مجلة الرسالة/العدد 252/في خيف منى
→ هل تقوم للأدب دولة؟ | مجلة الرسالة - العدد 252 في خيف منى [[مؤلف:|]] |
أبو العلاء حرب الظالمين ← |
بتاريخ: 02 - 05 - 1938 |
للدكتور الحاج عبد الوهاب عزام
هذا ثاني أيام التشريق؛ ومنى غاصة بمضاربها؛ قد اجتمع إليها الحجيج من أرجاء الأرض، واختلط فيها وفود المسلمين من كل الأقطار. تجاورت القباب واشتجرت الأطناب، وتمعجت السبل بينها تجور بالسائر، وتعدل بالسالك، إن لم يكن خبرها وعرف بالعلامات مسالكها، إلا مهيعاً يتوسط البقعة تفضي إليه المسالك فيقصد فيه السابل على بينة
زخرت منى بالحجيج، وازدحم الموسم بأهله. وقد أدينا بحمد الله المناسك ولم يبق إلا رمي الجمار، وهي أمر أمم لا يشغل نزال منى إلا قليلاً. فهناك سعة للتزاور والتعارف، وهناك فسحة لتبادل الآراء والتشاور في خطوب المسلمين
خرجت في رفاقة بعض الإخوان العراقيين أبتغي زيارة بعض الأجلاء من علماء الفرس، فلما لقيت الشيخ وبلغ الحديث منتهاه رغبت أن أرى من وجوه المسلمين وجهاً معروفاً في مجامع الحج منذ سنين لا يخلو منه موسم، ولا يجهله محفل. وقد رأيته في عرفات ضارباً مخيمه على الجادة فنزلت إليه في نفر من رفقائي حجاج الجامعة وأنسنا به حيناً. وبينا أنا بالمشعر الحرام من مزدلفة رأيت خطيباً واعظاً يتكلم على جماعة باللغة الأردية، فدلفت إليه فإذا هو ذلك الوجه المعروف غير المنكر، وأنا أرجو ألا يفوتني في منى لقاؤه؛ ومضربه في منى أرفع المضارب، يلوح للسائر عالياً متميزاً تخفق عليه رايته. فليس على من يبغي المسير إليه إلا أن يذهب إلى مسجد الخيف ثم ينظر إلى سفح الجبل ليرى فسطاطاً كبيراً قد احتل من السفح مستوى لا يتسع لغيره، فليس هناك فسطاط سواه. فإذا تأمله أبصر الراية الأفغانية فعرف أنه منزل السيد محمد الصادق المجددي
أخذت سمت المكان حتى قاربت المسجد فلقيني جماعة من حجاج الجامعة والأزهر فصعدنا إلى الفسطاط في شرف يطل على الموسم كله وينظر إلى مسجد الخيف من كثب. لبثنا قليلاً ثم هبطنا إلى فجوة بين الصخور تسمى غار المرسلات؛ يقال إن السورة الكريمة (والمرسلات عرفاً) أوحيت إلى صاحب الرسالة صلوات الله عليه هناك. وقد اجتمع الناس يمنعهم الشرطة من الدخول إليه والتمسح به كما كانوا يفعلون. فوقفنا وقفة قضينا بها حق الذكرى العظيمة، ثم سرنا مصعدين في الجبل وهو جبل شاهق أدكن عظيم الصخور كثير القلع. فما زلنا نصعد حتى لاح لنا الموسم جميعه، وزويت لنا أطرافه؛ فيالك مشهداً جميلاً رائعاً! فهذا مسجد الخيف وهو مسجد بري معطل من الزينة وفراشه الحصباء: بناء كبير تحيطه جدران مديدة بيضاء، يتوسط صحنه الفسيح مصلى عليه قبة ومنارة، وفي جانبه القبلي سقيفة على ثلاثة عقود. وقد راقني منظره من سفح الجبل تتجلى فيه فطرة الإسلام وطبيعة البداوة
وهذا المحصب عن شمالنا حيث العقبات الثلاث التي ترمى فيها الجمرات. والى اليمين يمتد وادي منى بين سطرين من الجبال الشاهقة يساير فيه الطرف أسراب الخيام إلى أن يكل. وهناك تبدو دار الملك عبد العزيز التي ينزلها أيام الموسم. وهنالك بناء أبيض يلوح بين الأشجار هو (السبيل) المصري: مورد عذب يستقي منه الحجاج، يزدحمون عليه النهار كله وطرفاً من الليل. وإنها لمبرة عظيمة
وأما الجبل الشامخ الذي يمتد على جانب الوادي الأيسر فهو ثبير. وكم ردد التاريخ والشعر ذكر ثبير!
ترادفت الذكر وتوالت العبر في هذه البقعة المقفرة التي تخصب بالجماعات كل عام منذ عهد الجاهلية، فكأني بالقبائل تلتقي تتناشد الأشعار، وتتفاخر بالاحساب، ويضعون عنهم العداوة والحرب إلى حين، وقد تغلبهم الضغائن فيفجأ بعضهم بعضاً غير مراعين حرمة الشهر والمكان كما أغارت هوازن على خزاعة بالمحصب من منى فقال أحد بني عدوان:
غداة التقينا بالمحصَّب من منى ... فلاقى بنو العنقاء إحدى العظائم
وكأني بهم ينحرون ويذبحون ويضيفون ويطعمون، ويشرقون بقايا اللحم على سفح الجبل.
وكأني بفتيان قريش وشعراء مكة في الجاهلية والإسلام يقضون حق المكارم والفتوة؛ يضيفون ويطعمون ويشيدون بالمفاخر ويتناشدون الشعر ويتناقلون الأخبار، وينزع بهم الشباب فيتغزلون ويرون في الموسم على جلاله وحرمته شملاً من الأحباء يجتمع، وشملاً يفترق، فيشيد الشعر بفرحة اللقاء ولوعة الفراق، فهذا عمر بن أبي ربيعة يقول:
نظرت إليها بالمحصَّب من منى ... ولي نظر لولا التحرج عارم
فقلت: أشمس أم مصابيح بيعة ... بدت لك خلف الستر أم أنت حالم
بعيدة مهوى الفُرط إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم ومن قبل تذكر المجنون في هذا المكان ليلاه:
وداع دعا إذ نحن بالخيْف من منى ... فهيج أطراب الفؤاد ومن يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائراً كان في صدري
وهذا العرجي - وغفران له - يقول:
في الحج إن حجت وماذا منى ... وأهله إن هي لم تحجج؟
وأنا أقول ما قال عطاء حين استوقفه ابن سريح فغناه أبياتاً منها بيت العرجي قال:
(الخير كله والله بمنى، لا سيما وقد غيبها الله عن مشاعره)
والعرجي هو القائل:
عوجى عليّ فسلمى جبرُ! ... فيم الوقوف وأنتم سَفر؟
لا نلتقي إلا ثلاث منى ... حتى يفرّق بيننا النفر
ورحم الله جريراً! كان أرشد من هؤلاء: لقيه الفرزدق بمنى فأنشده:
فإنك لاقٍ بالمنازل من منى ... فخاراً؛ فخبرني بمن أنت فاخر؟
فقال جرير: (لبيك اللهم لبيك)
نبهتني تلبية جرير فقلت: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك الخ كم في هذه الخيام من قلوب وردت هذه المشاهد ورود القطا الظماء! وكم من نفوس هجرت خفض العيش إلى مشقة الأسفار، وغربة الديار لتنعم بالذكر والتوبة في هذه البقاع المقدسة. لو نفض كل قلب هنا آماله وآلامه لسامت هذه الحبال جبال من أحزان البشر وأمانيهم حملها أصحابها إلى سدة الخالق العظيم يستغفرون ويتضرعون، ويسترحمون ويتذللون. سرائر لو اجتمعت في هذه الساعة لتمثل فيها تاريخ البشر. لو اجتمعت! لو تشاكى أصحابها وتناجى أربابها! لو تشاكى المسلمون في هذه البقعة وبث بعضهم لبعض خبايا قلبه، وتشاوروا فيما يحز بهم! أجل، هذه خيام مجتمعة، وجماعات مختلطة، وبينها تعارف وتزاور، ولكن أين هذا مما يريد الإسلام ونريد؟ لابد أن ييسر لكل حاج السير والزيارة، ويمكن من أن يلقى من يشاء حين يشاء. إن مئات الآلاف من الحجاج لا تتيسر لهم مقاصدهم ولا تكفل راحتهم إلا في نظام دقيق وترتيب حسن. وذلك لمن شاءه جد يسير. وعلى المسلمين جميعاً أن يعملوا له. لماذا لا يكون في منى مجمع مسقوف يسع الحجاج جميعاً يقفون أو يجلسون في راحة ونظام، فيسمعون جميعاً إلى الخطباء من زعماء المسلمين يرفعون أصواتهم بالمجاهر! لماذا لا يكون هناك مدرج ينحت في الجبال ليسع الألوف المؤلفة؟ هذا أمر حتم لابد أن تتخذ له الأهبة.
طالت بي الوقفة وأصحابي على مقربة مني! فقلت: هذا أمر له غير هذه الوقفة. ثم التفت فإذا أعرابي بجانبي تفتر شفتاه عن أسنان ناصعة وفي فمه عود
قلت: ما هذا؟ قال: بشام. قلت، الذي يقول فيه جرير:
أتذكر إذ تودعنا سليمى ... بفرع بشامة؟ سُقى البشام
قلت: وما هذا؟ مشيراً إلى شجرة صغيرة من الشجر الذي يسمى السنط في مصر. فقال: سلم. فتذكرت قول القائل:
ويوماً توافينا بوجه مقسم ... كأنْ ظبية تعطو إلى وارق السلم
وقول الحجاج: والله لأعصبنكم عصب السلمة الخ
قلت: أتستطيع أن تأتينا بأعواد من البشام؟ قال: إنه على الربع الآخر، وأشار إلى الجبل يعنى سفحه الآخر. فتذكرت الآية الكريمة: (أتبنون بكل ربع آية تعبثون) والربع المكان المرتفع قلت لأصحابي: لو اتسع الوقت لأخذنا كثيراً من اللغة عن هذا الأعرابي. فمن كان يظن أن هذه ألفاظ ميتة في المعاجم فليعلم أنها لا تزال حية في أفواه كثير من العرب. وحان الرجوع فرجعنا إلى الخيام
عبد الوهاب عزام