مجلة الرسالة/العدد 253/باقة من الفلسفة الإسلامية
→ تأملات في الأدب والحياة | مجلة الرسالة - العدد 253 باقة من الفلسفة الإسلامية [[مؤلف:|]] |
التصاوير والتماثيل في الحضارة الإسلامية ← |
بتاريخ: 09 - 05 - 1938 |
الفيلسوف ابن مسكويه وكتابه تهذيب الأخلاق وتطهير
الأعراق
للأستاذ محمد حسن ظاظا
(ولا ينبغي على أية حال أن نشكر له فقط محاولته إقامة نظام خلقي بعيد عن نزعات الدينيين وزهد المتصوفة، بل ينبغي كذلك أن نسجل له، في الرسم الذي وضعه، الذوق السليم والثقافة الواسعة)
(دي بوير)
نعرض اليوم بإيجاز لفيلسوف إسلامي أخرج للناس دستوراً إيجابياً أخلاقياً طريفاً قوامه المنطق الصحيح والذوق السليم، بحيث لو تبعوه في حياتهم لنالوا به السعادة الحق دنيا وأخرى. ونعني به الفيلسوف (أبو علي احمد بن محمد بن يعقوب مسكويه) صاحب (كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)، وهو الكتاب المعروف الذي نصح الإمام (محمد عبده) بتدريسه في الأزهر إلى جانب الإحياء للغزالي، والذي قام المرحوم (علي باشا رفاعة) بنشره وتبويبه، والذي شرع الزعيم الخالد (سعد زغلول) في اختصاره والتعليق عليه دون أن يتمه
1 - عصره
عاش ابن مسكويه في العصر العباسي الثالث أي في العصر الذي يمتاز بشدة ضعف الخلافة العباسية وبقيام دويلات لا يعترف أكثرها للخليفة بغير السلطة الاسمية. ويهمنا من هذه الدويلات الدولة البويهية (320 - 447هـ) لأن ابن مسكويه عاش ومات في كنفها. وكانت هذه الدولة مظهراً قوياً للنشاط الفارسي الذي كان يرمي إلى الانفصال عن حكم العباسيين واستعادة مجد الفرس القديم. وكان ملوكها يحبون العلم والأدب ولا يستوزرون أو يستكتبون إلا عظماء الأدباء كالمهلبي وابن العميد وابن عباد وغيرهم. وكانت مجالسهم أبداً حافلة بكبار الشعراء والعلماء والفلاسفة ومن على شاكلتهم. لذلك لا عجب أن يمتاز هذا العصر بنضج العلم، وتكوين المعاجم اللغوية، واستقرار الإنشاء على أسلوب مثالي. و عجب أن تنمو الفلسفة وتزهر، وتستقر قواعد الطبيعيات والطب، ويتسع خيال الشعراء، ويظهر الشعر الفلسفي، وينمو فن التاريخ والجغرافيا، ويظهر النقد الأدبي، وتؤلف القصص المجازية، وتنتشر المكاتب حاوية لألوف المخطوطات) أجل ولا عجب أن يظهر أمثال ابن سينا وابن مسكويه والهمذاني والخوارزمي، والمتنبي وأبي فراس والأصفهاني والقالي والثعالبي والتوحيدي والصابي والشريف الرضي والتنوخي والطبري
على أن الحالة الخلقية لذلك العصر لم تك لتساير الحالة العلمية رقياً ونجاحاً. ويلوح ذلك في ميكيافيلية السياسة وعبث الكبراء والعظماء على السواء. وما بالك بحكم قاس عنيف يصلب ويثمل ويبتر ويستمع للوشايات والدناءات، وتمتد يد بطشه وغدره إلى الوزراء والأمراء والسلاطين القريب منهم والبعيد؟ وما بالك بعظماء وكبراء يقول (الثعالبي) في أحد مجالس لهوهم: (أنهم أخذوا بفن من الانخلاع عجيب، وبطريق من الاسترسال رحيب!؟) ويقول في مجلس آخر:
فكان الذي لولا الحياء أذعته ... ولا خير في عيش الفتى إن تسترا!
وفي مجلس ثالث:
(ولم نزل نشرب الراح إلى أن باح الصبح بسره، وقام كل منا يتعثر في سكره!؟)
2 - حياته
وعسير جداً أن نتلمس حياة ابن مسكويه فيما ترك من كتب أو فيما ذكر عنه الكتاب والمؤرخون. وكل ما قد استطعنا كشفه من المؤلفات والتراجم العديدة التي اطلعنا عليها هو أنه ولد حوالي عام 330هـ ومات في 9 صفر سنة 421هـ (16 فبراير سنة 1030م)، وكان مولده (بالري) في أسرة فارسية شريفة. وسرعان ما يترك والده أمه فيبقى هو راعياً لها حتى تتزوج بغير أبيه فيتركها وينزح إلى بغداد شاباً. وهناك يتصل بالوزير (المهلبي) حوالي سنة 348هـ ويدخل في خدمته ككاتم لسره، ويبقى إلى جانبه ينادمه ويسامره حتى عام 352هـ وهو عام وفاة الوزير؛ ومن ثم يعود إلى الري حيث يلتحق بخزانة الوزير العظيم (ابن العميد) وينال ثقته ومحبته وصداقته، ويبقى معه حتى عام سنة 360هـ لينتقل بعد وفاته إلى خدمة ولده الوزير (أبي الفتح). وقد بقي في خدمة هذا الشاب حتى تنكر له الدهر ودخل الوزير السجن سنة 366هـ. ثم التحق بعدئذ بخدمة الملك الظافر (عضد الدولة) الذي استولى على بغداد وغدر بسلطانها عز الدولة أشنع غدر، كما التحق بعده بخدمة صمصام الدولة وشرفها حتى عام 379هـ، وهو العام الذي دخل فيه في خدمة (بهاء الدولة) واختص به وعظم قدره عنده. وهكذا انتقل ابن مسكويه من خدمة وزير إلى سلطان حتى هرم وشعر بدنو الموت، فانتقل كما يقول صاحب (روضات الجنان) إلى (أصبهان) حيث مات عام 421هـ، وحيث دفن في (محلة حاضو) بقبر مشهور معروف. . .
3 - ثقافته وأخلاقياته
وقد تثقف ثقافة أدبية واسعة، ونهل من مجالس العلم ومكتباته، وعني عناية خاصة بالأخلاق فدرس حكمها عند الفرس والعرب والهنود والروم، وجمع ما راقه من هذه الحكم وأخرجه في كتاب لا يزال مخطوطاً. هذا إلى أنه قرأ ما قد خلفه أرسطو وأفلاطون وجالينوس في هذه الناحية ومحصه تمحيصاً. وكأنما دفعته تربيته العائلية السليمة، وقلبه الكبير الحي، وتجربته الأليمة في مجالس السلاطين والوزراء، إلى إنقاذ عصره والعصور التي تليه من السياسة الخرقاء والأخلاق المعتلة، فراح يقرأ في الأخلاق ويؤلف، ويخرج للناس كتباً فيها من المنطق الصحيح ما يهديهم إلى (كمالهم الإنساني)، ويأخذ بيدهم إلى طريق الفضائل والعلوم لتتم لهم السعادة التي ينشدونها عبثاً في تلك الخيرات الوهمية الخارجية، خيرات (الكون والفساد). وقد تجلت هذه النزعة فيما ترك من عهد عاهد فيه نفسه (أن يجاهدها ويتفقد أمرها ما استطاع، فيعف وتشجع ويحكم، ويقتصد في مآرب بدنه حتى لا يحمله السرف على ما يضر جسمه أو يهتك مروءته، ويحارب دواعي نفسه الذميمة حتى لا تقهره شهوة قبيحة ولا غضب في غير موضعه، ويستبصر في اعتقاداته حتى لا يفوته بقدر طاقته شيء من العلوم والمعارف الصالحة، ليصلح أولاً نفسه ويهذبها ويحصل له من هذه المجاهدة ثمرتها التي هي العدالة. . . الخ). . أقول تجلت هذه النزعة في ذلك العهد الطريف، وتجلت كذلك في كتابه التاريخي المعروف (تجارب الأمم وعواقب الهمم) وهو الكتاب الذي فضح فيه بجرأة وصراحة الكثير من رذائل السلاطين الذين خدم أولادهم وأحفادهم كما تجلت على الخصوص في كتابه العظيم الذي نحدثك عنه الآن:
4 - كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق ويعتبر هذا الكتاب أهم كتبه الأخلاقية وأطرفها وأكملها ونظراً لأن ابن مسكويه كان أديباً شاعراً يحذق العربية والفارسية على السواء، فإن أسلوبه فيه يمتاز بالسلاسة والرقة والعذوبة على غير عادة الفلاسفة الإسلاميين , وقد أعجب (الطوسي) به كل الإعجاب فترجمه إلى الفارسية وقال عنه:
بنفسي كتاب حاز كل فضيلة ... وصار لتكميل البرية ضامنا
مؤلفه قد أبرز الحق خالصاً ... بتأليفه من بعد ما كان كامنا
ووسمه باسم الطهارة قاضياً ... به حق معناه ولم يك مائنا
لقد بذل المجهود لله دره ... فما كان في نصح الخلائق خائنا
والكتاب بعد هذا ست مقالات تدور كما قلنا حول الأخلاق الإيجابية للإنسان، أي الأخلاق التي تليق به من حيث هو حيوان ناطق. ولذلك نراه يفرق في المقالة الأولى بين النفس والجسد تفريقاً يثبت به روحانية الأولى وخلودها واحتياج قواها المختلفة إلى كمال خاص يتفق وما فيها من عقل مسيطر وفكر مقدس. ونراه يتناول في الثانية خلق الإنسان وقابليته للتغير والتهذيب ومدى أثر المعرفة في العمل الخلقي، ويتأدى من ذلك إلى (المنزلة الرفيعة) الجديرة بالإنسان وماذا عسى أن يعوقنا عنها. أما المقالة الثالثة فلا تتناول غير موضوع السعادة بالبسط والمناقشة والعرض. وأما المقالة الرابعة فتحدد الأعمال الخلقية وتميزها عن غيرها وتنتهي بنا إلى المقالة الخامسة التي يبسط فيها أنواع المحبة بوجه عام ومحبة الصديق على الخصوص. وأخيراً تأتي المقالة السادسة لتبين لنا طريق حفظ الصحة على النفس ومعالجتها إذا مرضت
ويطول بنا المقام إذا أردنا أن نبين وجه الطرافة والجمال والأنساق في هذه المقالات البعيدة في منهجها عن منهج الدينيين - (كالبصري في كتاب أدب الدنيا والدين) -، والمعتمدة في طريقتها على الاستقراء العلمي الدقيق الذي (يكاد) ينطق بالتطور، والذي يرسل البصر في الكون كله ويحدد للإنسان ماهيته وعمله فيه!
أما مصادره في ذلك الكتاب فهي تلك الثقافة الخلقية الواسعة التي استمدها من الأمم الأربع، والتي يلوح فيها القرآن متفقاً مع أرسطو وأفلاطون وجالينوس وغيرهم من حكماء اليونان على الخصوص.
وإذا حاولنا أن نعقد مقارنة بين هذا الكتاب وبين كتاب أرسطو (إلى نيكوماخوس): وجدنا ابن مسكويه يبز المعلم الأول أحياناً في الوضوح والانسجام، ويتفوق عليه في فصول خاصة كفصل الصداقة والصديق، ويزيد على فصوله فصولاً أخرى جوهرية كفصلي (دفع الأحزان) و (حفظ الصحة على النفس السليمة)!!
لذلك ننصح القارئ العزيز بقراءة هذا الكتاب مرة ومرة ومرة، ويجعله دستوراً له في حياته كإنسان يرنو إلى السعادة الحق دنيا وأخرى) ونختتم هذا التعريف الموجز بقول ابن مسكويه لابن العميد:
لا يعجبنك حسن القصر تنزله ... فضيلة الشمس ليست في منازلها
لو زيدت الشمس في أبراجها مائة ... ما زاد ذلك شيئاً في فضائلها
أو بقوله لعميد الملك:
فانظر إلى سير القوم الذين مضوا ... والحظ كتابتهم من باطن الكتب
تجد تفاوتهم في الفضل مختلفاً ... وإن تقاربت الأحوال في النسب
هذا كتاج على رأس يعظمه ... وذاك كالشَعر الجافي على الذنب!!
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية