الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 255/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 255/التاريخ في سير أبطاله

بتاريخ: 23 - 05 - 1938


إبراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .

- 12 -

وحدث أن كان مولد الحزب الجديد في نفس العام الذي كانت تختار البلاد فيه رئيسا جديداً للولايات، فكان النشاط السياسي بذلك مضاعفاً؛ وأحس الناس جميعاً أن مسألة العبيد قد أصبحت القطب الذي يدور عليه هذا النشاط السياسي فألقوا بالهم إليها على نحو لم تسلف بمثله فترة في تاريخ البلاد

وعرف الحزب الجديد كما أسلفنا باسم الحزب الجمهوري؛ ولقد أخذ الداعون إلى إنشائه ينشرون الدعوة له في كل ولاية؛ وكان أول اجتماع أهلي لهذا الحزب عام 1856 في مدينة فيلادليفيا؛ أما عن مذهب الحزب فقد أجتمع أيضاً مرة أول الأمر على فكرة نجملها في العمل على مقاومة انتشار العبيد كما جاء في اتفاقية مسوري؛ وكان هؤلاء الأنصار في الولايات أخلاطاً من الأحزاب الأخرى تراهم وإن اتفقوا على المذهب أو كادوا، لا يزالون مختلفين في الوسيلة.

ولم تك الينوس تلك الولاية التي ينتمي لنكولن إليها بدعاً من الولايات. ولقد دعا أنصار الحزب الجديد فيها إلى اجتماع تمهيدي يتدارسون فيه الأمر ويحددون الغاية ويسددون الوسيلة؛ وأنعقد هذا الاجتماع في مدينة ديكاتور وشهده لنكولن فيمن شهده من رجال السياسة المبرزين؛ وأدلى إليهم بما يرى، وفطن المجتمعون إلى سياسته التي لن يتحول عنها والتي تتلخص في أمرين: مقاومة انتشار العبيد والمحافظة على كيان الاتحاد. . .

ولكن لنكولن لا يزال من الوجهة الرسمية من رجال حزب الهوجز، فهو لم يعلن انفص عنهم بعد؛ فلما كان يومئذ في طواف قضائي وقد دعا أنصار الحزب الجديد في الينوس إلى مؤتمر عام يعقد في مدينة بلومنجتن؛ ووضع صديقه هرندن أسمه في الداعين إلى المؤتمر دون أن يرجع إليه؛ فجاءه البرق بموافقته وبذلك أصبح إبراهام عضواً في الحزب الجديد

واحتشد رجال هذا الحزب في بلومنجتن لينظروا ماذا يرون؛ وتطلعت أنظار المؤتمرين إلى لنكولن وفي روع كل منهم أنه رجل الساعة وأنه إبن بجدتها؛ وبدأ فقال لمن حوله: (دعونا نجعل حجر الزاوية في بناء حزبنا الجديد إعلان الاستقلال) وهو يريد بإعلان الاستقلال ذلك الحادث التاريخي الذي ظهرت به الولايات المتحدة كأمة مستقلة في هذا العالم؛ وكأنه يشير إلى ما يتضمن الاستقلال من معاني الوحدة والإخاء والحرية والمساواة، تلك المبادئ التي جعلها رجال الثورة شعار ثورتهم. . . وأصدر المؤتمرون قرارهم فقالوا: (أجمعنا أمرنا على أننا نعتقد وفق آراء وتجارب جميع رجال السياسة المبرزين من كافة الأحزاب في السنوات الستين الأولى للحكومة، أن المؤتمر في ظل الدستور يملك السلطة التامة ليوقف انتشار العبيد في الولايات؛ وأنه كما سيحرص على كافة الحقوق الدستورية لأهل الجنوب، نعتقد أيضاً أن العدالة والإنسانية ومبادئ الحرية كما نص عليها في إعلان استقلالنا وفي دستورنا القومي وما نتوخاه لحكومتنا من نقاء ودوام؛ كل أولئك يستدعي أن يكون تنفيذ السلطة بحيث يمنع انتشار العبيد في الولايات التي تعد حرة لحد الآن)

وإننا لنرى سياسة لنكولن واضحة تمام الوضوح في هذا القرار الذي أعلنه المؤتمرون؛ وفي ذلك الدليل على أنه كان غداة المؤتمر الرجل الذي ينبض بمبادئه كل قلب ويتحرك باسمه كل لسان! ونحن إذا نظرنا إلى مبادئ الحزب الوليد في جميع الولايات نجدها لا تختلف كثيراً عما جاء في قرار رجال اليونس، وبعبارة أخرى نجدها لا تختلف كثيراً عما يرى لنكولن، وفي ذلك دليل آخر على عبقرية الرجل وعلى أصالته. . .

ونظر إبراهام إلى المؤتمر فإذا رجاله على اتحادهم في الغاية، يختلفون في الوسيلة التي تتحقق لهم بها تلك الغاية وأذاهم باعتبار ما سلف، فئات متباينة آراؤها؛ وإنه ليخشى الخلف في الوسلية إلى ضياع الغاية، بل إلى طمس صُوى الطريق وركوب الظلام وفي ذلك سوء المنقلب؛ وإنه ليتحرق شوقاً أن يرى هؤلاء القوم وقد اجتمعت على الوسيلة كلمتهم كما اجتمعت على الغاية؛ إنهم إذاً لفائزون، وإن لهم بذلك لبأساً يهون كل أمر عسير، ثم إنهم لخطب فادح لا يطيقه المتمسكون بالعبيد من أهل الجنوب

وكأنما أحس المجتمعون بما أحس، وإلا فماذا دعاهم أن يهتفوا به؟ لقد تجاوبت باسمه جنبات المجتمع، فراح الرجال يتصايحون لنكولن. . . لنكولن. . . نريد أن نسمع لنكولن! وما كان له أن يتخلف وهو الخطيب الذي تهيب به مثل هاتيك المواقف وتواتيه عبقريته كلما أحست نفسه جلال الحادثات! لذلك ما لبث أن وثب من مكانه ووقف فيهم وقفة الخطيب وهو لا يدري ماذا يقول. وسكتت الأصوات بعد جلبة، وأستقر الرجال بعد أن كان بعضهم من فرط السرور والحماسة يموج في بعض. . .

وقف الخطيب أول الأمر صامتاً كأنما أغلقت من دونه مسالك القول؛ والناس ينظرون إلى قوامه السمهري وقد مال برأسه إلى الخلف وبرز بصدره إلى الأمام، والتمعت عيناه وتشكلت أساريره فبدت في مظهر يقصر عن وضعه معنى الجمال. وصفه أحد الحاضرين فقال: (كان في تلك اللحظة أوجه من رأت عيناي أبداً)

وتكلم فإذا المستمعون كأنهم رجل واحد، لا فرق بينه ولا اختلاف، وقد سرت إليهم من الخطيب موجة قوية من السحر! وسرى إليه منهم تيار شديد من الحماسة؛ وهو يرسل فيهم القول يجمع بين العاطفة تهز المشاعر، والحجة تبهر العقول، والأمثلة تبهج النفوس؛ وكانت تشتد العاطفة حيناً فتفيض عيون، ويلتمع الدليل آونة فتصفق الأكف وتنطلق بالهتاف الحناجر، ويروق المثال وتملح النكتة بين هذا وذاك فتجلجل الأفواه بالضحكات. . والخطيب يلعب بالأفئدة ويستهوي المشاعر ويستمر لا يفتر حماسه، ولا يكل منطقه، ولا يضعف صوته، والسامعون مأخوذون عن أنفسهم بما يقول حتى لقد ألقى مندوبو الصحف أقلامهم وأقبلوا بعقولهم وقلوبهم عليه يحرصون ألا تفوتهم كلمة من هذا السحر الحلال. . .

ذلك ابن الغاب قاطع الأخشاب! ذلك هدية الأحراج إلى عالم المدنية؛ كأنما قد هيأته الأقدار لرسالته فبعثته من موطنه قوياً قوة الطبيعة واضحاً كالشمس لا يحجبها غيم، ولكن أودعت في نفسه سراً عميقاً تحس لديه بما تحس به إذا وقفت في مدخل الغابة

أوضح في خطابه سياسته فلم يترك مجالاً للبس أو شك؛ وكان إلى التحذير والإنذار أقرب منه إلى التفاؤل والتمني؛ حذر الناس أن يشتطوا فيؤدي شططهم إلى انسحاب أهل الجنوب من الاتحاد فإنه ليحس في الجو ما يسبق العاصفة، وأنذرهم أن يتهاونوا أو يتخاذلوا فتذهب ريحهم وتضيع أصواتهم بدداً؛ وهو في كل ما يزجي من القول صريح كأعظم ما تكون الصراحة، واضح كأتم ما يكون الوضوح

تعرض لمسألة كنساس فقال في قوة اليقين وفي جلال الحق؛ ستكون كنساس حرة؛ وأردف فذكر السامعين أن الخروج على اتفاقية مسورى والسماح بانتشار العبيد وراء الحد الفاصل مؤد حتما إلى جعل مسألة العبيد مسألة قومية عامة، ولذلك فإنه للفوز أبداً أو الهزيمة أبداً، فإنه ليشعر بتزايد قوى المتمسكين بمبدأ انتشار العبيد بينما يتراخى الداعون إلى مقاومة تياره. وكان في خطابه يبدو منه ما يبدو من رجل مقبل على موقف حاسم في تاريخ حياته، ففي نبراته رنة الإخلاص، وفي مقاطعه وابتداءاته لهجة اليقين وبينات الحرص الشديد أن يتدبر كلامه المنصتون، وعلى وجهه علامات الاهتمام حيناً وإمارات القلق حيناً ومخايل الحذر والخوف واللهفة أحياناً، وكذلك العظيم إذا تكلم كان كلامه من وجدانه ومن لبه، وكانت حركاته حركات جوانحه وخفقات قلبه

ولقد تنبأ ذلك الرجل العظيم فذكر للناس أن مسألة العبيد سوف لا تحل حتى تنتهي إلى أزمة تجتاز بفضل إرادة الأمة، فإن تلك الإرادة متى أوقظت اجتاحت الصعاب؛ وكأنه كان يرى ما سيحدث عما قريب في صورة حرب أهلية ضروس

وانجلت المعركة الانتخابية عن فوز بيوكانون مرشح الحزب الديمقراطي، ولقد ظهر فيها على منافسيه أحدهما مرشح الحزب الجديد، والآخر مرشح حزب آخر كان يعرف بالمحايد، ويضم عدداً كبيراً من الهوجز، ولكن نجاح الحزب الديمقراطي كان ينطوي على معنى الضعف، فإن ثلث أصواته انضمت إلى الحزب الجديد كما أن هذا الحزب قد نال على حداثته عدداً من الأصوات يلي في مقداره عدد أصوات الحزب الفائز، حتى لقد أعتبر الكثيرون من المفكرين أن الفوز الحقيقي إنما هو للجمهوريين

ولقد أنضم إلى هذا الحزب الوليد كثير من أهل الثقافة وأولي الأبصار، فكان من رجاله في مجلس الشيوخ نفر من الأماثل الذين أشربت قلوبهم حب بلادهم والذين فطرت نفوسهم على العدالة وجبلت على الرحمة والإنسانية، والذين كانوا يمقتون نظام العبيد من أعماق وجدانهم إذ يرونه نظاماً لا يوائم ما ينشدونه لوطنهم من نهوض وقوة. . .

وبدرت يومئذ بوادر الطلعة الكبرى فلقد تلاحقت الأحداث وجرت الشائعات بالسوء وانبعثت الأحن والحزازات وتنابذ الناس وتباغوا وأصبح بأسهم بينهم شديداً؛ فما هي إلا رجفة ثم ينفجر البركان ويزلزل البيان. . .

وكانت أولى تلك الأحداث ما كان في مجلس الشيوخ فلقد كان في المجلس رجل يدعى سمنر عرف بقوة الجنان وذلاقة اللسان وتوقذ القريحة، وهو ممن يكرهون أشد الكراهية نظام العبيد، حمل في جرأة وقوة على قرار نبرسكا، وأهاب بالناس أن يتمسكوا باتفاق مسوري. ولقد كانت لهجته لاذعة وحجه قاطعة وعباراته مقذعة؛ فلما كان ذات يوم بعدها جالساً إلى مكتبه في المجلس يكتب في سكون هجم عليه عضو من أهل الجنوب فضربه على أم رأسه بعصا غليضة فسقط على الأرض مغشياً عليه، فكانت الضربة في الواقع أولى ضربات الحرب الأهلية، فأهل الجنوب بدل أن يستنكروا هذه الفعلة هللوا لها واعتبروا صاحبها بطلاً جديراً بالتوقير. وقدم له جماعة من الطلبة عصا ذات رأس من الذهب! أما أهل الشمال فلك أن تتصور مقدار ما بلغته النعلة من نفوسهم وما تركته من الغيض في صدورهم فذلك ما لا ينهض لتصويره كلام

وحدث بعد ذلك حادث آخر رج البلاد من أركانها، وذلك أن أحد العبيد، رحل مع سيده إلى ولاية من الولايات الشمالية الغربية، وكانت أسرة ذلك العبد معه، وكان عبداً ذكياً له حظ من التعليم أدرك أنه وراء الحد الفاصل بين ولايات العبيد والولايات الحرة، فرفع أمره إلى القضاء يطلب أن يتمتع هو وأسرته بالحرية ما دامو في ولاية حرة؛ وانتقلت القضية من محكمة إلى محكمة حتى استقرت في المحكمة العليا في وشنجطون؛ وأصدر القاضي الأعلى حكمه، فقضى بأنه ما كان لأي عبد زنجي أن يرفع قضية أمام محكمة من محاكم البلاد كما يفعل الرجل الأبيض، وأنه ليس للمؤتمر ولا لأي مجلس من مجالس الولايات أي سلطة تخوله ان يمنع أي شخص أن يعود بعبيده من الولايات الحرة إلى ولايات العبيد. . .

ولقد هز هذا الحكم البلاد هزاً عنيفاً؛ وأستقبله أهل الجنوب طربين يطفرون من الفرح، أما أهل الشمال فكان في نفوسهم غمة وفي حلوقهم شجى؛ ذلك أنهم رأوه يجعل اتفاق مسوري اتفاقاً غير دستوري، كما رآه يقضي على قرار نبراسكا الذي يجعل لمجلس الولاية الحق في تقرير ما يريده في مسألة العبيد؛ وبه أصبح العبد كقطعة من الأدوات ليس له حتى في نفسه أي حق أو شبه حق وكان خطر هذا الحكم أنه صادر في تلك المسألة التي تشغل الأذهان من المحكمة العليا للبلاد، وأن صدوره جاء في تلك الآونة التي كان الخلاف فيها على أشده بين الناس؛ وسرعان ما انتشر بين الطبقات صغيرها وكبيرها، وانشغل به الساسة عن كل أمر سواه فلا حديث لهم أينما تلاقوا إلا ما يحمل من المعاني! أدرك الجميع أن قد أزفت الآزفة وأقترب اليوم الذي يحتكم فيه الفريقان إلى السيف؛ وأيقن لنكولن أن الحوادث تؤيد ما ارتأى ولعله كان يحس ما بينه وبين نفسه أن قد اقتربت الساعة التي يتناول فيها معولا لا ليقطع به الأخشاب كما كان يفعل من قبل بل ليهوي به على ذلك النظام البغيض فيضربه الضربة الحاسمة. . .

(يتبع)

الخفيف

-