الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 259/فلسفة التربية

مجلة الرسالة/العدد 259/فلسفة التربية

بتاريخ: 20 - 06 - 1938


تطبيقات على التربية في مصر

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 21 -

(يجب أن تكون المدرسة صورة مصغرة للمجتمع المنشود)

(* * *)

(الديمقراطية هي النظام الذي يمكن الجميع من تحقيق أقصى

مجهوداتهم)

(باستور)

(يجب أن تكون أعمال الفرد في الجماعة الديمقراطية شائقة

جذابة)

(وولف)

11 - سبيل الإصلاح

واليوم ماذا أقول؟ لقد عرضت عليك فيما مضى صورة واضحة لشخصية خريج معاهدنا بما فيها من عقل وعاطفة وجسم، وبينت لك أن هذه الشخصية لا تتفق وروح التربية الحديثة في أقل القليل، ولا تصلح لأن تحقق آمال الوطن في صون الاستقلال وتزعم الشرق وإحياء المجد القديم! فلم يبق اليوم إلا أن أسير معك إلى طريق الإصلاح علنا نصيب هنالك شيئا:

1 - مجلس أعلى للتربية والتعليم

وكثيراً ما تناولت الصحف أمر هذا المجلس بالحديث، ولكن قليلاً ما عنيت الحكومة به وأخرجته إلى حيز الوجود! وأنت لا تكاد تجد دولة راقية بغير هذا المجلس الخطير، و تستطيع أن تتصور اتزاناً واستقراراً في ناحية البرامج المدرسية إلا إذا كان مصدر هذه البرامج لجنة فنية راقية ثابتة تمثل جميع الهيئات المتصلة بنواحي التعليم كالمدرسين والنظار، وعمداء الكليات ورؤساء النقابات، ورجال الأعمال وزعماء الأحزاب والأديان؛ فإذا ما أوجدنا مثل هذا المجلس أمكننا أن نوفق بين تجارب المدرسين والنظار ورؤساء الأعمال، وبين الخطط الدراسية والمناهج التعليمية وحاجات البلاد، وبذلك تكون لدينا غاية معلومة لها فلسفتها الخاصة، وخطة مرسومة توصل إلى هذه الغاية، واستقرار دائم يساعد على إحكام التجارب ويغذي مختلف النواحي بما يحقق نجاحها المنشود! أما الاقتصار على عدة لجان تمحو اليوم ما قررته بالأمس، وتسير بالسياسة العامة للتربية على غير هدى من التجارب الكافية أو الغايات الاجتماعية والاقتصادية والفنية المختلفة، فذلك كما ترى فصل بين المدارس والمجتمع، وإغفال لأسس وطيدة لا سبيل إلى النجاح والاستقرار بدونها

فترى هل يعمل معالي الوزير الحالي على تكوين هذا المجلس بعد أن توانى في تكوينه الوزراء السابقون؟ أملنا في معاليه كبير!

2 - قضية المعلمين

وأحسب أن أول ما يجب أن ينظر فيه هذا المجلس هو قضية المعلمين. وذلك أنك قد علمت فيما مضى أنهم اليد العاملة في تكوين النشء الموموقين، وأن عدم التدقيق في اختيارهم، وعدم إنصافهم في أجورهم وترقياتهم وأعمالهم، كل ذلك قد جعلهم متذمرين من مهنتهم، ناقمين على القدر الذي ابتلاهم بها، مؤدين لها أداء ناقصاً مشوهاً لا يكاد يتفق في الكثير من الأحيان مع تلك الأصول النظرية العامة التي درسوها في مدارس المعلمين ومعاهد التربية! لذلك يجب أن تعمل الدولة على مساواتهم بطوائف القضاة والأطباء والمهندسين؛ ويجب أن تقلل جهد المستطاع من عملهم الشاق العسير؛ ويجب أن تحذف من حياتهم تلك الأعمال الكتابية الآلية التي تمطرهم بها إدارة المدرسة مراراً أثناء العام الواحد!، ويجب أن تشركهم إشراكا فعلياً في وضع المناهج واختيار الكتب، ويجب أخيراً أن تصغي لاقتراحاتهم كما تصغي لرجال الطب أو القانون!

أما المعلمون فيجب أن يتحدوا وينظموا أنفسهم تنظيماً يعلي من شأنهم الأدبي والمادي ويرفع من قدر مهنتهم في عين الحكومة والشعب، كما يجب أن يحرصوا دائماً على التحلي بتلك (الشخصية الفنية) التي تنشدها الحياة الحديثة منهم كمثقفين بوجه عام وكمربين على وجه الخصوص!

3 - مكافحة الأمية وتعميم التعليم الإلزامي

ويلي ذلك في الخطورة أو يعادله مكافحة الأمية وتعميم التعليم الإلزامي ومادمنا ننشد نهضة حقيقية قوامها الحياة الديمقراطية الصحيحة. ذلك أنه لا سبيل مطلقاً إلى الرقي المنشود إلا إذا تبدد ظلام الجهل وغدا الشعب مستنير العقل قوي الخلق مفتحة أمام ذكائه أبواب النشاط دون ما فارق بين غنى وفقير!، وإذا كانت الحكومة قد بدأت تفكر جدياً في مكافحة الأمية فإن التعلم الإلزامي ما يزال في حاجة قصوى إلى الدعاية والمرونة والتعديل والإصلاح على النحو الذي بسطناه من قبل عندما كنا نوجز آراء الدكتور جاكسون في الموضوع

4 - التعليم الحر

ولما كان التعليم الحر يقوم بنفس الوظيفة التي تقوم بها مدارس الحكومة فان العناية به، والتدقيق في الإشراف على رجاله، والإمساك عن صرف الإعانات للذين يستطيعون أن يستغنوا عنها تماماً بمصروفات التلاميذ، أو للذين لا يستحقون منها شيئاً لأنهم محتالون أو شبه محتالين! ثم الحرص على تسليحه بالمدرس الفني الكفء عن طريق إعداد أكبر عدد من المدرسين في معهد التربية بأقصى ما يمكن من سرعة، كل ذلك يجب أن تحققه الحكومة في القريب العاجل حتى لا يكون هناك وجود لمدارس تسيطر عليها الفوضى ويشيع فيها الحشو التافه والإعداد السقيم!

5 - توحيد الثقافة:

ولما كان تباعد العقليات في أبناء الأمة الواحدة يقسم الشعب إلى قسمين ويعرقل بذلك عملية الإصلاح والتجديد، فالواجب هو المبادرة بتوحيد الثقافة على قدر المستطاع كيما يكون التفكير متحدا والقلب مشتركا والتقدم متجانسا لا تخَلف فيه! على أنه يجب أن نحرص في ذلك التوحيد على طابعنا المصري دون أن نتعسف في الجري وراء كل جديد أو في التمسك بكل قديم!!

6 - خطة الدراسة: أما خطة الدراسة ذاتها فيجب أن تتغير وتتطور حسبما تتطلب النتائج الباهرة التي تمخضت عنها طرق التربية الحديثة كطريقة (المشروعات) أو طريقة (دالتن)؛ وقوام الطريقة الأولى هو جعل الدراسة علمية تجريبية ترتبط فيها المواد ارتباطا معقولا، ويقوم الطلبة بدراستها كما لو كانوا يتعاونون معا في دراسة مشروع ما تحت إرشاد مرب حكيم؛ وقوام الطريقة الثانية هو الاعتراف (بفردية) الناشئ وتعويده على الدراسة الشخصية، وفتح المجال أمام ملكاته وقواه كيما يصير في طريقه الخاص مستنيرا بإرشاد صديق قدير هو الأستاذ العزيز!! هذا إلى أنه ينبغي كذلك أن نحرص على دراسة ميول الطلبة وعلى توجيههم توجيهاً سليماً بفحص ذكائهم، وكشف استعداداتهم، وإسداء مختلف النصح لهم ولذويهم كيما يدرسوا وينبغوا ويوفقوا في حياتهم الخاصة والعامة توفيقا سعيداً؛ أما حشد الطلبة في الفصول دون التفريق بين ذكيهم وغبيهم، وضبهم جميعاً في قالب واحد تنمحي فيه شخصياتهم، وتيسير العلم لهم وحشوه في أدمغتهم على نحو يشل فكرهم ويميت حماسهم وشعورهم، ثم جعل نظام المدرسة بعد هذا آليا لا وجود فيه للواجب والمسئولية والديمقراطية، فذلك كما تري أسوأ ما يمكن أن يتصور في هذه الأيام التي تقدمت فيها بحوث التربية وعلم النفس تقدما عظيما، والتي يدوي صوت رجال التربية والاجتماع بضرورة جعل المدرسة صورة مصغرة للمجتمع البشري في تطوره وتجدده وعلاقات أفراده بعضهم ببعض وبالدولة!

7 - مراعاة حاجات البلاد:

وينبغي بعد هذا أن نعمل مراعاة على مراعاة حاجة البلاد من الخريجين في مختلف نواحي النشاط المختلفة حتى لا نقع فيما نحن فيه الآن من أزمة المتعلمين العاطلين. وذلك بتحديد عدد المقبولين في المدارس الفنية المختلفة حسبما تتطلب الحاجة المستنيرة بحقائق الإحصاء الماضي والحاضر، وحسبما تدل دراسة ميول المتقدمين الحقيقية واستعداداتهم. أما ترك الأمر فوضى وقبول الطلبة في كليات الطب والعلوم والزراعة والتجارة تبعاً لارتفاع (مجموعهم) أو انخفاضه فذلك كما ترى السبب في قلة التبريز عندنا وكثرة العاطلين.

8 - الامتحانات

ويتبقى أيضاً أن نغير نظام الامتحان عندنا تغيراً شديداً لأنه بصورته الحالية لا يدل على كفاية الطالب العقلية فضلاً عن الخلقية والذوقية، ولا يفعل أكثر من تحويل نظام الدراسة إلى عملية (حشو) هائلة لا نظام فيها ولا هضم! وحسبك أن ترجع لأقوال العلماء الكثيرين في ذلك الموضوع لترضى بما أقول، وحسبك أن تقرأ اقتراحاتهم بشأن هذا التغيير لتعتقد أنه ينبغي لنا أن نهدمه هدماً!

9 - تشجيع الخريجين

ثم لا نستطيع أن نختم القول دون الإشارة إلى وجوب تشجيع الخريجين على الحياة العلمية والعملية بتقديم الأعمال التي تساعدهم على تلك الحياة كما قد بسطت ذلك بإسهاب من قبل

10 - التربية الخلقية والدينية

كما لا نستطيع أن نختمه دون التنبيه على وجوب جعل التربية الخلقية والدينية أساسية ولا سيما في مرحلتي التعلم الابتدائي والثانوي. وسبيل ذلك هو إدخال الدين في الدراسة إلى جانب الأخلاق وجعل التقدير الخلقي جوهرياً في النجاح أو الرسوب لا مجرد شكليات وقشور!

11 - التاريخ والجغرافيا

وأخيراً ينبغي أن نعني في الثقافة العامة بجعل تاريخ مصر وجغرافيته محوراً لتاريخ العالم وجغرافيته. كما ينبغي أن نعني بإبراز أجمل عصورنا إبرازاً تاماً، وبتكوين العاطفة الوطنية المتأججة في قلوب النشء كيما نجد (رجالاً) يعيشون من أجل الوطن وفي سبيله يموتون!!

وبعد فتلك نظرة عاجلة في فلسفة التربية النظرية والعملية قد طبقتها على تربيتنا تطبيقاً سريعاً حال وقتي الضيق دون توفية حقه من البحث والتفصيل، فلعي قد وُفقت ولو إلى حد التنبيه فحسب! ولعلك قد استطعت أن تلحظ مجمل نزعتي العامة من هذا المقال ومن المقالات الكثيرة التي سبقته، ثم لعلك قد سئمت هذه الدائرة وتريد مني دائرة أخرى، فإلى اللقاء إذا حيث أحدثك عن شيء آخر، ولك و (للرسالة الغراء) وافر الشكر وعاطر التحية محمد حسن ظاظا