مجلة الرسالة/العدد 252/إلى المجهول
→ ذكرى قاسم أمين | مجلة الرسالة - العدد 252 إلى المجهول [[مؤلف:|]] |
شعر ابن تسعين! ← |
بتاريخ: 02 - 05 - 1938 |
للأستاذ عبد الرحمن شكري
المقدمة
الولوع بالمجهول من أمور الحياة والطبيعة والنفس والكون والشغف باستطلاعه وكشفه هو الذي أخرج الإنسان من المعيشة في الكهوف ومن حضارة العصر الحجري من عصور الحضارة وأزال عنه خوفه من مظاهر الطبيعة ببحث تلك المظاهر، وهو الذي أدى به إلى كشف القارات والبحار وزاد علمه بالسماء، وعلمه ركوب الهواء في الطائرات حتى طمع في الوصول إلى الأفلاك، وذلك الولوع بالمجهول هو الذي جعله يخترع مخترعات الحضارة التي زادت حياته بهاء ومتعة وراحة ولذة، وجعله يجد لذة حتى في ركوب الأخطار من أجل كشف مغاليق الكون والحياة والطبيعة ويستشعر اللذة حتى فيما قد يصيبه من الألم أو الهلاك في أثناء بحثه المجهول من أمور الحياة والكون، والولوع بالمجهول هو الذي أدى إلى سيطرة الأمم القوية التي تمكنت من كشف المخترعات التي زادتها قوة واستعلاء، وإذا بحثت عما يميز أبناء الدول القوية التي تمتعت بالثروة والسطوة والعلم والحضارة عن أبناء الأمم المتأخرة التي لا تزال تعيش في الكهوف أو الغابات أو في المدن أو الأحياء المتهدمة القديمة الفقيرة الموبوءة بالأسقام والأقذار المغلوبة على أمرها لرأيت أن صفة النفس التي ميزت أبناء الشعوب القوية السعيدة المسيطرة على الحياة والناس هي الصفة التي تجعلهم يجدون لذتهم في كشف مغاليق المجهول من أمور الحياة، والأمة التي تريد أن تعلو وأن تأخذ مكانتها تحت الشمس ينبغي أن تهيئ لأبنائها نوعاً من التربية والتعليم يبث في نفوسهم حب استطلاع المجهول وكشف مغاليقه. أما التعليم الذي لا يبث هذه الصفة في النفوس فهو تعليم لا يليق إلا بالذين يجدون لذتهم في حياة الخمول من المألوف الذي أصبح كالمخدرات، وكلما كان فقدان صفة حب استطلاع المجهول من النفوس أوضح وأظهر من أجل المؤثرات التاريخية المذلة المؤخرة كان ذلك أدعى إلى إصلاح نظم التعليم، وإلى اتخاذ التربية التي تزيل هذه المؤثرات. والمراد بهذه القصيدة الدعوة إلى بث صفة حب استطلاع المجهول في نفوس النشء لأن نفوس النشء تحب استطلاع الغريب والمجهول بطبيعتها وترى لذتها في ذلك قبل أن تعلمها التقاليد والأوضاع الخمول والقنوع بالمألوف، ومن الخطأ أن يظن أحد أن عاطفة الشغف بالمجهول لا تنمي بالتربية وأنها قوة طبيعية في الأمم القوية فحسب. . . لا. . . بل إن أسلوب التربية والتعليم قد يقوي هذه العاطفة التي هي أساس الرقي العلمي والاجتماعي الصحيح، وهذا الأسلوب من التربية ألزم في الأمم الضعيفة لشدة احتياجها إليه
القصيدة
(الخطاب موجه إلى المجهول)
يحوطني منك بحر لست أعرفه ... ومَهْمَةٌ لست أدري ما أقاصيه
أقضي حياتي بنفس لست أعرفها ... وحَوْليَ الكونُ لم تُدْرَكْ مجاليه
يا ليت لي نظرة في الغيب تسعدني ... لعل فيه ضياء الحق يبديه
أخال أني غريب وهو لي وطن ... خاب الغريب الذي يرجو مُقاَصِيه
أو ليت لي خطوة تدحو مجاهله ... وتكشف الستر عن خافي مساعيه
كأن روحيَ عُوْدٌ أنت تُحْكِمُهُ ... فابسط يديك وأطلق من أغانيه
والروح كالكون لا تبدو أسافله ... عند اللبيب وَلا تبدو أعاليه
وأكبر الظن أني هالك أبدا ... شوقاً إليك وقلبي فيه ما فيه
من حسرة وإباء لست أملكه ... يأبى لِيَ العيش لم تُدْرَكْ معانيه
وأنت في الكون من قاص ومقترب ... قد استوى فيك قاصيه ودانيه
كأنني منك في ناب لمُفْتَرس ... المرء يسعى ولغز العيش يُدْمِيه
كم تجعل العقل طفلاً حار حائرهُ ... ورب مُطَّلبٍ قد خاب باغيه
لو النبال نبال القوس مُصْمِيَةٌ ... كنت ادُّريتَ بسهم القوس أرميه
أو كان للسحر سهم نافذ أبدا ... لكان لي منه سهم صال راميه
يا مُصْلِتَ السيف قد فُلَّت مضاربه ... ورامِيَ السهم قد خابت مراميه
قلبي يحدثني أن لا يليق به ... رضا بجهل ذليل اللب يرضيه
قد ثار ثائر نفس عزَ مَطلَبُها ... وطار طائر لب في مراقيه
كالنسر لا حاجب للشمس يحرقه ... ولا الصواعق والأرواح تَثْنِيه وأنت كالليل والأفهام حائرة ... مثل العيون علاها منك داجيه
ليل مهيب كليل البحر حندسه ... تكاد تسمع منه صوت طاميه
فليت لي فكرة كالكون واسعة ... أدحو بها الكون تبدو لي خوافيه
ليس الطموح إلى المجهول من سفهٍ ... ولا السمو إلى حق بمكروه
إن لم أنل منه ما أروي الغليل به ... قد يحمد المرء ماءً ليس يرويه
والقانعون بما قد دان عَيْشُهُمُ ... مَوْتٌ فان خضوع اللب يُرْدِيه
يا قلب يهنيك نبض كله حُرَقٌ ... إلى الغرائب مما عز ساميه
فالعيش حب لما استعصت مسالكه ... تجارب المرء تُدْميهِ وتُعْليِه
كم ليلة بتها ولهان ذا أملٍ ... لم يُسْلِ قَلْبِيَ أَنْ غابت أمانيه
لعل خاطر فكر طارقي عرضاً ... يدنو بما أنا طول العمر أبغيه
يُوَضَّحُ الغامض المستور عن فِطَنٍ ... وأفهم العيش تستهوي بواديه
عبد الرحمن شكري