الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 258/للأدب والتاريخ

مجلة الرسالة/العدد 258/للأدب والتاريخ

بتاريخ: 13 - 06 - 1938


مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 29 -

(مضى الأستاذ سيد قطب فيما سماه الموازنة بين الرافعي والعقاد على نهجه وطريقته؛ وقد آثرت الصمت رعاية لما بيني وبينه من صلات الود، وأغضيت في سبيل ذلك عن أشياء تنالني من قريب أو من بعيد. . .

(ولقد كان حرصي منذ بدأت هذا التاريخ أن أكون مؤرخاً وحسب، مجرداً من هوي الصاحب وميل الصديق؛ فما كان من حسنات الرافعي أو عيوبه فقد رويته على ما رأيته، إذ كان حق الأدب على أكثر من حقه. فلما كانت أولى مقالات الأستاذ قطب، هممت أن أقول شيئاً فخشيت. . .

وخشيت أن يكون لي في الدفاع حماسة توقظ هواي وحبي للرافعي فتغلبني عاطفتي على روح التجرد الذي أحرص عليه حتى أفرغ من هذا التاريخ. . . وكفاني الأستاذ شاكر هذه المئونة حين انتدب لتزييف هذا النقد

(ولكن الأستاذ قطب استمر مسرفا في التجني، ومضى يقول. . . ويقول. . . ويتهمني في النهاية بأنني انحرفت عن منهج المؤرخ، وكنت عنده شبيها بمن يجلس في المأتم ويرمي الناس بالحجارة. . . وعفا الله عنه. . .!

(فأن كان هذا هو كل عذر الأستاذ قطب من تمزيق أكفان الموتى بأظفاره فقد بلغ وأبلغ، وسيذكر عذره هذا غداً فيما يؤثر من لطيف الأعذار، ولكنه لن يبلغ من القوة أن يمحو التاريخ الذي كان، وإن ساءه وأحفظه أن ينسب هذا التاريخ إلى صاحبه الذي يحاول أن يدفع عنه أو يدفع به. . .)

(العريان)

عود على بدء لم تكن الكتابة عند الرافعي فكرة ومعنى وعاطفة فحسب؛ بل كانت إلى ذلك فناً وأسلوباً وصناعة، والأدب العربي منذ كان إلى أن يطوى تاريخه بين دفتين، هو فكر وبيان، ما بد من اجتماع هاتين المزيتين فيه ليكون أدباً يستحق الخلود. ذلك كان رأي الرافعي ومذهبه؛ فمن ذلك لم يكن يعتبر المقالة وقد انتظمت في خاطره معنى وفكرة، مقالةً تستحق أن تكتب وتنشر إلا أن يهيئ لها الثوب الأنيق الذي تظهر به لقرائها؛ وهذه هي المرحلة الأخيرة

وأول ما يعنيه في ذلك هو بدء الموضوع وخاتمته؛ لست أعني العبارة التي يبدأ بها والتي يختم، ولكني أعني طريقة البدء والختام في الموضوع. شأنه في ذلك شأن القاص: تجتمع له أسباب القصة بمقدماتها وحوادثها وما آلت إليه، مرتبة ترتيب الحادثة بما بدأت وبما انتهت؛ حتى إذا أراد أن يحكيها لمن يسمع أو يكتبها لمن يقرأ، قدم وأخر، وأظهر وأخفى، وبدأ القصة بما لم تبدأ، ليعقد (العقدة) ويرصد للحل والنفس مستشرفة إليه متطلعة إلى خاتمته. . . وكذلك كان الرافعي يفعل في مقالاته

. . . فإذا عقد العقدة ورتب موضوعه ترتيب الفصول في الرواية، آن أوان الأداء فأخذ له أهبته، فيطوي وريقاته ساعة، ليرجع إلى كتاب أي كتاب من كتب العربية يقرأ منه صفحات كما تتفق، لإمام من أئمة البيان العربي، فيعيش وقتاً ما قبل أن يكتب في بيئة عربية فصيحة اللسان. وخير ما يقرأ في هذا الباب، كتابات الجاحظ وأبن المقفع، أو كتاب الأغاني لأبي الفرج

وسألته في ذلك فقال: (نحن يا بني نعيش في جو عامي لا يعرف العربية، ما يتحدث به الناس وما ينشئ كتاب الصحف في ذلك سواء، واللسان العربي هنا في هذه الكتب. إنها هي البادية لمن يطلب اللغة في هذا الزمان، بعد ما فسد لسان الحضر والبادية. . .)

على أنه كان لا يفيد من هذه القراءة اليسيرة قبيل الكتابة إلا الجو البياني فقط. أما حروف اللغة، وأما أساليب اللغة فلم تكن تعنيه في شيء؛ فيقرأ عجلان غير متلبث كما يطالع صحيفة يومية، حتى يفرغ من الفصل الذي بدأ؛ ثم يطوي الكتاب ويستعد للإملاء

وإذا كان كثير من الكتاب تزعجهم الحركة والضوضاء وتعوقهم عن الاستمرار في الكتابة، فأن الرافعي كان - على ما في أذنيه - يزعجه أن يمر النسيم على صفحة خده. . . كان مكتبه إلى جانب باب الشرفة، وكان له نضد صغير إلى جانب مكتبه حيث أجلس ليملي علي؛ فكان يلذني أحياناً والجو حار أن أفتح باب الشرفة لأتروح، فلا تكاد تهب نسمة بجانبه حتى يكف. وعرفت عادته هذه فكنت أغلق الشرفة والنافذة معاً، لأصلي حر الغرفة أربع ساعات أو يزيد حتى يفرغ من إملائه. وكان يؤذيني من ذلك أنني كثير التدخين؛ والحر والمجهود العصبي يزيدان الرغبة فيه، فلا يمضي ساعتان منذ بدأنا حتى يفسد جو الغرفة، فأفتح الشرفة برهة لتجديد الهواء نتبادل فيها الحديث ثم أعود فأغلقها ليملي علي. . . على أنه في غير وقت الكتابة كان يحب أن يقضي في الهواء الطلق أكثر وقته، حتى في برد الشتاء القارس؛ فكان إذا فرغ من إملائه خرج إلى الشرفة البحرية يفتح صدره للهواء يعبه عبا كما يقبل الشارب الحران على الماء في يوم قائظ. . .

ولم أكن أقاطعه حين يملي علي مقاطعة ما، إلا حين أشعر أنه يهم بالانتقال في الموضوع من فصل إلى فصل، فألقي إليه ما أريد أن أقوله مكتوباً في ورقة، لأحاوره في عبارة أو لأستوضحه معنى. . . ثم يعود إلى إملائه وأنا أكتب صامتاً وهو لا يرفع عينيه إلي. . . كأنما يتحدث من وراء ستار إلى سامع غير منظور، أو كأنه في نجوى خاصة ليس فيها سامع ولا مجيب. ولقد كان يخيل إلي أحياناً وأنا صامت في مجلسي والقلم يجري في يدي على الصحيفة وأذني مرهفة للسمع - كأنه في شبه غيبوبة يتحدث إلى نفسه والمجلس خال إلا منه، فما أنا فيه بشيء إلا إدراكاً غير مجسد. وأحياناً أخرى كانت تتسع روحه وتنبسط حتى تشملني، فما اكتب كلاماً يمليه علي، ولكن تمليه نفسي على نفسي وإن صوته ليرن في أذني بما سبق إليه خاطري.

ولم يكن يملي مسترسلا، ولم يكن يملي وانياً متمهلا، ولم يكن في كل أحواله سواء؛ فحينا يطاوعه القول، وحيناً يتأبى عليه فيسكت وهو يدق على المكتب بحديدة في يده ويغمغم بصوت لا يبين؛ فإذا طال عليه الأرتاج تناول كتاباً أي كتاب على مكتبه، فيفتحه فيقرأ كلمة أو سطراً أو جملة؛ ثم يطوي الكتاب ويعود إلى الإملاء. ولقد يراه من يراه في هذا الوقت فيحسبه يملي مما يقرأ وما به ذاك، ولكنها كانت لازمة من لوازمه تعودها حين يرتج عليه وتعود أن يجد فيها مفتاح القول. . .

ولقد أرتج عليه مرة فطال به الصمت، فمد يده إلى كتاب على مكتبه وهو يقول ضاحكاً: يا أخي، لقد تعودتها وما أجد لها علة، وتعودت بها أن أجد ما أريد عن أول كلمة أقرئها ولو كان الكتاب معجماً لغويا. . .) وكان الكتاب الذي مد إليه يده هو (القاموس المحيط)، قلت: (إن في بعض الأشياء مثل المفاتيح العصبية. . .) قال: (صه، هذه هي الكلمة التي أريدها: المفاتيح العصبية. . .) ثم طوى الكتاب وعاد إلى الإملاء

وكانت له عناية واحتفال بموسيقية القول، حتى ليقف عند بعض الجمل من إنشائه برهة طويلة يحرك بها لسانه حتى يبلغ بها سمعه الباطن، ثم لا يجد لها موقعاً من نفسه فيردها وما بها من عيب، ليبدل بها جملة تكون أكثر رنيناً وموسيقى. وكان له ذوق خاص في اختيار كلماته يحسه القارئ في جملة ما يقرأ من منشآته، ولكني كنت أجد الإحساس به في نفسي عند كل كلمة وهو يملي علي. هذا الذوق الفني الذي اختص به، هو الذي هيأه إلى أن يفهم القرآن ويعرف سر إعجازه في كل آية وكل كلمة من آية وكل حرف من كلمة. وحسب القارئ أن يعود إلى تفسير الرافعي لقوله تعالى: (ولقد راودته التي هو في بيتها عن نفسه. . .) ليرى نموذجاً من هذا الذوق الفني العجيب في فهم اللفظ ودلالة المعنى، يقابله وجه آخر من هذا الذوق في اختيار ألفاظه عند الإنشاء. وكان إلمامه بمتن اللغة، وإحاطته بأساليب العربية، ومعرفته بالفروق اللغوية في مترادف الكلام - معينة له عوناً كبيراً من البلوغ بعبارته هذا المبلغ من البيان الرفيع. احتاج مرة أن يعبر عن معنى في أسلوب من أسلوبه، فأرتج عليه، فأخذ يغمغم برهة وأنا منصت إليه؛ فإذا هو يقرأ لنفسه من ذاكرته باباً من كتاب المخصص لابن سيده ثم دعا بالكتاب فأخرجته إليه؛ فما هو إلا أن فتحه حتى وقع على مراده، فطوى الكتاب وعاد إلى إملائه. . . وهو على صحة عبارته وسلامتها قلما كان يلجأ إلى معجم من المعاجم ليبحث عن كلمة أو معنى كلمة. ومع حرصه على أن يكون قوي العبارة عربي الديباجة قلما كان يستعمل عبارة من عبارات الأولين. وكم أجد على العربية من أساليبه ومعانيه. وكان له في إنشاء (الكناية) إحساس دقيق. وأحسب لو أن واحداً من أهل البيان أراد أن يتتبع ما أجد الرافعي على العربية من أساليب القول، لأخرج قاموساً من التعبير الجميل يعجز عن أن يجد مثله لكاتب من كتاب العربية الأولين؛ إذ كان مذهب الرافعي في الكتابة هو أن يعطي العربية أكبر قسط من المعاني ويضيف ثروة جديدة إلى اللغة، وقد بلغ ما أراد. إنني لم أعرف كاتباً غير الرافعي يجهد جهده في الكتابة أو يحمل من همها ما يحمل؛ وما أعرفه حاول مرة واحدة أن يسخر من قرائه أو يشعوذ عليهم ليملأ فراغاً من صحيفته يراد أن يمتلئ. على أنه أحياناً كانت تدعوه دواع إلى كتابة لم يتهيأ لموضوعها أو يفرغ لها باله، فيمليها على عجل بلا إعداد ولا توليد، ولكنك مع ذلك تجد عليها طابع الرافعي وشخصيته، فتعرف كاتبها وإن لم يذيلها باسمه. والعجيب أن هذا النوع من المقالات التي كان الرافعي يكتبها بلا إعداد ولا احتفال كان أحب إلى كثير من القراء، وكان الرافعي يرتفع به عن منزلته درجات عند طائفة من القراء. . .

والشاي أو القهوة هما كل المنبهات العصبية التي يطلبها الرافعي عندما يكتب، وفنجانة أو اثنتان هما حسبه في هذا المجلس الطويل. وعلى أنه في أخريات أيامه قد ولع بتدخين الكركرة (الشيشة) فأنه لم يكن يدخن إلا دخينة (سيجارة) أو دخينتين في مجلس الكتابة؛ فكان يشتري العلبة فتظل في درج مكتبه شهراً إذا لم يزره في مكتبه شهراً إذا لم يزره في مكتبه زائر. . .

. . . فإذا فرغ الرافعي من إملاء مقاله، تناوله مني فطواه قبل أن يقرأه، ثم يودعه درج مكتبه إلى الصباح ويخرج إلى الشرفة يشم نسيم المساء. . . ثم يأوي إلى فراشه. . .

وأول عمله في الصباح بعد صلاة الفجر أن يعود إلى المقال الذي أملاه علي في الليل فيقرأه ويصححه. . . ثم يسعى به ساعيه إلى حيث ينشر. . . ويفرغ يوماً لنفسه قبل أن يهيئ فكرة لموضوع جديد. . .

مقالة. . . هي عمل الفكر، وكد الذهن، وجهد الأعصاب وحديث النفس في أسبوع كامل؛ ولكنها مقالة. . . ومع ذلك فقد أنشأ كتاب (رسائل الأحزان) في بضعة وعشرين يوماً، وكتب (حديث القمر) في أربعين، وكتب (السحاب الأحمر) في شهرين. . . وقال قائل من خصومه: (إنه يقاسي في هذه (الكتابة) ما تقاسي الأم من آلام الوضع. . .!) وقال الرافعي يجيبه: (أتحداك أن تأتي بمثلها أو بفصل من مثلها. . . وعلى نفقات القابلة والطبيبة متى ولدت بسلامة الله!)

(شبرا)

محمد سعيد العريان