مجلة الرسالة/العدد 259/قصة الكلمة المترجمة
→ أنبئيني | مجلة الرسالة - العدد 259 قصة الكلمة المترجمة [[مؤلف:|]] |
فلسفة التربية ← |
بتاريخ: 20 - 06 - 1938 |
(القتل أنفى للقتل)
لأستاذ جليل
تلاقت عبقرية الأستاذ (الرافعي) - رحمه اله - في الأدب وعبقرية الأستاذ (العريان) في الوفاء؛ وأوحت الأولى إلى الثانية (وحيها) فكانت (حياة الرافعي)، أو هذه (المقالات الرافعية) في (الرسالة الغراء) وقد رآها الناس في هذا العام نجوماً، وسيجتلونه بعد حين بدراً بل شمساً ذات أضواء في كتاب. ولم تجتزئ هذه (المقالات) بخيرها العميم وفضلها العظيم - وإنهما لمحسبان - بل جلب الخير خيراً، وساق الفضل فضلاً؛ فقال الأستاذ محمود محمد شاكر (مقالة)، وجادل الأستاذ سيد قطب (جداله)، ولو لم يكن الرافعيُّ قطب أقطاب ما حدَّث عنه قطب. . . وما هذه الأحاديث التي أنصها اليوم في الرسالة
وُنصَّ الحديثَ إلى أهله ... فإن الوثيقة في نصَّهِ
إلا من إحسان تلك المقالات التي أفضل بها إلى العربية فتى الفتيان وسيد الشبان الأستاذ محمد سعيد العريان
أشار الأستاذ محمد سعيد في (المقالة السابعة والعشرين) من مقالاته الرشيقة الأنيقة الرافعية إلى حكاية الكلمة الفارسية (القتل أنفى للقتل) وإني لأظن أن كثيرين من الأدباء والباحثين يودون أن يعرفوا تلك القصة بكمالها، فهأنذا أحكيها، وسأروي طائفة من الأقوال في الكلمة الفارسية، وقد تقتضي الحال زيادة في هذا القصص للإفادة والتبيين و (الحديث ذو شجون) فأمليها
كتب صاحب (العثرات في اللغة والأدب) في الرابعة والرابعين من (عثراته) في جريدة (كوكب الشرق الغراء) في (7 رجب 1352) كلمة عنوانها (موازنة) قال فيها: (قالت العرب قديماً في معنى القصاص وأنه جُنَّة من العدوان: (القتل أنفى للقتل)، ثم أقبل القرآن الكريم على آثار العرب فقال: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) وقالت: (موازنة العثرات): (هي - أي عبارة القتل - كلمة عربية جاهلية) ثم سطرت شيئاً، محصوله أن الكلمة الفارسية قد فاتت الآية القرآنية
والمقايسة بين الشيئين قد اختلف أيَّما اختلاف قدْرَاهما وتفاوتن كل التفاوت حالتاهما - تذكرنا بهذه الأملوحة في (عيون الأخبار) لابن قتيبة: (نافر رجل من جَرم رجلاً من الأنصار إلى رجل من قريش، فقال القرشي للجرمي: أبالجاهلية تفاخره أم بالإسلام؟
قال: بالإسلام
قال: كيف تفاخر وهم آووا رسول الله ونصروه حتى أظهر الله الإسلام؟!
قال الجرمي: فكيف تكون قلة الحياء. . .؟)
أفظعت (موازنة العثرات) وارتقت المرتقبون البيان الحق والقول الفصل في ذاك الهزل، فظهرت في جريدة (كوكب الشرق 12 رجب 1352) كلمة عنوانها (قالته الفارسية، وتنكره العربية، القتل أنفى للقتل) أعلن فيها أن هذه المقولة ليست جاهلية ولا عربية ولا مولدة، وأنها مترجمة. ومما قالته الكلمة: (أُجل العربية المحكمة المبينة أن تقول هذا القول: (القتل أنفى للقتل) إنها لا تعرفه، إنها تنكره، ولو قالته - وهو يبدو حكمة ومثلاً - لروته رواتها، فلا الميداني صاحب (مجمع الأمثال) عرفه، وقد جمع في كتابه أكثر من ستة آلاف مثل، ولا ابن عبد ربه سمع به، ولو نمى في (الجزيرة) لانتظمته (جوهرة أمثاله) ولا أبو بكر البلاقلاني اشتمل عليه كتابه (إعجاز القرآن) ولا عبد القاهر أشار إليه في (دلائل الإعجاز) ولا (كشاف جار الله) وجدناه فيه. ودع كلام الذائدين عن (الكتاب) في إيراده معزوّاً إلى العرب وما سطروا. إنه قول ما قالته العربية ولا مولدوها، وإنما هو كلام فارسي نقله الناقل - وربما أخطأت الترجمة - ورائحتها فيه تكاد تفوح. ولو قالته العربية ما قالت: (القتل أنفى للقتل) وهي تريد أن القتل يزيل القتل، أو يستأصله أو يفنيه، ونفى القتل لا يبيده، ونفى المجرم القاتل لا يريح الناس منه. . . ومادة (ن. ف. ى) كاشفة ما يلتبس)
وقالت الكلمة: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب - قول عربي، قول قرآني لا يستقل بوصفه - إذا احتيج إلى وصفه - إلا بلاغة النبي، بل هو يصف نفسه، ويعلن فضله، وينادي إعجازه على إعجازه و (القتل أنفى للقتل) قول فارسي، نقله مترجم عربي، وفيه ضعف. معناه كريم، ولفظه لئيم، قاله (أردشير) الملك. قال الإمام الثعالبي في (الإيجاز والإعجاز): من أراد أن يعرف جوامع الكلم ويتنبه لفضل الاختصار، ويحيط ببلاغة الإيماء، ويفطن لكفاية الإيجاز - فليتدبر القرآن، وليتأمل علوه على سائر الكلام، فمن ذلك قوله (عز اسمه): ولكم في القصاص حياة. ويحكى عن أردشير الملك ما ترجمه بعض البلغاء أنه قال: (القتل أنفى للقتل) ففي كلام الله تعالى كل ما في كلام أردشير وزيادة معان حسنة، منها إبانة العدل بذكر القصاص، والإفصاح عن الغرض المطلوب فيه من الحياة، والحثَّ بالرغبة والرهبة على تنفيذ حكم الله والجمع بين القصاص والحياة، والبعد من التكرير الذي يشق على النفس فان في قوله القتل أنفى للقتل تكريراً، غيرهُ أبلغ منه)
وأشارت (الكلمة) في (الكوكب) إلى إيجاز الآية الكريمة وإعجازها، وروت قولاً لصاحب (دلائل الإعجاز) في (الموازنة بين بعض الآي وبين ما يقوله الناس في معناها) ونقلت كلام (الكشاف) في تلك الآية المعجزة
ثم ظهر مقال بليغ فائق للأستاذ الرافعي (رحمة الله) في جريدة البلاغ (15) رجب سنة 1352 عنوانه (كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة) قال فيه: (لقد تنبأ القاضي الباقلاني قبل مئات السنين بمقالة الكوكب هذى فأسلفها الرد بقوله: فان اشتبه على متأدب أو متشاعر أو ناشئ أو مرمد فصاحة القرآن وموقع بلاغته وعجيب براعته - فما عليك منه، إنما يخبر عن نفسه ويدل على عجزه، ويبين عن جهله، ويصرح بسخافة فهمه وركاكة عقله)
وقال الأستاذ الرافعي (رحمه الله): أنا أقرر أن هذه الكلمة مولدة وضعت بعد نزول القرآن الكريم وأخذت من الآية، والتوليد فيها بيَّن، وأثر الصنعة ظاهر عليها، فعلى الكاتب أن يدفع هذا بما يثبت أنها مما صح نقله عن الجاهلية)
ثم أوضح (رحمه الله) وهن الكلمة الفارسية أيما إيضاح، ثم أبان ببيانه العالي فضائل الآية الكريمة ومما قاله:
(ومن إعجاز هذه اللفظة أنها باختيارها دون كلمة القتل تشير إلى أنه سيأتي في عصور الإنسانية العالمة المتحضرة عصر لا يرى فيه قتل القاتل بجنايته إلا شراً من قتل المقتول، لأن المقتول يهلك بأسباب كثيرة مختلفة على حين أن أخذ القاتل بقتله ليس فيه إلا نية قتله، فعبَّرت الآية باللغة التي تلائم هذا العصر القانوني الفلسفي، وجاءت بالكلمة التي لن تجد في هذه اللغة ما يجزئ عنها في الاتساع لكل ما يراد بها من فلسفة العقوبة)
(إن لفظ (حياة) هو في حقيقته الفلسفية أعم من التعبير (بنفي القتل) لأن نفي القتل إنما هو حياة واحدة، أي ترك الروح في الجسم، فلا يحتمل شيئاً من المعاني السامية وليس فيه غير هذا المعنى الطبيعي الساذج، وتعبير الكلمة العربية عن الحياة (بنفي القتل) تعبير غليظ عامي)
(جعلُ نتيجة القتل حياة من أعجب ما في الشعر، يسمو إلى الغاية من الخيال، ولكن أعجب ما فيه أنه ليس خيالا بل يتحول إلى تعبير علمي يسمو إلى الغاية من الدقة، كأنه يقول بلسان العلم: في نوع من سلب الحياة نوع من إيجاب الحياة)
(فإذا تأملت ما تقدم وأنعمت فيه تحققت أن الآية الكريمة لا يتم إعجازها إلا بما تمت به من قوله (يا أولي الألباب) فهذا نداء عجيب يسجد له من يفهمه إذ هو موجه للعرب في ظاهره على قدر ما بلغوا من معاني اللب، ولكنه في حقيقته موجه لإقامة البرهان على طائفة من فلاسفة القانون والاجتماع هم هؤلاء الذين يرون إجرام المجرم شذوذاً في التركيب العصبي، أو وراثة محتومة، أو حالة نفسية قاهرة إلى ما يجري هذا المجرى، فمن ثم يرون أن لا عقاب على جريمة لأن المجرم عندهم مريض له حكم المرضى، وهذه فلسفة تحتملها الأدمغة والكتب، وهي تحول القلب إلى مصلحة الفرد، وتصرفه عن مصلحة المجتمع، فنبههم الله إلى ألبابهم دون عقولهم كأن يقرر لهم أن حقيقة العلم ليست بالعقل والرأي، بل هي من قبل ذلك باللب والبصيرة، وفلسفة اللب هذه هي آخر ما انتهت إليه فلسفة الدنيا)
(وانتهت الآية بقوله تعالى: (لعلكم تتقون) وهي كلمة من لغة كل زمن، ومعناها في زمننا نحن يا أولي الألباب، أنه برهان الحياة في حكمة القصاص نسوقه لكم، لعلكم تتقون على الحياة الاجتماعية عاقبة خلافه، فاجعلوا وجهتكم إلى وقاية المجتمع لا إلى وقاية الفرد)
هذا بعض ما قاله فقيد العربية الأستاذ الرافعي (رحمه الله وكافأه) ولما اطلع الأستاذ النشاشيبي على هذا المقال البليغ في (البلاغ) بعث إلى هذه الجريدة بكلمة عنوانها: (إنها مترجمة) نشرتها في 19 من رجب 1352 بعد مقدمة منها، ومما جاء في تلك الكلمة: (قال الأديب الكبير الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في رده في (البلاغ) على كاتب في (الكوكب): (إن القتل أنفي للقتل مولدة وأنها مأخوذة من آية) ومعاذ الله أن تكون مولدة، وأن تكون قد أخذت من آية، ولو كان ذلك لوجدنا عليها مسحة - وإن قلّت - من الجمال القرآني وهاهي ذي، كما يراها رائيها، لا تكلف أحداً في البشاعة وصفها فهي ليست بعربية ولا بمولدة، ولم تبصر في يومٍ ضياء القرآن، بل هي مترجمة، وربما أخطأ الناقل في الترجمة)
(للقصة بقية)
- * *