مجلة الرسالة/العدد 260/جورجياس
→ قصة الكلمة المترجمة | مجلة الرسالة - العدد 260 جورجياس [[مؤلف:|]] |
حول أصل قاسم أمين ← |
بتاريخ: 27 - 06 - 1938 |
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 1 -
(تنزل (جورجياس) من آثار أفلاطون منزلة الشرف لأنها
أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا)
للفلسفة)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر
من جميع الهادمين!)
(جورجياس - أفلاطون)
نبدأ اليوم فنقدم لقراء الرسالة الغراء ترجمة (محاورة جورجياس لأفلاطون) وهي من أجمل وأكمل محاورات الفيلسوف الخالدة إن لم تكن أجملها وأكملها جميعاً كما يقول الأستاذ (رينوفيير)؛ ولقد شئنا أن نختار هذه المحاورة على وجه خاص لأننا وجدنا فيها الكثير الجم من تلك المبادئ الخالدة التي هي جديرة تماماً بإنقاذ العالم من بحر المادية الصاخب الذي يغرق فيه اليوم، ومن تلك الفوضى الاجتماعية والسياسية والفكرية التي يعاني منها أشد العناء وينتحر على مذبحها انتحاراً أليماً!! ولما كان الكثير من القراء لا يعرف شيئاً عن هذه المحاورة فقد قصرنا هذا المقال على التعريف بها
مقدمة
ولد أفلاطون حوالي عام 427 ق. م في أسرة أرستقراطية عريقة. وشغف أثناء حداثته بالشعر، ثم ما لبث أن تركه بعد أن عرف أستاذه سقراط وأعجب به وبحواره العذب الطريف؛ وقد شهد في عصره عهد فوضى الحكومات الأرستقراطية والديمقراطية، كم رأى الكثير من أحوال أولئك السفسطائيين الذي كانوا ينادون بأن الفرد مقياس كل شيء! وبأن الحواس أساس المعرفة! وبأن حقائق الأشياء لا يمكن أن تعرف معرفة يقينية! بل والذين كانوا يعلمون أبناء الأثرياء الفصاحة والبيان ليجعلوا منهم خطباء قادرين على إقناع الناس واستهوائهم آناً بالباطل وآناً بالحق، كيما يفوزوا بمناصب الدولة وببعد الصيت وكيما يستطيعوا أن يدافعوا عن أنفسهم ويبرروا سلوكهم إزاء هجمات الخصوم والمنافسين، وأمام القضاة والجماهير!
شهد أفلاطون ذلك كله وسمع بإذنيه قول القائلين بأن القوة حق!، ورأى بعينيه كيف زج (الشعب) بأستاذه العظيم سقراط في السجن وكيف راح يستمع إلى تمويه (أصحاب الدعوى) ويصم أذنيه عن صرخة الحق التي كان يجلجل بها صوت ذلك الأستاذ المظلوم!. فكان لنا منه تلك المحاورات الكثيرة التي جعل بطلها سقراط، والتي تناول فيها أولئك السفسطائيين بالسخرية والتصوير، والتي دعا فيها إلى تلك المبادئ التي كانت ولم تزل ولن تزال نوراً تهتدي الإنسانية بضوئه الساطع في مجال العلم والفن، والسياسة والاجتماع، والآداب والأخلاق على السواء
أما (جورجياس) فكان من أئمة السفسطائيين ومن أشهر خطبائهم ومعلميهم. ولد سنة 485 ق. م. وزار أثينا حوالي سنة 424 ق. م. وكان يدعي أن في استطاعته أن يجيب على كل سؤال!، وكان يقول إنه ليس من الضروري أن تعلم شيئاً عن الموضوع لتجيب عن الأسئلة التي توجه إليك بشأنه!؛ ولقد حاول بعد هذا أن يثبت في كتابه (اللاوجود) أنه لا يوجد شيء!، وإذا وجد فلا سبيل إلى معرفته!، وإذا أمكن أن يعرف فلا سبيل إلى إيصاله للغير!!
لذلك نرى أفلاطون يكتب عنه محاورة خاصة هي المحاورة التي نبدأ بتقديمها اليوم للقراء الأعزاء. وقد نقلت هذه المحاورة إلى جميع اللغات الهامة كسائر محاورات أفلاطون. والترجمة التي سنعتمد عليها هنا هي الترجمة الفرنسية للدكتور (بول لمير أستاذ الفلسفة المعروف. ولكنا نرجو على أية حال أن تصلنا قريباً ترجمة أخرى من باريس كيما نقارن الترجمتين ونخرج منهما بالنص المضبوط
وقد جاء في مقدمة هذه الترجمة للأستاذ (بول) ما يلي:
موضوع المحاورة (يصعب جداً تحديد الوقت الذي تحدث فيه سقراط مع السفسطائي، وربما كان ذلك أثناء زيارة جورجياس لأثينا. وتعتبر هذه المحاورة من المحاورات التي ألفها أفلاطون في شبابه. وهي تبدأ بوصول كل من سقراط وشيرون متأخراً، وكانا يريدان سماع محاضرة لجورجياس
ومن ثم يريد سقراط أن يعرف من المحاضر مفتاح فنه وطبيعة تعاليمه، فيطلب منه المناقشة. أما موضوع المحاورة فهو فن البيان ويريد أفلاطون أنه فن إقناع الناس بالحق والعدل لا بالباطل والظلم، كما يرى أن وسائله في الإقناع كثيرة، إذ أنه أما أن يضع الظواهر مكان الحقائق ويشير إلى الحواس والخيال والشهوات ثم العقل، وإما أن يشير إلى العقل ولكن بالمنطق السفسطائي الزائف كيما يخدعه. وبهذا يقتنع الشعب الوادع الجاهل، المخدوع دائماً بأولئك (الاستغلاليين) الذين يتملقونه!؛ والبيان بهاتين الوسيلتين دنيء حقير لا يعدو (فن الطبخ) في كثير! ولا يخرج على أن يكون خطاباً زائفاً منصباً على اللذائذ والشهوات فحسب؛ أما البيان الرفيع الصحيح فهو الذي يعني فقط بنصرة الحق والعدل؛ وتلك هي الناحية الإيجابية في المحاورة، ذلك أن الخطيب الحق عند أفلاطون، هو ذلك الصادق العادل الذي يستعين بالفلسفة في دراسة العدالة ونشرها، والذي يدعو لأن نكون أخيارا في السر والعلن، ولأن نكون عادلين دون أن نطمع في الجزاء!
(ولم يكن أشجع بعد هذا ولا أجرأ من أن يعلن أفلاطون في وقت اختفت فيه فكرة الواجب وانتهكت حرمة النظم والقوانين بالبلاد اليونانية، أن الأخلاق الفاضلة تحيا دائماً وتسود لأنها أقوى وأقدر من جميع الهادمين!، بل لم يكن أعظم ولا أجمل من أن تشيع هذه اللهجة السامية في جمهور متكبر اعتاد السياسيون أن يتملقوه، وامتلأ إيماناً (بحقه الأعلى) في شئون الدولة الصغيرة والكبيرة بغير استثناء!)
تحليل المحاورة:
أما الأستاذ (رينوفيير فقد حلل المحاورة تحليلا بديعا في كتابه , , ولذلك قد آثرنا أن نقدم هذا التحليل للقراء كيما نعدهم للترجمة أتم إعداد:
يقول (الظلم أفدح الشرور، وارتكابه أفدح من احتماله! وذلك هو الموضوع الذي يدعمه سقراط ويدافع عنه أمام ثلاثة من السفسطائيين!، أحدهم جورجياس أستاذ البيان، وكان يدعي أنه يعلم الناس العدالة وأنه يعرفها حق المعرفة، ولكنه كان يقول أن البيان يعلمنا كيف نقنع الناس بالعدل والظلم، وكيف ندهشهم ونذهلهم ونظللهم ونحكمهم!؛ ولذلك يريه سقراط أنه يجهل العدل. فيتقدم إليه متحدث آخر بحماس، ويقول له انه يعترف بأنه لا يعلم الناس العدالة وإنما يعلمهم فن القوة والسعادة، وإنه يعتبر ظالماً جباراً (كأرشليوس) (الذي قتل أخاه وعمه وأبن عمه ليصل إلى العرش) - أسعد الناس. . . فما يلبث سقراط أن يقرر أن الظلم شر، وأن العقاب بسببه خير، وأن أسوأ النفوس وأشقاها هي تلك التي تكون غارقة في بحر الظلم وتأبى مع ذلك أن ينقذها منقذ يبعدها عن العقاب!، وهنا يشك السفسطائي الثالث في أن سقراط يعني حقاً ما يقول و. . .، ثم يعلن أن الأفضل لنا هو أن نكون ذلك (الهرقل) الذي تصبح إرادته قانونا!، وان الضعفاء هم الذين يسنون القوانين ويسمونها عدلاً!. . .، وأن العدل في الطبيعة هو حق (الأقوى والأحسن) فيسائله سقراط: إذا كان الأمر كذلك فهل تصبح إرادة (الجماعة) عدلا مادامت هي الأقوى؟)
وهكذا يأخذ سقراط في إحراج المتحدثين الثلاثة وفي تضييق الخناق عليهم حتى يفسد عليهم حججهم، ويعلن (أننا نستطيع أن نستمد من العقل كل ما هو مشروع بالنسبة للجماعة والفرد، وأن الشخص العفيف يكون عادلاً وطيباً وشجاعاً، وأن غير العفيف يكون شقياً لا صديق له من الله والناس، لأنه خارج عن نطاق ذلك الكون الذي قد ربط الحب بين أرضه وسمائه وآلهته وأناسه بصلات وثيقة اقتضاها نظامه العام؛ فالظلم إذن أفدح الشرور لمن يرتكبه، ولن يكون سقراط العادل شقياً في يوم من الأيام، لن ُيسرق أو يجلد أو يباع بيع الرقيق، ولكن الذي يشقى ويذل هو الذي يسرقه أو يجلده أو يبيعه بيع الرقيق!. . .
(لهذا يجب أن نحفظ أنفسنا من ذلك الشر. . . وأن نكسب الفضيلة بكل ثمن، وأن نبحث عن فن يساعدنا على ذلك الاكتساب ونمضي حياتنا في دراسته. . . الخ)
وتنتهي المحاورة بخرافة كما تنتهي أغلب محاورات أفلاطون. وهو يصور لنا في هذه الخرافة ما تلقاه النفوس الظالمة الشريرة من عذاب الجحيم!
فإلى اللقاء حيث أقدم لك أشخاص المحاورة وأبدأ الترجمة بعد إذ قدمت لها بتلك المقدمة
(يتبع) محمد حسن ظاظا