الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 258/بين الشرق والغرب

مجلة الرسالة/العدد 258/بين الشرق والغرب

بتاريخ: 13 - 06 - 1938


للأستاذ فليكس فارس

تتمة ما نشر في العدد الماضي

يقول المناظر الكريم إنه كان يتمنى لو اتسع المجال لديه ليشرح لكم الثقافة الغربية والذهنية الآرية. فهو لم يزل يأخذ بالنظرية التي جاء الاستقراء العلمي واضحاً جداً لتبجح الآريين بها

وما تلك النظرية إلا توهم اتخذ به نحو جينو وأشياعه إذ قالوا بتفوق السلالة الآرية على سائر سلالات الأرض لتفردهم بشكل خاص في جماجمهم، وبنوع خاص في شعرهم، وبلون فارق في جلودهم، فادعوا أن هذا الشكل دون سواه من بني الإنسان يملك صفاء الذهن وقوة الاختراع والعبقرية بأنواعها. غير أن الاستقراء قد اضطر دهاقنة علماء - الأحياء - إلى الاعتراف بفساد هذه النظرية بعد أم رأوا أن الجماجم التي ينطح بها الآريون السحاب إنما يحمل مثلها تماماً أقزام أفريقيا الوسطى، وأن شعورهم وجلودهم وسائر مميزاتهم الجسدية يتمتع بها كثير من القبائل والشعوب المنتشرة على وجه الأرض. . .

ثم يقول المناظر لنا أننا إذا ما أخذنا بما اكتشفه الغرب من علم يمكننا التحكم بمقدراتنا فأننا نستطيع أن نغير عقليتنا لنقتبس طرائف الغرب التي توصلنا إلى خير النتائج

ولماذا يجب أن تعمل الشعوب العربية على تغيير عقليتها وإنكار فطرتها وحوافزها التي تكونت من أعظم حوادث التاريخ طوال ألوف السنين ما دامت هذه العقلية نفسها قد أنارت الدنيا بعلومها وآدابها واكتسحت الغرب كله بروحانيتها وشرائعها؟

ولقد أورد المناظر استفهاماً إنكارياً بقوله ومتى أصلحت روحانية الشرق النفوس ما دام العالم هو هو لم يتغير بشروره؟

ونحن نقول له إن روحانية الشرق هي التي أسقطت ألوف الآلهة في الغرب عن عروشها، وأن الشعوب الآرية بدون استثناء أي عنصر منها إنما اهتدت إلى الحق والجمال في منشأ حضاراتها بتفكير الشرق ووحيه وإلهامه

فإذا نحن رجعنا بالذكر إلى حضارة أوربا الوثنية التي بنيت على خرافات الأساط يسعنا بعد ذلك أن ننكر الواقع ونقول بأن الإنسان كان سيهتدي دون أن يهدي

أما ما قاله الدكتور بانزوفيل للمناظر مصرحاً له (بأنهم سيصلحون بالعلم من البشر ما عجزت الأديان عن إصلاحه منذ ألوف السنين) فقول يطرح على بساط البحث مسألة خطيرة لا نرى بداً من إلقاء نور المنطق السامي عليها.

إن العقلية الآرية المعززة بالعلم والثقافة العالية ستقطع دابر الأجرام بوسيلة علمية هي تعقيم المجرمين.

وأنا أحد أبناء هذه الأمة العربية التي يدعى الآريون قصورها في ميدان التفكير، أنا على ما أنا عليه من ضيق الاطلاع وفي قومي من رجال العلم من لا يشق لهم غبار، أستنير بعقليتي السامية وبأيماني في العربي المكين فأقول لعلماء الغرب لقد ضللتم

وأقول بخاصة إلى الدكتور بانزوفيل إنه مغرور بعلمه وإنه لا يداوي من العلة إلا أعراضها

إن الغرب يرى تكاثر عدد المجانين والبلهاء والمجرمين في شعوبه فلا يبحث عن منشأ العلة ليداويها بل يعمد إلى تعقيم ضحايا مدينته وثقافته ظناً منه أن هناك بعضاً من الأسر المصابة بداء وراثي وإنه إذا قضي على تناسلها خنقت العلة في منشأها!

ويل لهم! إنهم إذا استمروا على هذه المعالجة فأنهم سيعقمون ثم يستأنفون التعقيم إلى أن يقضوا على النسل بحجة تحسينه

إن للأجرام وللجنون وللبله جراثيم لم تتولد أصلاً من الأرحام.

ليفتشوا على هذا الجراثيم فأنني أراها بعين الخيال الشرقي والإلهام العربي مكبرة كالثعابين تتململ في المراقص وفي الحانات وفي المواخير التي أراها تكتسح هذه المعامل التي فتحت فيها الآلات أسواق النخاسة الفاتلة، أراها في كل مكان لا تسود عقليته الرحمة الموحاة من السماء، بل أراها حتى على فراش الزواج الذي أصبح تجارة وشركة بين أنانيتين.

ليعقموا ما شاءوا من المجانين والمجرمين، فإن هذه الحضارة التي أقامت العجل الذهبي لها إلهاً ستقذف للدكتور بانزويل وإخوانه بألوف من الزبائن لا ينتهي عددهم حتى ترجع مدنية الغرب إلى عقلية الشرق وثقافته

أما فرويد فنظريته صحيحة في هذه الأمراض النفسية التي تفتك فتكاً ذريعاً في أبناء المدنية الغربية، وما كانت مثل هذه الأمراض لتعيب أبناء بلادنا في العصور الماضية إلا في القليل النادر لأن الذهنية الشرقية لم تحارب الغريزة الجنسية بل اعتبرتها جزءاً من إيمانها. وما التبتل إلا بدعة طرأت على تعاليم عيسى فاحتضنها الغرب وجعلها على ما هي والشرق منها براء، وهذه شريعة النبي الكريم قد أتت بما لا حاجة لنا معه بمنظار الذهنية الغربية الذي كشف للعالم كما يقول المناظر إن الحياة الجنسية نور الحياة. وإنني لواثق من أن مثل هذه الأمراض النفسية التي تنشأ من كبت الغرائز لا يمكنها أن تصيب مؤمناً عربياً يعمل بشريعته لأن الدين دين الفطرة قد أنزل لتنظيم قوى الحياة لا لقتلها

وأخيراً أراد المناظر الكريم أن يثبت لنا أن الموسيقى الغربية خير من موسيقى الشرق وحجته العلمية في ذلك أن الغناء العربي إنما هو هتاف بصوت واحد في حين أن الغناء الإفرنجي غني بما فيه من طباق بين عدة أصوات

ونحن إذا ما صرفنا النظر عن الغرائز المستقرة في العقل

الباطني والتي يصدر عنها الفني الخاص بكل أمة وبحثنا

الموسيقى من وجهة علمية استقرائية نجد أن الموسيقى العربية

أصدق تعبيراً للطبيعة وأدق تصويراً للمشاعر بعديد نغماتها

في الصوت المنفرد فأن الموسيقى العربية تمثل في نغماتها

السبع الأساسية ألوان الطيف يتفرع منها ما يزيد على السبعين

نغمة تخضع مرنة ناعمة للعاطفة فتظهر خفاياها كصورة

اختطفت عن الأصل جميع أنوارها وأظلالها. أما العروسان

الغربية التي تسجن الصوت في مقام ونصف مقام أعلى

وأدنى، ولا تستوعب ربع الصوت وتمنه بل و116 منه

تتناوله الموسيقى العربية إنما هي أشبه بالفرشاة الخشنة في يد رسام لا يمكنه أن يصور من المرئيات غير خطوطها الأولية.

إن الموسيقى الغربية رست على الطباق أو المطاوعة فكان لا بد لها من كبت النبرات الدقيقة المتمردة على الطباق ومن الاكتفاء بنغمات معدودات هي محل ثروتها. أما الموسيقى العربية فأنها هتاف عميق من النفس منفردة تجاه الوحدة المتجلية في مسلهمات الشرق ديناً وفناً. فهي وإن نقصها الطباق لعدم ملاءمته لحريتها ودقة نبراتها لا تزال حتى في دور انحطاطها اليوم، أغنى بأوزانها ونغماتها من الموسيقى الغربية الفنية بالصخب والفقيرة بالتنوع المنفرد!

إما أن تكون موسيقى الطبيعة أشبه بالموسيقى الغربية كما يقول المناظر فذلك ما لا نوافقه عليه ولبس في الطبيعة أجواق تتوافق على الهتاف بنشيد يطربك فأنك إذا ما أصغيت إلى بلبل واستسلمت نبراته المتناسقة الصافية وهو منفرد يذهب إنشاده إلى أغوار مشاعرك فتشاركه بما يلهمه النشر من شعر حنينه كلمات وتلاعبه معاني لا يدركها إلا المستغرق المطل على وحدة الوجود. ولكنك إذا وضعت عشرين بلبلاً أو عشرين مداحاً من أنواع الأطيار وأطلقوا جميعهم أصواتهم فعندئذ ندرك أن الطباق ليس من روح الطبيعة بل هو من أوضاع فناني الغرب الذين لم يهتدوا إلى الوحدة المليئة بالتنوع فاخترعوا لهم موسيقى مبنية على المطاوعة ليسدوا مجاعة إنشادهم المركب الفقير

وما أطول ما أقوله عن جهل للموسيقى الغربية فأنني قد ألفتها منذ كنت طفلاً وقد ألقت أناملي طويلاً استنطاق أوتار عودي العربي فأنا أفهم الأنغام التي قسمها الفارابي كما أفهم موسيقى موزار وبيتهوفن بل وموسيقى باغ أيضاً. ويمكنني أن أؤكد لكم أن الفن الغربي على ما بذل فيه من جهود لا يرتكز على أساس من الموسيقى الطبيعية التي تتجلى بكل روعتها في الإنشاد العربي المنفرد. ولو أن رجال الفن عندنا أدركوا هذه الحقيقة وانصرفوا إلى شرقية موسيقانا على أساسها دون أن يستهويهم ما يتوهمونه رائعاً في الموسيقى الغربية لكانوا ينتزعون من الطبيعة أروع موسيقاها ولكن أكثرهم كمن لديه ثروة يطبق خزانته عليها ليذهب مستجدياً من الغريب كسرات تتخمه ولا تسد جوعه

لعلني بعد هذا البيان الموجز تمكنت من إقناع مناظري الكريم أولاً: إن العرب عندما رقوا العلوم ونشروها وأوجدوا أهمها، إنما عملوا بعقليتهم الشرقية العربية. وإننا لسنا بحاجة لتقليد الغربيين في أسلوب تفكيرهم لنجاريهم في مضمار العلوم.

ومن العرب اليوم في أوربا وأميركا ومصر وسائر الأقطار العربية علماء في كل فن يفتخر العالم بأسره غربه وشرقه بسعة اطلاعهم وعبقريتهم وما بلغ هؤلاء الأعلام مقامهم إلا بعقليتهم العربية

ثانياً: إن العلوم الوضعية مشاع بين البشر جميعهم فليس على الأرض سلالة خصها الله بالعلن دون سواها

ثالثاً: إن لكل شعب، فطرته وهي ميزة خاصة في الذوق واختصاص في فهم الحياة والتمتع بها، وإن كل أمة تستبدل ثقافة غريبة بثقافتها إنما تؤلم فطرتها وتميت شخصيتها

رابعاً: إن الأخذ بالعلم عن أي شعب لا يستلزم مطلقاٌ اقتباس طرق حياته في الأسرة والمجتمع وتقليد ذوقه وسكناته وحركاته فأن العرب عندما احتضنوا العلوم الاستقرائية عن اليونان لم يأخذوا الفطرة اليونانية ولا ذوقها ولا معتقداتها كما أن أوربا عندما تلقت هذه العلوم عن العرب لم تتعرب بل بقي فيها كل شعب محتفظاً بثقافته. هذا فضلاً عن أن في الغرب ثقافات قد يراها من يحدجها من بعيد على شيء من التقارب غير أن من يدرسها عن كثب ليدهشه ما بينها من فروق تتناول صميم الذوق والعقيدة والشعور، فأي هذه الثقافات يشار على الشرق بأن يتبع وهل يظن المناظر الكريم أن تجربة التقليد شيء جديد لم يتضح لنا زيغه بعد. أفلا نرى في كل بلد من هذا الشرق العربي عدداً من المتفرنسين والمتألمنين والمتأكلزين والمتروسين الخ خرجوا عن الثقافة العربية وامتنع عليهم أن يتصفوا بالثقافات التي استهوتهم فأصبحوا لا للغرب يعرفهم ولا للشرق يعترف بانتمائهم إليه.

وهنالك ظاهرة غريبة نشأت من هذا التقليد وهي النعرة التي استحكمت بين هؤلاء المقلدين وهم أبناء البلد الواحد؛ فأنك لن تجد متفرنساً يمكنه الاتفاق مع متألمن أو سواه من المستغربين

كل إنسان يجبن أمام الحوادث في حياته فيلين لها حوافزه وفطرته إنما هو شخصية تائهة فقدت ذاتها، إنما هو الشبح الباكي، والحي المستجبي؛ ولقد تلمع إحداق مثل هذا الإنسان بالظفر والمجد، ولكن أنوار السعادة تبقى منطفئة في عينيه، ونحن كأمة لا قبل لنا بأن نتحكم في هذا الناموس الثابت لأن فطرتنا مقدورة علينا كامنة فينا؛ كل أمة تحيا على غير ما تسوقها فطرتها إليها فهي أمة باكية بدموع صامتة، هي أمة مستضعفة مستعبدة لا معنى لحياتها ولا سعادة لها فيها

إن شعوب الشرق العربي مسؤولة أمام تاريخها بالمحافظة على ثقافتها وإحيائها والأخذ بما وضع لها وحي أنبيائها وإلهام عباقرتها لتجديد حضارتها، وإن كانت مدنية الغرب الحديثة؛ ترى الارتقاء يقوم على العلم وحده، على الاستقراء دون الاستلهام فأن للشرق العربي المستحفز للوثوب دستوراً يتضمن الحكمة علمته وفي العمل بها العظمة الحقيقية لكل إنسان ولكل شعب وهي:

أعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، واعمل لدنياك كأنك لا تموت أبداً

فليكس فارس