملة (القتل أنفى للقتل) يراها الأستاذ النشاشيبي مترجمة فهي ليست عربية ولا مولدة في رأيه. والذي أراه أنها عربية لما يأتي: أولاً - لأنها وردت بين ثنايا عهد القضاء الذي بعث به سيدنا عمر إلى أبي موسى الأشعري.
ثانياً - لأنها مما يوافق طباع العرب قبل غيرهم موافقة تامة فليسوا بحاجة إلى من يقرضهم أمثال هذه المعاني التي طفحت بها سيرهم وأملتها الدماء المهراقة بين لابتي الجزيرة العربية. فهي عربية لا مولدة ولا مترجمة، وقد يكون المترجم كلمة أخرى تشبهها هي: الاستعداد للحرب يمنع الحرب! فهذه معقول أن تكون مترجمة وخاصة في العصور الحديثة! لا بالعصور القديمة أو الوسطى التي كانت تضطرم نيران الحروب فيها لأوهى الأسباب)
قلت: قال الشيخ عبد العزيز الأزهري: (بين ثنايا عهد القضاء) والثنايا جمع الثنية. وقال (الصحاح): (والثنية واحدة الثنايا من السن، والثنية طريق العقبة). وقال اللسان: (كل عقبة مسلوكة ثنية وجمعها ثنايا. الثنية من الأضراس أول الفم، وثنايا الإنسان في فمه - الأربع في مقدم فيه، والثني من الإبل الذي يلقي ثنيتة، وذلك في السادسة، ومن الغنم الداخل في السنة الثالثة تيساً كان أو كبشاً)
فلا ريب أن الشيخ يريد أن يقول: (في أثناء عهد القضاء) و (الثني واحد أثناء الشيء أي تضاعيفه. تقول: أنفذت كذا في ثني كتابي) كما قال (الصحاح)، وفي (الأساس): (ومن المجاز في أضعاف الكتاب: في أثنائه وأوساطه)
وقال الشيخ عبد العزيز: (بين لابتي الجزيرة العربية)، والجزيرة العربية ليست بين لا بتين وإن كانت فيها لوب كثيرة. وتخومها في البر والبحر معلومة. والتي بين لابتين هي المدينة، يثرب، مُهاجَر سيدنا ومولانا رسول الله (صلوات الله وسلامه عليه). وفي الحديث: (إنه حرم ما بين لابتيه المدينة) وهما حرتان يكتنفانها. قال صاحب (النهاية): (اللابة الحرة وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها وجمعها لابات، فإذا كثرت فهي اللاب واللوب مثل قارة وقار وقور، وألفها منقلبة عن واو. والمدينة ما بين حرتين عظيمتين)
(للقصة بقية)
(* * *)