مجلة الرسالة/العدد 257/كلمة على الهامش
→ بين العقاد والرافعي | مجلة الرسالة - العدد 257 كلمة على الهامش [[مؤلف:|]] |
ليلى المريضة في العراق ← |
بتاريخ: 06 - 06 - 1938 |
للأستاذ علي الطنطاوي
أنا لا أحب أن أنزل إلى ميدان المناظرة بين الأستاذين الفحلين شاكر والعريان، والأستاذ قطب؛ لأنه لا يقوم لأحدهما بله أن يعينهما عليه معين، على أن الحق لعمري يعينهما. ومع الحق بيان يجلو الحق، ولغة فخمة كأن فيها روحاً من روح الرافعي رحمه الله، ولهذا البيان قراء يبلغون مائة الألف انعقدت قلوبهم على محبة الرافعي وإجلاله، وآمن منهم من آمن بأن الرافعي رجل لم يكتب بالعربية من هو أبلغ منه بلاغة. . . فما حاجة ضعيف مثلي أن ينزل إلى الميدان؟
وفيما الخلاف؟ في (إنسانية) الرافعي!. . .
الأستاذ قطب يشك في (إنسانية الرافعي). . . أي أنه يشك في أنه إنسان، فماذا يكون إذن؟
ثم ماذا؟ ثم أنه (على رأي سيد قطب) تنقصه العقيدة! والعقيدة مشتقة من العقد، قال في اللسان: عقد قلبه على شيء لزمه. . . واعتقد كذا بقلبه أي رآه، فلابد إذن لتمام كلمة الأستاذ قطب من أن يبين الشيء الذي ينقص الرافعي رضي الله عنه اعتقاده، وألا فكلامه لا معنى له في العربية. . فهل ينقص الرافعي العقيدة في الدين، أو في الوطنية، أو ينقصه اعتقاد مذهبه في الأدب. أو ماذا؟
أو هي ألفاظ تساق ولا يدري لمساقها غاية إلا التهويل بها على القراء؟
هذه مسألة لا يصح أن يكون عليها خلاف، أو تدور عليها رحى مناظرة. . .
أما جوهر الخلاف بين أدب الرافعي وشعر العقاد، فهو الخلاف بين الأسلوب الذي يعتمد على البيان والصحة والصناعة والجمال، وبين الأسلوب الذي يستند إلى المعنى المبتكر، والصورة الجديدة، لم يظهرهما لفظ قوي، ولا أداء مستقيم. فالعقاد في شعره مبتكر مجدد، ولكني أشبه ألفاظه وهي تحمل معانيه، بصبيان ضعاف مهازيل، يحملون الصخور العظيمة فتسحقهم ويموتون تحت أثقالها. . . كما أني أجد من الأساليب ما أشبه ألفاظه ومعانيه بعمالقة ضخام، ولكنهم يحملون حفنة من الحصى
فالخلاف إذن على اللفظ والمعنى، هذه المشكلة التي تكلم فيها الجاحظ، ولم ينته القول فيها بعد. على أن في إطلاق اللفظ والمعنى تجوزاً، لأنه يستحيل أن يكون في الوجود لفظ ب معنى، من يذكر كلمة السماء ولا يتصور هذه القبة الزرقاء، أو يسمع اسم الكتاب ولا يذكر هذه الصحائف المجموعة؟ كما يستحيل أن يكون بلا معنى بلا لفظ، لأن هذا المعنى يبقى خاطراً هاجساً في نفس صاحبه لم يدخل نطاق الأدب. ولكن الكلام في قطعتين أدبيتين، إحداهما تزدان بالتعبير الجميل، والأسلوب البارع ولكنها تصف شيئاً تافهاً، أو تدور على معنى سخيف، والثانية يتصور صاحبها ناحية من نواحي النفس البشرية، أو ظاهرة من ظواهر الكون، فتجيد التصور ولكنه يعجز عن التصوير، فأي هاتين أسمى مقاماً وأدنى إلى الأدب الخالص؟
هذه هي المسألة!
أما المتقدمون من نقدة الأدب العربي فأكثرهم على أن المعاني على قوارع الطرق، وإنما يتفاضل الناس بالألفاظ. وليس معنى هذا احتقار المعنى وتهوين شأنه، فإن للمعنى المقام الأول عند نقادنا، ونستطيع أن نقرأ الفصل القيم الذي عقده الإمام الجرجاني في الدلائل، ولكن معناه أن الشعور بالجمال عام، ولكن الناس يتفاضلون بالتعبير عنه؛ إذا نظر جماعة من الناس إلى مغرب الشمس في البحر، أو بزوغ البدر من وراء الجبل، أدركوا جميعاً جمال ما يرون (وإن كان كل يدرك على نسبة استعداده وهوى نفسه)، وإن وقف جماعة في موقف الوداع أحسوا جميعاً بالألم يغمر نفوسهم، ولكن هذا الإدراك وهذا الإحساس لا يسميان أدباً، وإنما الأدب هو الصيغة اللفظية التي يعبر عن هذا الإحساس؛ وعلى مقدار التوفيق في هذه الصياغة تكون قيمة القطعة الأدبية
هذا هو الحق، ولكن هذه الفئة من المجددين، أرادت حين عجزت عن الأداء المستقيم والصياغة البارعة والديباجة الصافية أن تقلل من قيمتها وتحقرها، وتسمي كل أديب يعرف للغته حقها وكل أديب آتاه الله ملكة قوية، تسميه سطحياً فارغاً. ولقد بلغ من فساد أذواق بعض هؤلاء المجددين أن قرأت مرة لواحد منهم فصلاً يقدم به لكتاب، فوقع له فيه مجاز حلو أحسست لما قرأته بمثل ما أحس به حين تطلع على من الطريق فتاة جميلة، وعجبت له من أين جاء به، ولكن عجبي قد بطل حين رأيته يتعذر منه، ويريد أن يواريه كما يواري المرء سوأته، لأنه - زعم - يكون (بهلواناً) إذا جاء بمجاز حلو، فليتصور القارئ أي شيء يكون الأدب إذا اطرح المجاز واقتصر على الحقيقة؟ هذا سر الخلاف في رأيي. والرافعي رضى الله عنه، قد بلغ هذه الصناعة، وفي توليد المعاني، وفي نخل الألفاظ وتصفية الديباجة ما لم يبلغه كاتب عربي، فلا عجب إذا أبغضه خصوم البيان العربي
والعجب من الأستاذ سيد قطب! يأبى أن يناقش الأستاذ العريان لأنه لم يأته على أغراضه بدليل. . . ثم ينقد أبياتاً للرافعي يقطر ماء السلاسة من أعطافها، وتنطق كل كلمة فيها بألم صاحبها في حبه، وعذابه في غرامه لا، حين سمع أن للحب ليناً ووصالاً، ولكنه لم ير إلا قساوته وجفاءه، فهو يسأل المحبين كيف يكون هذا اللين، وينظر حوله فإذا قد (قضى كل ذي دين فوفى غريمه) فيأسى ويألم لنفسه أن بقيت ديونه وحدها لم توف. ثم يمد يده ينظر هل من مسعد أو من معين، ولكنه لا يريد مساعدة ولا عوناً، هو هانئ بالحب لأن الحب أهنئه حزينه، قال:
من للمحب؟ ومن يعينه؟ ... والحب أهنئه حزينه
أنا ما عرفت سوى قسا ... وته فقولوا كيف لينه
أن يقض دين ذوي الهوى ... فأنا الذي بقيت ديونه
فلا يجد نقداً لهذه الأبيات الثلاثة (وثالثها مأخوذ من بيت كثير المشهور، لم يتنبه لذلك سيد قطب) إلا أنها تقليد لشعراء الدول المتتابعة والمماليك في مصر. . .
هذا هو النقد الفني عند الأستاذ سيد قطب!
ويقول الرافعي رضى الله عنه:
قلبي هو الذهب الكريم ... فلا يفارقه رنينه
قلبي هو الألماس يع ... رف من أشعته ثمينه
فلا يفهم سيد قطب من هذا التشبيه البليغ إلا (أنه يذكر قلبه في سوق المجوهرات من الذهب والألماس معتقداً أن تلك المعادن أثمن من القلوب لأنها تقوم بالمال الكثير من السوق) - مع أن الأستاذ قطب يدعي في رأس مقاله بأنه أفهم لأدب الرافعي من الأستاذ العريان، فهو إذن يتعمد أن يتظاهر بأنه لم يفهم هذين البيتين لغرض في نفسه. . . ولا حيلة لنا معه في ذلك!
والأنكى من ذلك كله. . . أن ينقص هذا البيت الذي يعدل والله قصيدة، بل ديواناً من دواوين الغزل:
قلبي يحب وإنما ... أخلاقه فيه ودينه
أن انتقاد هذا البيت وتشبيهه وما بعده بالخطب المنبرية الجافة تحقير للحب، وتنزيل له إلى حيث يخالف الدين والأخلاق حتماً، ودعوى ضمنية بأن المحب لا يستطيع أن يحتفظ بخلق ولا دين!
على أن للرافعي رحمه الله عيوباً ومزايا. وليس إلا الله خالياً من العيوب، والرافعي ملك للنقد، ولكن للنقد شرائط. . . أولها أن يلقي الناقد عنه هواه، ويطرح بغضاءه. فأن البغضاء تدفع إلى الظلم، والهوى يعمى ويصم!
دمشق
علي الطنطاوي