الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 255/أسبوع في فلسطين

مجلة الرسالة/العدد 255/أسبوع في فلسطين

بتاريخ: 23 - 05 - 1938


للأستاذ محمد سعيد العريان

لما بلغتني دعوة مصلحة الإذاعة الفلسطينية بالقدس، لأذيع حديثاً عن المرحوم الرافعي لمناسبة تمام سنة على وفاته. . . تهللت نفسي وسُريَّ عني وقلت: هذا قطر من أقطار العربية لم يزل على وفائه لكاتب العربية والإسلام. . .

ثم عادت إليّ الذكرى، فتغشاني خزي وألم حين ذكرت أن مصر العربية المسلمة لم تستطع - بعد عام - أن تقوم للرافعي ببعض حقه حتى في الدعوة إلى حفلة تأبين تذيع فضله وتذكر به. . . إلا محاولات فاشلة لا تغني ولا تقوم ببعض الوفاء!

وازدحمت في رأسي صور وخواطر، وتتابعت على عيني ذكريات وذكريات، وتدافعت إلى صدري آلام وأشجان؛ وقالت لي نفسي: بعض هذا يا صاحبي؛ وماذا كنت تنتظر أن تصنع مصر للرافعي؛ وإن بينه وبين كل أديب في مصر ثأراً لا يخفف الموت من عنفوانه وشدته!

وكأنما كانت مقالة صديقي الأستاذ سيد قطب في ذلك الوقت لتذكرني بالحقيقة التي يعيش فيها بعض أدبائنا حين يحاولون أن يجعلوا من بعض العدوات الأدبية ثأراً يتوارثه الأبناء عن الآباء، فيجعلون من دروسهم الأدبية إلى تلاميذهم ما كان بينهم وبين الموتى من العداوة والبغضاء!

. . . وهممت أن أعتذر إلى الداعي من حياء وكبرياء، خشية أن يسألني سائل هناك: ماذا فعلت مصر للرافعي ولها كانت حياته وفيها مثواه؟ فتمنعني العزة القومية أن أتهم قومي بالعقوق ونكران الجميل

ولكني جمعت عزيمتي وأقنعت نفسي بأن العلم لا وطن له، وأن البلاد العربية كلها وطن واحد لمن يستشعر في نفسه عزة المسلم ومجد العربي. وأجبت الدعوة. . .

وكنت ثالث ثلاثة من المصريين دعتهم مصلحة الإذاعة بالقدس منذ كانت لإذاعة أحاديث أدبية؛ أما السابقان فهما الدكتور هيكل باشا والأستاذ المازني.

فلسطين هي تلك البلاد المقدسة التي تربطنا بها أواصر وثيقة منذ أقدم عصور التأريخ، من أيام الفراعين، إلى صدر الإسلام، إلى عهد صلاح الدين، إلى تاريخ المماليك، إلى زم محمد علي وإبراهيم الفاتح. . . إلى اليوم الذي مزقت فيه الحرب العظمى دول الإسلام، وتوزعتها أطماع السياسة الأوربية!

بيننا وبينها وحدة الدين، وآصرة اللغة، وعاطفة الجوار، وواشجة الدم والنسب من لدن عمرو بن العاص إلى عهد الفاروق. لا يفصلها عن مصر فاصل من جبل أو بحر أو حد مصنوع، إلا أن تكون القناة الملعونة في التاريخ - قناة السويس - التي كان إنشاؤها غنماً للعالم وغرماً على مصر؛ ومنها كان الرمز الأول للقطيعة بين مصر وبلاد الإسلام، حين شاعت على ألسنة المصريين تلك الخدعة المأثورة: (مصر قطعة من أوربا!) فكانت دسيسة سياسية بارعة، فرقت بين الأخوين لأب وأم حيناً من الزمان!

ركبت القطار من محطة القاهرة في منتصف الساعة السادسة من مساء السبت 7 مايو وفي وهمي أنني مسافر إلى بلد بعيد؛ فما أشرق صباح اليوم التالي حتى كنت في مدينة القدس المطهرة عاصمة فلسطين، قبل أن تبلغ الساعة التاسعة. ست عشرة ساعة بين القاهرة والقدس، في قطار يدب على رمال الصحراء دبيب السلحفاة بطيئاً وانياً ويقف في الطريق أكثر من أربع ساعات

إن المسافر من القاهرة إلى بعض الأقاليم الجنوبية من مصر نفسها لا يبلغها في ست عشرة ساعة في القطار السريع؛ وإنك مع ذلك لتسأل نفسك: كم مصريَّا رحل إلى هذه البلاد الشقيقة ليتعرف إلى أهله من أهلها؟ فلا يأتيك الجواب بما يؤكد لك معنى من معاني الإخاء والقربى بين مصر وفلسطين!

لماذا لماذا؟ لأن السياسة التي تسيطر على مصر وفلسطين لا يرضيها أن تكون بين مصر وفلسطين رابطة من الود والإخاء. وقد بلغت هذه السياسة في مصر ما لم تبلغه هناك، فنسي المصريون إخوانهم في فلسطين ولم ينسى الفلسطينيون إخوانهم على ضفاف النيل، وفي كل سنة يفد إلى مصر مئات من شباب فلسطين، وأدباء فلسطين وتجار فلسطين ليمتعوا أنفسهم برؤية إخوانهم وأهليهم في وادي النيل، ثم يعودون إلى بلادهم ينتظرون رد الجميل فلا يجدون الجميل! ست عشرة ساعة، لو أطرد الطريق وقلت محطات الانتظار ما بلغت ثماني ساعات، هي كل ما بين مصر وفلسطين.

ما أقرب وما أبعد! وصل بي القطار المصري إلى محطة القنطرة على القناة، في منتصف التاسعة مساء؛ وركبت من ثمة قطار فلسطين، فلم يتحرك للسير قبل منتصف الثانية عشرة. ثم مضى بنا بين كثبان الرمل في صحراء سينا إلى غايته. فلم يكن لنا مع الظلام الدامس ووحدة مناظر الصحراء، إلا أن نأوي إلى مضاجعنا - غير الوثيرة - فما استيقظت إلا في الخامسة صباحاً وقد اجتزنا الحدود المصرية ووقف القطار في (غَزَّة) أولى مدائن فلسطين. ونبهتني أصوات الباعة على رصيف المحطة؛ ففتحت النافذة لأستقبل أول شعاعة من أشعة الشمس البازغة من وراء الجبال، تداعب أجفان النائمين خلف نوافذ القطار؛ وهب النسيم ندياً معطراً بأزهار النارنج كأنه يحمل أريجاً من أنفاس أهل الجنة. وسرحت الطرف فيما أمامي؛ فإذا صفحة مشرقة تتحدث عن جمال الطبيعة وقدرة الخلاق، لم يرَ المصريون لها شبيهاً فيما رأوا من جمال الطبيعة المصرية بين الإسكندرية وأسوان.

بيوت مبعثرة على رؤوس التلال وفي سفوح الجبل، وسهول رملية فيحاء قد نبتت فيها شجيرات القمح والشعير، وحدائق خضر ناضرة قد ملأتها أشجار البرتقال والنارنج والمشمش، ونخلة قائمة هنا، وخيمة مضروبة هناك، وكروم زاحفة على الأرض، وأعشاب نامية على الصخر، وأخاديد حددتها الأمطار في خدود الجبال؛ والقطار يسير في طريق ملتوية بين منحنيات الجبال، صاعداً منحدراً، ومشرقا مغرباً؛ كأنما اتخذوا له هذا الطريق ليجلوا على المسافر كل ما يمكن أن تجتليه العين من رواء الطبيعة في فلسطين؛ فما مللت النظر إلى هذه المشاهد الفاتنة واقفا في نافذة القطار ثلاث ساعات، حتى وصلت إلى محطة اللِّدّ في الساعة الثامنة صباحاً؛ ومحطة اللِّدّ هي المحطة المركزية في فلسطين، ومنها تتفرع سكة الحديد فروعها إلى مختلف أنحاء البلاد، أو يستمر القطار سائراً في طريقه إلى دمشق. . .

وانتظرت في محطة اللد زهاء ساعة، قبل أن يتحول بي القطار في طريقه إلى القدس المطهرة؛ وفي الطريق بين اللد والقدس، صحبني شاب من أدباء فلسطين أُنسيتُ اسمه؛ فأخذ معي في حديث طويل عن السياسة وآخر أنباء الثورة ومصير فلسطين؛ وكان يتحدث إلي في حماسة وقوة وانفعال كأنه خطيب على رأس كتيبة يحمسها الجهاد؛ فوالله ما أدري أكانت شدة أسره في الحديث أم روعة المناظر من حولي أحب إلي. . .

واقتربنا من بيت المقدس فسكت محدثي قليلاً ثم سأل: هل لي أن أتشرف بمعرفة سيدي؟ قلت: مصري قال: نعم لقد عرفت ذلك من حديثك، ولكن. . . يخيل إلي أني أعرف أكثر من ذلك عن سيدي. . . ولولا أن الجرائد تقول إن الأستاذ سعيد العريان لا يقدم إلى القدس إلا غداً، لقلت إنك هو. . . إنني أعرفه بصورته من مجلة الرسالة. . .!

وكانت أول تحية كريمة يلقاني بها أديب من شباب فلسطين، وكانت مفاجئة؛ فأحسست شيئاً من الخجل والارتباك، لم أجد معهما إلا أن أمد يدي إلى صحفة بيده مستأذناً، فدفعها إلي؛ وفيها قرأت أنني قادم إلى القدس في صباح الغد. . . وهو الموعد الذي كنت حددته من قبل لمحطة الإذاعة، ثم فكرت بالسفر قبل ميعادي بيوم. . .

إنني لم أكن أقدر - وأنا من أنا في نفسي - أنني سأجد من يعرفني في فلسطين أو يهتم لمقدمي؛ ولو أنني قد بلغت بنفسي من الغلو أقصى ما تبلغ إليه أمنية شاب مثلي، لكان ما رأيت من حسن استقبال المقدسيين وحفاوتهم فوق ما تبلغ منية المتمني ولا أزهو بنفسي فأزعم أنني أهل لبعض ما لقيت، ولكنه كرم الفلسطينيين العرب يأبى إلا أن يستعلن في كل مناسبة ولكل مجال

وفي دار شيخ أدباء العروبة الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي كان مقامي طول المدة التي قضيتها في فلسطين. لقد دخلت فلسطين وأنا خفيف الظهر فما فارقتها حتى كان عليّ من الدين لهذا الرجل الكريم ما ينوء به كاهلي؛ فشكراً له ثم شكراً ثم شكراً. . . ومعذرة إليه إن عجزت عن الوفاء!

وصحبتني طائفة كريمة من الأدباء في غدوي ورواحي، لتهيئ لي أسباب التمتع في الرحلة بين المشاهد المقدسة والبيوت الأثرية، فزرت المسجد الأقصى، وقبة الصخرة ومصلى عمر، وكنيسة القيامة، ومصعد المسيح، وبيت لحم، والمتحف الإسلامي، وكلية الروضة، والنادي المصري؛ وتمتعت برحلات عدة كان رفيقي في أكثرها الأستاذ الأديب إبراهيم طوقان وكيل القسم العربي في محطة الإذاعة. ولن أنسى ما حييت فضله وفضل الأصدقاء الكرام: الدكتور إسحاق الحسيني، والشيخ يعقوب البخاري افندي، والأستاذين داود حمدان، وعبد الحميد يس، وغيرهم من أدباء فلسطين وأهل الرأي والجميل

وإذا كان لي أن اذكر شيئاً بخصوصيته في هذه الرحلة؛ فان اليوم الذي خطبت فيه في كلية روضة المعارف الإسلامية بالقدس سيظل أبقى أثراً وأخلد ذكراً بين أيامي

وكلية روضة المعارف الإسلامية في القدس، هي مدرسة حرة يشرف على شئونها المجلس الإسلامي الأعلى، ولها منهج خاص يعد شباب العرب ليكونوا في مستقبل أيامهم رجال العربية والإسلام، ومدير هذه المدرسة هو الأستاذ عبد اللطيف الحسيني ورئيسها الأستاذ الجليل الشيخ محمد الصالح افندي، وتضم بضع مئات من فتيان العرب جمعتهم إلى منهل في الثقافة العربية الإسلامية أكثر ملائمة لحال البلاد في هذه الأيام. وفيها طائفة من المدرسين الأكفاء عرفت منهم الأستاذ عبد الفتاح لاشين المصري، والأستاذ عبد الرحمن الكيالي الفلسطيني، وهما من خريجي مدرسة دار العلوم في مصر

زرت الكلية صباح الاثنين 9 مايو مع الأستاذ طوقان؛ وما بد لمن يزور فلسطين من أهل العربية من زيارة هذه الكلية. . . وقضيت ساعة. . . ثم انصرفت على موعد للغداء وإلقاء محاضرة في بهو المحاضرات بالكلية عن: (المثل الأعلى للشاب المسلم) بعد ظهر الأربعاء

لا تحدثني عن شباب مصر وطلبة العلم في مصر إذا ذكر شباب فلسطين وطلبة العلم في كلية الروض. هنا شباب يحسنون الزينة ويفتنون في وسائل الأناقة والتجمل، وهناك رجال قبل سن الرجال يعرفون لأي غاية يتعلمون، ويفكرون لغدهم قبل أن يفكروا في مطالب الصبى وأماني الشباب. . .

وعرفت أول من عرفت في فلسطين، شبابها العربي المسلم في كلية الروضة. . .

(لها بقية)

محمد سعيد العريان