مجلة الرسالة/العدد 253/التصاوير والتماثيل في الحضارة الإسلامية
→ باقة من الفلسفة الإسلامية | مجلة الرسالة - العدد 253 التصاوير والتماثيل في الحضارة الإسلامية [[مؤلف:|]] |
الرافعي بعد عام ← |
بتاريخ: 09 - 05 - 1938 |
التصوير في الكتب
لأستاذ جليل
التصوير في (الحضارة الإسلامية) في الحجر والكتاب - كثير. وإذا جد واستمر بحث النابشين وتنقيب المفتشين ظهرت نفائس مضمرات، وبدت بدائع مكنونات، وعرف الناس من آثار تلك المدنية المحمدية ما لم يكونوا قد عرفوه
وإن (كتاب الله) لم يذمم في آية من آياته تحسيناً ولا تجميلاً، ولم يحرم تصويراً ولا تشكيلاً. وهل الخط أو التسطير إلا تدبيج وتصوير؟ وهل الكتابة أصلها إلا صور؟ وهذه قصور المروانية والعباسية - والقوم حماة الدين وخلفاء المسلمين - فيها الأشكال والتهاويل
(من كل شيء يرى فيها تماثيل)
وقد زار مسلم عربي منذ أشهر قصر هشام بن عبد الملك الذي كشفه المنقبون في ناحية أريحاء من أعمال فلسطين في السنة الماضية فشاهد صوراً ناتئة لوجوه أناس عرب في بقايا الغرف والجدران
قلتُ يوماً لدار قوم تفانوا ... أين سكانك العزاز علينا
فأجابت: هنا أقاموا قليلاً ... ثم ساروا، ولست أعلم أينا
وكان في رفاقته أحد معارفه فقال مستعجباً: ما هذا؟ خليفة مسلمين، وأمام دين، وصور وتماثيل!!
فقال المسلم العربي مفاكهاً مازحاً: لم يكن (المحرم) قد نجم ودونت كتبه في أيام هشام. . .
وجاء في تاريخ بغداد لابن الخطيب في وصف دار الخلافة: (وفيها - أي دار الشجرة في دار الخلافة - شجرة في وسط بركة كبيرة مدورة، فيها ماء صاف، وللشجرة ثمانية عشر غصناً، لكل غصن منها شاخات كثيرة، عليها الطيور والعصافير من كل نوع مذهبة ومفضضة، وأكثر قضبان الشجرة فضة، وبعضها ذهب، وهي تتمايل في أوقات، ولها ورق مختلف الألوان يتحرك كما تحرك الريح ورق الشجر، ولك من هذه الطيور يصفر ويهدر. وفي جانب الدار يمنة البركة تماثيل خمسة عشر فارساً على خمسة عشر فرساً قد ألبسوا الديباج وغيره، وفي أيديهم مطارد على رماح يدورون على خط واحد في (الناورد) خبباً وتقريباً فيظن أن كل واحد إلى صاحبه قاصد، وفي الجانب الأيسر مثل ذلك)
وذكر ابن أبي الحديد في (شرح النهج) الكبير: (إنه كان على سيف عضد الدولة بن بويه وأبيه ركن الدولة صورة علي (رضي الله عنه)، وكان على سيف ألب أرسلان وابنه ملكشاه صورته)
وروى صاحب (النفح) عن بدر الدين بن الحسن الأربلي المتطبب وصف تصاوير في حمام رآه في بغداد في (دار الملك شرف الدين هرون بن أمازير الصاحب شمس الدين محمد الجويني) تدهش مبصريها، وتعجز واصفيها، وقد يجد الفتيان الشطار والمتفننون من رجال الليل ما يشبهها اليوم في بيوت في (باريس). . وربما لا يجدون. وهي الحضارة، وهو التفنن فيها. . . وهذا ما تسهل روايته من وصف الأربلي:
(وأبصرت مياهه وشبابيكه وأنابيبه المتخذ بعضها من فضة مطلية بالذهب وغير مطلية، وبعضها على هيئة طائر إذا خرج مها الماء صوت بأصوات طيبة. ثم أراني - يعني سائس الحمام - نحو عشر خلوات، كل خلوة أحسن من صنعة أختها. ثم انتهى بي إلى خلوة عليها باب مقفل بقفل حديد ففتحه، ودخل بي إلى دهليز طويل، كله مرخم بالرخام الأبيض الساذج، وفي صدر الدهليز خلوة مربعة، ورأيت من العجائب في هذه الخلوة أن حيطانها الأربعة مصقولة صقالاً لا فرق بينه وبين صقال المرآة، يرى الإنسان سائر بشرته في أي حائط شاء منها. ورأيت أرضها مصورة بفصوص حمر وصفر وخضر، ومذهبة؛ وكلها متخذة من بلور مصبوغ، بعضه أصفر، وبعضه أحمر؛ فأما الأخضر فيقال: إنه حجارة تأتي من الروم، وأما المذهب فزجاج ملبس بالذهب؛ وتلك الصور في غاية الحسن والجمال على هيئات مختلفة في اللون وغيره. وكل محاسن الصور الجميلة مصورة في الحائط)
وهذا خبر عن مصنف مصور في العلم قد أرصن تأليفه وتصويره أيما إرصان، وكأنه آخر ما قيل في أمريكة وأوربة في توضيح الكتب بالصور. وإني لأرويه مؤيداً ومسانداً المقالة الجديدة المفيدة: (التصوير التوضيحي في المخطوطات الإسلامية) التي أطرفها الناس في (الرسالة) الغراء الأديب المتفنن الدكتور أحمد موسى، والتي زينت لي تصوير هذه السطور: قال ابن أبي أصيبعة في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) في سيرة رشيد الدين بن الصوري: (ولرشيد الدين ابن الصوري من الكتب كتاب الأدوية المفردة. وهذا الكتاب بدأ بعمله في أيام الملك المعظم، وجعله باسمه واستقصى فيه ذكر الأدوية المفردة، وذكر أيضاً أدوية اطلع على معرفتها ومنافعها، لم يذكرها المتقدمون. وكان يستصحب مصوراً، ومعه الأصباغ والليق على اختلافها وتنوعها، فكان يتوجه رشيد الدين ابن الصوري إلى المواضع التي بها النبات مثل جبل لبنان وغيره من المواضع التي اختص كل مها بشيء من النبات، فيشاهد النبات ويحققه، ويريه للمصور فيعتبر لونه ومقدار ورقه وأغصانه وأصوله، ويصور بحسبها ويجتهد في محاكاتها. ثم إنه سلك أيضاَ في تصوير النبات مسلكاً مفيداً، وذلك أنه كان يرى النبات للمصور في إبان نباته وطراوته فيصوره، ثم يريه إياه وقت كماله وظهور بزره فيصوره تلو ذلك، ثم يريه إياه وقت ذويه ويبسه فيصوره، فيكون الدواء الواحد يشاهده الناظر إليه في الكتاب وهو على أنحاء ما يمكن أن يراه به في الأرض، فيكون تحقيقه له أتم ومعرفته له أبين)
إن التصوير غير الشركي وغير العهري لمباح. وإن التصاوير والتماثيل إنما هي تحاسين وتزايين (قل من حرم زينة الله)، وإذا كان ذلك للهدى والتذكير والتعليم والتثقيف فقل بالوجوب
القارئ