مجلة الرسالة/العدد 257/ليلى المريضة في العراق
→ كلمة على الهامش | مجلة الرسالة - العدد 257 ليلى المريضة في العراق [[مؤلف:|]] |
التاريخ في سير أبطاله ← |
بتاريخ: 06 - 06 - 1938 |
للدكتور زكي مبارك
- 20 -
تأهبت ظمياء للكلام فاستوقفها لحظتين لأنظر الأشرطة السينمائية التي يعرضها الشقاء أمام خيالي. فهالني أن اشهد ألوف المناظر وفيها المفرح والمحزن والأخضر والأسود، وضجت في أذني تلك الكلمة الباغية التي قالها أحد الزملاء المصريين وقد ترامت الأخبار بما بيني وبين ليلى من خلاف، قال ذلك الزميل وهو يلتهم حساء البقلة الحمقاء:
(كان رأيي من أول يوم أن الحكومة المصرية أخطأت في اختيار زكي مبارك لمداواة ليلى المريضة في العراق وهي تعلم أنه عجز عن مداواة ليلى المريضة في الزمالك)
أنا عجزت عن مداواة ليلى المريضة في الزمالك؟
أنا ما عجزت، وإنما رأيتها لئيمة لا تحفظ الجميل فضننْتُ عليها بالطب والدواء، وأخذت أدرس ما صرت إليه في هوى ليلى. فحب هذه المرأة هو أخطر ما عرفت في حياتي من ظلام وضلال
أحبك يا ليلى أحبك؟
وإنما كان كذلك لأنه ابتدأ بالعطف، عطف الصحيح على العليل، والعطف يؤصَّل جذور الحب ويهيَّئ القلب للهيام العَصُوف
كانت ليلى تصح على يدي من يوم إلى يوم، وكان حالي معها حال اَلْجنان الذي يتعهد إحدى الشجرات بالسقي والرعاية فتنمو عواطفه بنموها من حيث لا يعرف، ثم تصبح الشجرة وهي معبودته من دون البستان
أحبك يا ليلى أحبك
ورأت ليلى شغفي فلم تفطن إليه، ولعلها كانت تراه لوناً من ترفق الأطباء فمضت تناضلني الصحيح للصحيح، ولم تدر ما نقل المشرط إلى دمي، وآه ثم آه مما ينقل المشرط، فالناس لا يفهمون كيف يعيش العليل وجسمه موبوء بالجراثيم على حين تكون جرثومة واحدة ينقلها المشرط إلى جسم الطبيب وهو صحيح كافية لتقتل الطبيب
الناس لا يفهمون هذه الظاهرة وهي عندهم من الغرائب ولكن تعليلها سهل. وهي أول درس تلقيته بكلية الطب في باريس
السبب يرجع إلى شعور الطبيب بخطر الجراثيم، فهو حين يشعر بانتقال العدوى إليه. ينفعل جسمه كله دفعة واحدة فيصرعه المرض
وهذا يشبه تمام الشبه ما يقع في عالم الاخلاق، فالرجل صاحب الوجدان السليم تؤذيه الهفوة الصغيرة فيقضي سائر عمره في استغفار وقد يقتله تأنيب الضمير، ولا كذلك المريض بالجسم والوجدان، فالأول يعاني العلل المهلكات ثم يموت قبل أو أن الموت، والثاني يُجرم نحو نفسه ونحو الإنسانية ثم يعيش وهو مستور الحال، لأنه يجهل خطر ما يصنع
ومن أجل هذه المعاني عشت شقياً في حياتي، فأنا تلميذ قديم من تلاميذ الغزالي، وكل شيء يجوز عندي إلا إيذاء الناس، وقد يتفق في أحيان كثيرة أن أهجم على خصومي بعنف، ولكنه عنف مصطنع، لأني لا أحشو المسدس بغير البارود، فيثور من حولهم الدخان، ثم يسلمون لأن القذيفة لم يكن فيها رصاص
ويصنع خصومي غير ما أصنع، لأني غبيَّ وهم أذكياء!
هم يحشون المسدسات بالرصاص ثم يقذفون، وكم يبقى الرميَّ على نبال؟! أولئك أعدائي، والعداوة الأثيمة تستبيح كل قبيح
ولكن ما ذنبي عند ليلى حتى تفضحني بين قومي وتضيع مستقبلي في مداواة الملاح؟
ما ذنبي عند ليلى التي هجرت في سبيلها وطني وأهلي؟
ما ذنبي عند ليلى؟ ما ذنبي عند عيونها السود وخدها الأسيل؟
ما ذنبي عند ثناياها العِذاب وصوتها الرخيم؟
أحبك يا ليلى وأستعذب في هواك كل عذاب
- ظمياء، ظمياء
- عيوني، عيوني
- هاتي التهم الثقال التي تفضلتْ بها ليلاي. انقليها بترفق ما أحب أن أموت في بغداد، فمقابرها مهجورة منسيَّة، كأنها مقابر المحبين، وليس فيها مسجد استروح بأن يصلَّي علىَّ فيه يوم أموت، فمساجدها تعرف الجمال في القباب وتجهل الجمال في المحاريب - أعرني أذنيك يا دكتور
- أعرتك قلبي، يا ظمياء
- أنت متهم عند ليلى بالشيوعية
- بالشيوعية؟ وكيف سكتت عني إذاً حكومة العراق، وبصرها أحدَّ من بصر ليلى ولها عيون تنقل إليها كل شيء؟
- حكومة العراق تحارب الشيوعية الاقتصادية، وأنت متهم بالشيوعية الوجدانية، وليلى تعاقب على ذلك
- وأين شواهد هذا الاتهام الفظيع؟
- ما ظلمتك ليلى، وإنما ظلمت نفسك، فأنت الذي تقول
أَصْباك ما خلفَ الستار وإنما ... خَلْفَ الستائر لؤلؤ مكنونُ
والناس في غفلاتهم لم يعلموا ... أني بكل حسانهم مفتون
- ما قلت الشعر يا ظمياء
- هو في ديوانك المطبوع
- هذا شعر دسه السفهاء
- وكيف سمحت بنشره في ديوانك؟
- ما أذكر كيف سمحت، فقد كنت عضواً في جمعية أبوللون، وأرادت الجمعية أن تصح انتسابي إلى الشعراء فلفقت باسمي طائفة من الأشعار وأخرجتها في ديوان
- ولكن ليلى تقول إن في نثرك ما يؤيد هذا المعنى
- وكيف؟
- في بعض ما نشرت في جريدة البلاغ مقال تقول فيه إن الأطلال تملأ روحك بالمعاني لأنها تعيد إلى خيالك تاريخها القديم يوم كانت ملاعب تمرح فيها الظباء
- هذا أيضاً مدسوس
- وكيف؟
- كان لي بجريدة البلاغ زميل يعطف على أدبي، هو الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، وكان يؤذيه أن تخلو مقالاتي من المعاني الوجدانية، فكان يضع اسمي على ما يبدع من صور الوجدان
- أنت تسيء الدفاع عن نفسك يا دكتور
- دليني كيف أدافع عن نفسي، يا ظمياء؟
- أما تعرف كيف تدافع عن نفسك؟ أنا ألقنك الدفاع عن نفسك. قل إنك تعشق جميع الصور وتهيم بجميع المعاني
- هاتي يدك أقبلها يا ظمياء
- أعجبك كلامي؟
- ما هذا كلاماً، إن هو إلا سحر مبين، فأنا حقاً أعشق جميع الصور وأهيم بجميع المعاني؛ وظواهر الوجود هي عندي صور شعرية تموج بألوان السحر والفتون. الدنيا يا ظمياء لوحة فنية صاغها بديع الأرض والسموات، فما فيها من حسن فهو صنع فنان، وما فيها من قبح صُنْع فنّان، فأنا أدرس المحاسن والمساوي بذوق واحد. وقد أتفلسف يا ظمياء فأزعم أن خَلْق الوجه الدميم أصعب من خلق الوجه الوسيم. وعلى أهل الدمامة أن يشكروا خالقهم فقد سوّاهم بعناية، ثم تلطف فأباحهم التقلب في بقاع الأرض، وجعل لهم في دولة القبح سلطاناً. فان لم يشكر هؤلاء القباح خالقهم فسأشكره بالنيابة عنهم، وسأتصدق عليهم بالعطف والحنان
- دكتور، أنا أحبك!
- وأنا أبغضك يا ظمياء!
- أقول لليلى إنك أحسنت الدفاع عن اتهامك بالشيوعية في الحب؟
- ما تهمني ليلى، وإنما يهمني أن أحاسب خالق ليلى
- احترس يا دكتور، فهذا كفران
- سأحاسب ربي قبل أن يحاسبني، فما قضيت شبابي في دراسة الأدب والفلسفة إلا لأعرف كيف أناقشه الحساب، وسوف تنظرين
- كفرت، يا دكتور، كفرت
- الكفر الحق هو أجمل صورة للإيمان الحق
- وكيف؟ - ما تعرفين كيف وأنت وصيفة ليلى وخدينة الدكتور مبارك؟
- لست خدينتك
العفو! العفو! يا ظمياء
- تشتمني يا دكتور؟
- إنما أداعبك يا ظمياء، فاغفري ذنبي
- يغفر الله لك
- ويفغر الحب؟
- أسأل ليلاك
- غضبة الله ولعنة الحب على ليلاي!
- ظمياء!
- عيوني!
- تلك التهمة الأولى، فأين التهمة الثانية؟
- ليلى تتهمك بما اتهمتْ به الضابط عبد الحسيب
- وكيف اتهمت ذلك المسكين الذي سارت أخبار شقائه مسير الأمثال؟
- اتهمته بخيانة العروبة
- وهي تتهمني بخيانة العروبة وقد أَذْوَيت شبابي في خدمة لغة القرآن؟؟
- إن ليلى قرأت خطبتك في نادي المثَّنى عن العروبة المصرية وقد نشرتها جريدة البلاد
- وما الذي عابته ليلى على تلك الخطبة؟
- العيب في ذلك أنكم في مصر لا تفرقون بين العروبة وبين الإسلام
- هذا صحيح يا ظمياء
- وهذه جريمة عربية يا دكتور
- اسمعي يا ظمياء، ثم بلغي ليلى ما أقول. العروبة يا طفلتي يا طفلتي الغالية في حاجة إلى إسناد قوية من الصداقة والعطف، وإسناد العروبة لن تكون في الممالك الأوربية، وإنما ننشدها في الممالك الاسلامية؛ والسياسي الحكيم هو الذي يتعب في خلق الأصدقاء، والإمبراطورية البريطانية لن تفنها جيوش البر والبحر والهواء عن التفكير في خلق الأصدقاء. والإسلام قوة يتودد إليها هتلر وموسوليني، وتشقى روما ولندن وباريس وبرلين في التعرف إلى مدارج هواه، وليس في بلاد الله قوة سياسية إلا وهي تحسب ألف حساب لغضب المصحف فما ذنبي عند ليلى أعلنتُ إسلامي؟ ما ذنبي عند ليلى وأنا أخلق لقومي وقومها جيوشاً من العواطف والقلوب؟
- ولكن الإسلام غير العروبة
- تلك يا ظمياء دسيسة استعمارية، هي دسيسة حيكتْ شباكها لتقويض الإمبراطورية العثمانية. وقد تقوضت لأن الأتراك عجزت حيلتهم عن قرض خيوط تلك السياسة، فهم اليوم أمة من الأمم، وكانوا بفضل الإسلام سادة المشرقين
- احترس يا دكتور فهذه سياسة، والسياسة محرمة على الموظف
أعترف أني موظف في حكومة العراق، ولكن لا خوف. فأنا أتهيب الشر في كل أرض، إلا في العراق؛ وأعتقد أن حكومة العراق لا تصادر حرية الرأي إلا إذا صدرت عن المنافقين، وقد حماني الله من النفاق. وقد عجب ناس من أن تسكت عني حكومة العراق على كثرة ما قلبت من وجوه الآراء في الصحف والمجلات. فليفهم الدساسون أن حكومة العراق فوق ما يظنون، والله من وراء الدساسين محيط، وسوف يعلمون
- إن العراق يثق بك ويعطف عليك يا دكتور
- وفي حماية تلك الثقة وذلك العطف أقول: إن أوربا اللئيمة خلقت فكرة لتقسيم أهل الشرق إلى عرب ومسلمين، وقد أحسست هذا المعنى حين بدأت أتعلم اللغة الفارسية في باريس سنة 1927 فقد رأيت معجما فارسيا فرنسيا نشر منذ أكثر من أربعين سنة وفي مقدمته تحريض صريح على قطع الصلات بين العرب والفُرس؛ وأعتقد أن مقدمة ذلك المعجم هي السبب في ثورة الأتراك والإيرانيين على الحروف العربية
- أخطأ الأتراك وسيخطئ الإيرانيون
- وماذا صنعنا لدفع هذا الخطأ يا ظمياء؟ لقد تجشمت مشيخة الأزهر ما تجشمت وأنفقت ما أنفقتْ، لترسل بعثة من العلماء إلى الهند، فهل فكرت هذه المشيخة في إرسال بعثة إلى تركيا أو إيران؟ هل فكرت مشيخة الأزهر في إرسال رجل أو رجلين لتذكير الفرس بماضيهم في خدمة اللغة العربية؟ هل فكرت في إرسال وفد إلى الغازي مصطفى كمال يذكره بأن الحقد على العرب الذين خذلوا تركيا في الحرب لا يصح أن ينسيه فضل العرب الأبرار الذين نقلوا إلى تركيا بذور الإيمان بالله والرسول؟
هل قام رجل مؤمن يقول للأتراك: هبوا سيئات الحاضر لحسنات الماضي؟
هل قام رجل مؤمن يقول لأهل إيران: إن العرب إخوانكم في الله فلا تجرحوا إحساسهم بهجر الحروف العربية؟
لقد قمت بهذا الواجب وحدي فأقنعت وزيرين في العراق، وفكرتُ في الهجرة إلى إيران لأصلح ذات البين بين العرب والفرس. ولكن كيف وأنا رجل يرهقه جدول الدروس وتنهب عافيته دفاتر التلاميذ؟
لقد زار بغداد منذ أشهر صحفي إيراني ودعائي الأستاذ إبراهيم حلمي للتسليم عليه، فلم أستطيع مخاطبة بغير الفرنسية، مع أنه نشأ في وطن كان بعض أهله لا يعرفون غير العربية، ولذلك الصحفي جريدة تصدر بلغتين هما الفارسية والفرنسية، ولو كنا حفظنا العهد لكانت اللغة الثانية عربية لا فرنسية
- يظهر أنك مؤمن يا دكتور
- أنا ملحد يا ظمياء، فما يسرني أبداً أن أحشر نفسي في زمرة المسلمين الغافلين الذين يفكرون في إصلاح الوثنية الهندية ويغفلون عن هداية الثائرين على الإسلام في بلاد كانت من الدرر اللوامع في تاريخ الإسلام
- أنت مؤمن يا دكتور
- أنا كافر يا ظمياء
- أعوذ بالله!
- وأنا أعوذ بالشيطان!
- تعوذ بالشيطان؟ يظهر أنك ملحد حقاً وصدقاً
- اسمي يا ظمياء، الشيطان مخلوق شريف لأنه لا ينافق، فهو يعلن في كل وقت أنه من الضالين المضلين، ولو كشف كل إنسان عن سريرته كما كشف الشيطان عن سريرته لأصبحنا جميعاً من الملائكة لا من الشياطين
- أنت إذاً تعبد الشيطان؟ - أنا أعبد الله وأحب الشيطان
- قف عند هذا الحد يا دكتور
- سمعت وأطعت
(للحديث شجون)
زكي مبارك