مجلة الرسالة/العدد 260/الكتب
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 260 الكتب [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 27 - 06 - 1938 |
سندباد عصري
تأليف الدكتور حسين فوزي
للأستاذ محمد سعيد العريان
في صيف سنة 1933 خرج الدكتور حسين فوزي مدير معهد الأبحاث المائية في بعثة من رجال العلم الأوربيين للاستكشاف ودراسة الأحياء المائية في البحر الأحمر والمحيط الهندي؛ وقضت البعثة في تجوالها تسعة أشهر ثم عادت، وكان من نتائج هذه الرحلة كتاب سندباد عصري. . .
ولكن كتاب (سندباد عصري) لا يتحدث عن هذه الرحلة حديثاً علمياً؛ إذ كان مؤلفه قد لخص أبحاثه العلمية ونتائجها في تقرير قرره من قبل؛ ثم أنشأ هذا الكتاب من بعد، ليقص به قصة هذه الرحلة كما هي في شعوره وفكره ووجدانه، بعيدة عن العلم ونظرياته وأبحاثه ونتائجه. على أنها ليست قصة بمعنى القصة تبدأ بدأها وتنتهي إلى نهايتها؛ ولكنها خواطر وصور ومشاهدات مما أجتمع للمؤلف في رحلته: مما وقع عليه نظره، أو انفعلت به نفسه، أو انطبع في وجدانه، أو بعث في نفسه معنى من معاني الفن أو الشعر أو الجمال. فصول مفرقة هي خفقات قلبه، ونبضات روحه، وخلجات نفسه، وصورة من إحساسه وعواطفه في هذه الرحلة منذ بدأت إلى أن انتهت
وقد قسم المؤلف كتابه إلى مقدمة وأربعة أبواب: الباب الأول عبث وفكاهة، والثاني صور ومشاهدات، والثالث جد ودراسة ورأي، والرابع عواطف ومشاعر وخيال وفن؛ وتحت كل باب من هذه الأبواب فصول عدة، يتحدث كل فصل منها عن موضوع بذاته، ليس بينه وبين سابقه أو لاحقه صلة، إلا الصلة التي جمعت بين كل هذه المشاهد تحت عيني كاتب فنان له روح وعاطفة وفي نفسه شعر وفن.
على أن ما يحكيه المؤلف أو يتحدث عنه في هذه الفصول ليس هو مشاهداتٍ صامتة كبعض ما يصف الرحالون والرواد، ولكنها حكاية نفس رأت فتأثرت فألقت ظلالها وألوانها وعواطفها على ما رأته؛ فما يصف المؤلف مشاهداته، ولكنه يصف نفسه في مشاهداته؛ ومن ثمة فإن قارئ هذا الكتاب لن يعرف منه أول ما يعرف إلا نفس كاتبه قبل أن يعرف ما كتب عنه؛ وهو بذلك كتاب له ميزته، لأن فيه (صدق) الرواية؛ وله خطر، هـ لأن فيه القدرة على خداع القارئ ليقوده إلى الإيمان بالرأي الذي لم يكن يؤمن به لو لم يتوق بالحذر واليقظة والانتباه. . .
وأول ما تعرف من رأي مؤلف الكتاب ومن نفسه هو قوله الذي يصدر به الكتاب:
(درجت على حب الغرب والإعجاب بحضارة الغرب؛ وقضيت أهم أدوار التكوين من عمري في أوربا، فتمكنت أواصر حبي، وتقوت دعائم إعجابي؛ فلما ذهبت إلى الشرق، عدت إلى بلادي وقد استحال والإعجاب إيماناً بكل ما هو غربي. . .!)
هذه الكلمة، وفيها صراحة الرأي على ما يمكن أن يلقي هذا الرأي من شدة المقاومة، هي نهج المؤلف ورائده ورفيقه طوال مدة الرحلة؛ وهي نفسه الصريحة التي تتراءى للقارئ في كل صفحة من كل موضوع في كل فصل مما أنشأ المؤلف من فصول هذا الكتاب. وإنني - على يقيني بأن هذا الرأي لن يجد له نصيراً عند كثير من القراء، وبأن حظه من الاستنكار سيكون اكثر من حظه من الرضا - أكاد أوقن بأن كثيراً من القراء سيخرجون من قراءة هذا الكتاب أكثر إعجاباً بالكتاب ومؤلفه على ما بينهم وبينه من اختلاف في الرأي والمذهب والعقيدة، وأشد استمساكاً برأيهم ومذهبهم وعقيدتهم فيما بين الشرق والغرب. . .
وإنني لأبيح لنفسي وقد قرأت هذا الكتاب وحللت صداه في نفسي - أن أتقحم على قدس هذا الرأي في نفس الدكتور حسين فوزي، فأزعم أنه مؤمن بالشرق وما فيه إيمان الرأي والعقيدة والدم المورث؛ وما هذا الرأي الذي يجهر به إلا صدى معكوس لبعض هذا الإيمان، أنشأه في نفسه إحساس قوي بمحبة هذا الشرق، ورغبة غالبة في إنهاضه، وأسف بالغ لما صار إليه؛ ثم ثورة فائرة في أعماقه على أكثر ما يرى ويحس من عادات الشرقيين وتقاليدهم؛ فلما هم أن يصيح صيحته قائلاً: (يا بني قومي، ليست هذه روحانية الشرق وليست هذه مفاخرة. . .) عقه البيان فلم يجد إلا هذه العبارة التي صدر بها كتابه يترجم عن ذات نفسه في لغة من لغة الغرب الذي تعلم فيه فتكلم بلسانه. . .
على أن هذا الشرق الذي رآه الدكتور حسين فوزي بعينيه ليس هو الشرق الذي ندعو إلى إحياء مجده وتجديد حضارته. إن للشرق حضارة أخرى لا تجتليها العين ولا تدركها المشاهدة فقد درست معالم هذه الحضارة فلم يبق منها فيما تراه العين إلا أرض وناس، وتاريخ يتحدث عن ماضي يخزى من ذكر حاضره. وليس الشرق هو هذا الهند الغارق في العبودية والأسر والهوان، ولا هذه الجزر المبعثرة بين شواطئ المحيط الهندي والبحر الأحمر؛ ولكن الشرق معنى عام إن لم يبد اليوم لعينيه فيما شاهد من نؤى وآثار وحجارة مركومة، فان حرياً أن يشرق في نفسه معناه إن حاول أن ينفذ بعينيه إلى ما وراء ما يرى من آثار وحجارة وناس. . .
على أنني في هذا الموضوع لست أريد الحديث عن شرق وغرب، فما هو إلا معنى يستتبع معنى، وإنما أردت أن أعرض هذا المؤلف الجديد بما فيه من رأي صاحبه وفكره، واحسبني قد بلغت في ذلك مبلغاً ما.
ولا يفوتني قبل أن أفرغ من هذا الحديث أن أنوه بالروح الأدبي الذي ألهم مثل الدكتور فوزي أن يؤلف هذه الفصول الشائقة في مثل هذه الرحلة العلمية، على أن هذا الموضوع كان حقيقاً بأن يكون أقرب إلى الكمال وأكثر جدوى وفائدة لو أن مؤلفه (العالم) لم يضن بعلمه على قرائه فيما أنشأ من فصول هذا الكتاب. ولعله حسب ذلك مما لا يهم القراء، على أنه كان عندي وسيلة يكمل بها فما أجمل أن يكون بين علمائنا الأجلاء أديب مثل الأستاذ فوزي في دقة الملاحظة وصراحة الخلق وفكاهة الواقع وخفة الروح وسهولة الكتابة، ليقدم لقراء العربية شيئاً من (الأدب العلمي) أو (العلم الأدبي) فان العربية في حاجة إلى هذا اللون الجديد من أدب الإنشاء الذي لا يقدر على مثله إلا مثل الدكتور حسين فوزي في علمه وأدبه.
وما أريد أن أتحدث عن هذا الكتاب في أسلوبه ولغته؛ إذ لم يكن مما يعني الدكتور فوزي أن أتكلم في هذا الكتاب عن أسلوبه ولغته؛ وإذا لم يكن من حقنا أن نتحدث عن مثل هذا الكتاب في أسلوبه ولغته، لذلك نغض النظر عما فيه من هذا الباب، راجين أن يكون لنا حديث آخر عن كتاب آخر أو كتب أخرى يخرجها الدكتور حسين فوزي لقراء العربية؛ فانه لمما يؤسف قراء العربية أن يكون فيها مثل الدكتور حسين فوزي من الأدباء المجهولين لأنهم لا يخرجون ثمرات عقولهم إلى القراء. . .
محمد سعيد العريان