مجلة الرسالة/العدد 251/أراء حرة، لعلها طلائع معركة!
→ للأدب والتاريخ | مجلة الرسالة - العدد 251 أراء حرة، لعلها طلائع معركة! [[مؤلف:|]] |
الرئيس الوزير إدوار هريو ← |
بتاريخ: 25 - 04 - 1938 |
بين العقاد والرافعي
للأستاذ سيد قطب
- 1 -
قرأت ما كتبه الأستاذ سعيد العريان تحت هذا العنوان في الرسالة، كما قرأت كل ما كتبه عن (مصطفى صادق الرافعي)
قرأته تحت تأثير عامل نفسي خاص، ذلك أنه كان لي رأي في المرحوم صادق الرافعي، لعل فيه شيئاً من القسوة. ولما كنت على ثقة أن هذا الرأي لم يتدخل في تكوينه عندي أي عامل خارجي، وإنما كانت نتيجة لعدم التجاوب بين آثاره الأدبية وبيني، فقد كنت في حاجة لأن أسمع من أصدقاء الرافعي ما عساه يخفف شدة هذا الحكم، ويكشف لي عن بعض حياة الرجل التي اشتركت في تكوين أدبه، فلعل فيها تفسيراً وتبريراً لما كنت أراه فيه، مما يستدعي قسوة الحكم، وشدة النفور
وكنت أخذت ألمح من كتابات الأستاذ سعيد أنه صديق له، مطلع على الكثير من أسرار حياته، وعوامل إنتاجه، فقلت: اتبعه فلعلك منقلب صديقاً للرافعي أو محايداً بالنسبة له!
والقصة بين الرافعي وبيني أنني قرأت له أول ما قرأت كتابه: (حديث القمر) فأحسست بالبغضاء له. أجل بالبغضاء، فهي اصدق كلمة تعبر عن ذلك الإحساس بين العقاد الذي خالجني إذ ذاك. ولم تكن ثارت بين العقاد وبينه إذ ذاك خصومة، ولم أكن سمعت شيئاً عنه من العقاد أو سواه، مما قد يكون سبباً في هذه البغضاء. ولو خالجني هذا الشعور بعد خصومته للعقاد لوجدت بعض التفسير، فأنا لا أنكر أنني شديد الغيرة على هذا الرجل، شديد التعصب له، وذلك نتيجة فهم صحيح لأدبه واقتناع عميق بفطرته، لا يؤثر فيه أن تجف العلاقات الشخصية بيني وبينه في بعض الأحيان
ولقد كنت أكره نفسي بعد ذلك على مطالعة الرافعي، فتزداد كراهية لهذا اللون من الأدب، دون أن أجد التعليل. ذاك أنني كنت إلى هذا الوقت أديباً يتذوق فحسب، لا ناقداً يستطيع التعليل، ويصبر على التحلي والرجل قد مات فما تحسن القسوة عليه، ولكن لا يصح أن يكون الموت معطلاً للنقد، ولهذا سأتحدث عنه كما لو كان حياً، لأن الذي يعنيني منه هو إنتاجه الأدبي، وما يبدو من نفسه خلال هذا الإنتاج
كنت أشك في (إنسانية) هذا الرجل، قبل أن أشك في قيمة أدبه؛ وكنت أزعم لبعض إخواني في معرض المناقشة، أنه خواء من (النفس). وأن ذلك سبب كراهيتي له، ولو أنني لم أره مرة واحدة، ولم أجلس إليه
ولذلك كان همي أن أبحث فيما كتبه الأستاذ العريان عن حياته، لا عن أدبه؛ وكان يهمني أن أعثر في ثنايا هذه الحياة على (نفس) وعلى (إنسانية)
ولهذا اغتبطت، إن لم أقل دهشت، حينما رأيت الأستاذ سعيدا يذكر للرافعي (حباً) ويحدثنا عن مظاهر هذا الحب وخطواته. ذلك أن خيالي المنبعث من قراءتي للرافعي لم يكن يطوع لي أن ألمح إمكان وجود هذه العاطفة في حياته؛ فالحب يتطلب قلباً، وكنت أزعم أن ليس للرجل قلب؛ والحب يقتضي (إنسانية) وكنت افتقدها فيه
إلى هذا الحد كان الحكم قاسياً على الرجل، وإلى هذا الحد كان تشاؤمي في تقديره
ولقد ظللت هكذا حتى استطعت أن أكون ناقداً، لا يكتفي بالتذوق والاستحسان أو الاستهجان، ولكن يعلل ما يحس ويحلله فماذا كانت النتيجة؟
لقد عدلت حكمي قليلاً، وخفت حدته، ولم أعد أستشعر البغض والكراهية للرجل وأدبه، ولكن بقي الأساس سليما
كنت أنكر عليه (الإنسانية) فأصبحت أنكر عليه (الطبع)، وكنت لا أجد عنده (الأدب الفني)، فأصبحت لا أجد عنده (الأدب النفسي)
الرافعي أديب معجب، في أدبه طلاوة وقوة، ولكنه يعدُ أدب الذهن لا أدب الطبع؛ فيه اللمحات الذهنية الخاطفة، واللفتات العقلية القوية، التي تلوح للكثيرين أدباً مغرباً عميقاً لذيذاً، ولكن الذي ينقصها أنه ليس وراءها ذخيرة نفسية، ولا طبيعة حية
لم يكن يعني الرجل في أدبه الحقيقة الأزلية البسيطة، بقدر ما يعنيه أن يصور الحقيقة الوقتية محكمة النسج، رائعة المظهر، تشبع الذهن ويستطيبها، ولكنها لا تلمس القلب أو يسيغها وكثيراً ما يختلط أدب الذهن وأدب الطبع، إذا كان مع ذكاء وقوة. وما من شك أن الرافعي كان ذكياً قوي الذهن، ولكنه كان مغلقاً من ناحية الطبع والأريحية
أترى كبير فرق بين حكم الأديب وحكم الناقد؟
قد يكون، ولكنهما قريبا المأخذ، متحدا الإحساس.
وبعد فما كان أن يتفق العقاد والرافعي في شيء! فلكل منهما نهج لا يلتقي مع الآخر في شيء
العقاد أديب الطبع القوي والفطرة السليمة، والرافعي أديب الذهن الوضاء والذكاء اللماع
والعقاد متفتح النفس ريان القلب، والرافعي مغلق من هذه الناحية متفتح العقل وحده للفتات والومضات
والطاقة العامة لكل منهما في ناحيته متفاوتة بعد ذلك، فطاقة العقاد النفسية أقوى من طاقة الرافعي الذهنية، وعالم العقاد والحياة في نظره أشمل وأرحب بكثير من العالم الذي يعيش فيه الرافعي ويبصر الدنيا على ضوئه
وإذا لم تكن كلمة اليوم تتسع لضرب الأمثال، فستتسع الكلمات المقبلة للمثال بعد المثال
إنما يعنيني اليوم ما كتبه الأستاذ سعيد العريان!
ففيما كتبه وهو أخص أصدقاء الرافعي مصداق لكثير مما تخيلته فيه؛ وفيما كتبه عن العقاد أشياء كثيرة تستحق المراجعة؛ وسأبين هذا وذلك
في إباء الرافعي أن يشتري كتاب (وحي الأربعين) مع حاجته لنقده ما يشير إلى ضيق الأفق النفسي الذي كان يعيش فيه، وتصوير للون من الحقد الصغير قلما يعيش في (نفس) رحبة الجوانب متفتحة للحياة مستعدة لقبول صورها المختلفة المتعاقبة؛ وهذا ما كنت أتصوره من أدبه
وفي البواعث التي تدعوه لنقد وحي الأربعين كما صورها صديقه ما يصور نظرة الرجل إلى النقد والأدب والغاية منهما، ومدى نظرته العامة للحياة، واتساع مداها في نفسه، وهو لا يبعد كثيراً عن المدى الذي تصورته له
وفي اختيار الظروف السياسية للنكاية، دون أن يكون وراءها عقيدة ما، إلا شفاء الحزازات، كالمقال الذي كتبه في الكوكب، وكلمة وكليمة بالرسالة ما يؤيد خلو الرجل من (العقيدة) وهي الملازمة (للطبع) المفقود في الرافعي، فدوافعه في الأدب لم تكن دوافع العقيدة والانطباع، بمقدار ما هي وليدة الفكر والتوليد والمماحكات
ويخطئ من يعتقد أن ما أقوله هنا مقصود به شخص الفقيد ولكنه شيء لا بد منه لتقدير أدبه على حقيقته
وفيما كتبه الأستاذ سعيد عن العقاد كثير من الجهل بطبيعة العقاد ودوافعه في الحياة، وعوامل الكتابة في نفسه
والأستاذ معذور في هذا لأنه لم يختلط بالعقاد أولاً، ولأن نفسه لم تتفتح لأدب العقاد فيفهمه ثانياً
ولقد كان يعيش في بيئة الرافعي وجوه، ويلوح لي من كتابته أن ذلك يلائم جوه الخاص، ويناسب بيئته الروحية
وأول ما يخطئ فيه اعتقاده أن طعن العقاد على الرافعي من ناحيته الوطنية، في رده على نقد وحي الأربعين، كان حيلة أملتها البراعة السياسية
ووجه الخطأ هو تصوير العقاد كالرافعي في هذه الخلة النفسية وفي وسائل الصراع، واستعمال الحيل الذهنية، والمناسبات العارضة لكسب القضية!
والذين يفهمون العقاد لا يعرفون فيه هذه الصفة. ولكنهم يعرفون طبيعة قوية مخلصة، لا تتذرع بالحيل الذهنية، والبراعة السياسية العأرضة، ولكنها تتذرع بنفوذ الإدراك، وعمق الإحساس، وشمول الشعور. فإذا اتهم العقاد الرافعي بأن نقده لوحي الأربعين منشؤه ضغينة شخصية، وإيحاء سياسي كما فعل، فإنما هو معتقد هذا في صميم نفسه، وما يعنيه ما ينال الرافعي من الناحية السياسية، قدر ما يعنيه (كشفه) من الناحية النفسية، وتصوير البواعث التي تهيجه لهذا النقد اللاذع
وما عن مبدأ خلقي يصدر العقاد في هذا، ولكن عن طبع قوي يخلق المبادئ الخلقية، ويختار منها ما يناسبه، ويرفض مالا يرتاح إليه، ولو تواضع الناس عليه!
ويخطئ الأستاذ سعيد كذلك في تسمية ما كتبه العقاد في رده شتماً وسباً للرافعي، كما أخطأ في تسمية ما كتبه من مخلوف سباباً وشتائم
ويبدو أننا في حاجة لتحديد معنى السب والشتم في لغة الأدب، بعيداً عن لغة القانون في حاجة إلى بحث هذا الموضوع على ضوء من علم النفس وعلم الأخلاق وتطبيقهما على العالم الأدبي، فطالما سمعت وصف الكلام بهذين الوصفين، مستمداً هذا الوصف من ألفاظ الكلام دون بحث أسبابه، والحالة التي يعالجها
وطبيعي أن الحكم على الكلام وحده، مجرداً عن بواعثه وملابساته حكم شكلي، إن أرضي ذوي المواهب الذهنية، فلن يرضى ذوي المواهب النفسية؛ وإن أرضي العقل فلن يرضى القلب
وفي هذا عودة إلى الفوارق الأساسية بين مدرسة العقاد ومدرسة الرافعي!
كتب الرافعي عن وحي الأربعين كلاماً يعترف الأستاذ ببواعثه الأصلية، والعقاد يعرف هذا، ويعتقد في صفات الرجل النفسية، وفي نصيبه من الطبع السليم والفهم المتفتح أشد مما أعتقد أنا. ودواعيه لذلك الاعتقاد كثيرة ومفهومة، فإذا كتب يصور الرافعي كما هو في خيال العقاد، وكما هو في الحقيقة، فليس الذنب ذنب العقاد في قسوته، فإنما هو يصور حقيقة، أو على الأقل ما يعتقد هو أنه حقيقة
وإذا كتب عن (مخلوف) يتهكم به، ويشنع بسوء فهمه للأدب، فمبعث ذلك عظم الفرق بين طاقة العقاد وطاقة مخلوف، والحنق على أن يكون مثل هذا ناقداً لمثل ذاك
والحق أن هذا مما تضيق به الصدور. وقد كنت أنا لا العقاد مستعداً للثورة والحنق، لو تناول هؤلاء أدب بمثل هذا الضيق في الفهم، والاستغلاق في الشعور، أو بمثل التلاعبات الذهنية، واللفات البهلوانية، التي تناولا بها أدب العقاد
ثم لا بد من عتب على الأستاذ سعيد في أن يسمح لصداقته للرافعي أن تعدو على التقدير الصحيح للعقاد، فيعرض بلقب (أمير الشعراء) الذي (ينحله) الدكتور طه حسين بك للعقاد (تملقاً) للشعب ونزولا على هواه
وما أريد أن أبحث عن بواعث الدكتور طه لإطلاق هذا اللقب، فصلتي بالدكتور لا تزال حتى اليوم لا تسمح لي بتفسير حقيقة بواعثه. والحكم على النيات عمل عسير لا يصح الاستخفاف به، ولكنني أتحدث عن مظهر هذا التصرف لا عن باعته. ورأيي أن هذا اللقب غير لائق بالعقاد، لأن المسافة بينه وبين شعراء العربية في هذا العصر أوسع من المسافة بين السوقة والأمراء وإنني لأكررها مرة أخرى، وأعينها في معرض الحقائق الواقعة لا معرض الجدل والمناقشة
قد يكون هناك كتاب يتقاربون مع العقاد، ولكن ليس هناك شعراء في لغة العرب يتقاربون مع العقاد
ولقد كنت هممت بإصدار بحث عن الشعراء المعاصرين، ونظرت في أدب جميع الشعراء الأحياء - وأنا من بينهم - ولكن عاقني عن إصداره أن لم أجد نقط اتصال بين العقاد الذي سأكتب عنه أولاً، وبين جميع الآخرين من الشعراء
الفرق هائل جداً، وأكبر مما يتصوره الأكثرون، بين طاقة هذا الشاعر والطاقات الأخرى
وسيغضب لقولتي هذه كثير من أصدقائي الشعراء المعاصرين، ولكنهم ليسوا أكرم علي من نفسي، وأنا حسن الظن بشعري، - وليعذرني أنصار مبدأ التواضع - ولكنني حين أضعه أمام شعر العقاد يتلاشى، وتحتبس نفسي عن التعبير حتى يسكن صدى شعر العقاد في نفسي!
هذه كلمة حق وعقيدة. وسأتولى شرح الأمثلة التي تثبت كل ما أسلفته من آراء
(حلوان)
سيد قطب