مجلة الرسالة/العدد 248/القصص
→ إلى. . . | مجلة الرسالة - العدد 248 القصص [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 04 - 04 - 1938 |
شارلس لام يروي عن شاكسبير
قصة الشتاء
للأستاذ دريني خشبة
أحب ليونْتس ملك صقلية زوجه الحسناء الفاضلة هرميون حباً يقرب من العبادة
وكان صديقه بوليكسينز ملك بوهيميا أحب الناس إليه بعد هرميون، لأنه رفيق الصبا وخِدن الشباب وزميل المدرسة. . . فلما فصلت الأيام بينهما لارتقائهما أريكة الملك، ظلا يسقيان فروض الصداقة، ويرعيان عهود المودة، ويتبادلان الهدايا والتذكارات والُّهي
ثم دعا ليونتس صديقه لزيارته، وألح في دعوته، فأقبل بوليكسينز ليحل ضيفاً على البلاط الصقلي، ولقيه الملك لقاء المشوق المستهام، وقدمه إلى زوجه هرميون أعز صديق بل أعز شقيق
وأخذا يتنادران في النهار ويسمران في الليل، ويقص أحدهما على الآخر ذكرياته، ويستعيدان ملح الطفولة ورقائقها، ويستعرضان صور الشباب الوارف الفينان، وهرميون أثناء ذلك تصغي إليهما وتقبل على حديثهما وتسرّ به، وكان زوجها يوصيها خيراً بضيفه فكانت تحتفي به، وتبتكر الأساليب لإدخال السرور على نفسه
وأستأذن ملك بوهيميا صديقه في الأوبة، فأبى ملك صقلية إلا أن يتلبث. . . فألح ملك بوهيميا وأبى إلا أن يعود. . . وهنا سأل ليونتس زوجه هرميون أن تطلب إلى بوليكسينز أن يبقى. . . فلما فعلت لبى ملك بوهيميا، ونزل عند رجائها، وأجل سفره إلى موعد آخر
وا أسفاه!!
لقد نفثت ثعابين الغيرة سمومها في قلب الملك، واحتلكت الحياة في عينيه، ولم يفتأ يسائل نفسه لِمَ قَبِل ملك بوهيميا رجاء هرميون بمجرد أن كلمته، مع أنه لم يقبل رجاءه هو؟!
(إن في الأمر شيئاً، وان وراء الأكمة ما وراءها. . هذا لا ريب فيه! لقد زاد عطف هرميون على هذا الضيف الثقيل، حتى شككت في أن يكون العطف حباً. . . وهذه النظرات التي كانا يتخالسانها في حضرتي. . . وهذه الضحكات الفضية التي كانت هرميون تسقسق بها في هواء المكان الذي كان يجمعنا وبوليكسينز. . .!)
وعلى هذا النحو راح الملك يجتر شكوكه ويوسع آفاقها ويلقي في نارها وقود الظن حتى أنضجت فؤاده، وحتى غدا بسببها وحشاً مغيظاً محنقاً، ينظر إلى هرميون الجميلة المفتان الحصان الطهور، نظرته إلى المرأة الفاسقة المسافحة الهلوك وينظر إلى صديقه العف الحبيب، كما ينظر إلى عدوه الفاجر اللدود
وأرسل الملك إلى أحد رجالات بلاطه - السيد كاميللو - فبث إليه خبيئة صدره، وأمره أن يدس السم لملك بوهيميا في طعامه
وشاءت العناية ألا يمتثل كاميللو أمر مولاه، وشاءت كذلك أن يلقي كاميللو بالسر كله إلى ملك بوهيميا، وأن يحذره مغبة البقاء في ضيافة ليونتس؛ فيدبران الأمر معاً، ويفران في جنح الظلام إلى بوهيميا
ويثور ثائر الملك لهذا الفرار، ويكبر في روعه فيكون برهاناً جديداً لما دار في خلده من شكوك وريب، فيذهب من فوره إلى مخدع الملكة، حيث جلست تصغي إلى قصة ظريفة يلقيها عليها ابنها مارميللوس. . . الطفل اليافع الجميل. . .
وكان الملك مقطب الجبين عابس الوجه، يضطرب في قلبه بركان من الغضب، وتتدفق في أعصابه سيول من الححم، فتقدم كالوحش المجروح فأنتزع مارميللوس، وأسلمه لمن يُعنى به. . . ثم أمر فسيقت الملكة إلى غيابة السجن
وأرسل الملك سيدين من رجاله - كليومين وديون - إلى دلفوس ليستوحيا له كهنة أبوللو في أمر زوجته، وفي حقيقة ما اتهمها به. . . هل صحيح أنها خانته مع صديقه، أم هي براء من هذه الجريمة الشنعاء؟
في تلك اللجة من الدموع، وفي هذا الليل الزاخر من الأحزان، وضعت هرميون في سجنها السحيق أنثى. . . كانت سلوى باكية لأمها المشجونة؟
وهكذا ضم السجن ضحية أخرى. . . مولودة شقية لا ذنب لها ولا جريرة ولا إثم. . . أرسلتها المقادير إلى هذه الدنيا المعوجة القاسية لتكون حياتها مأساة!
وكان للملكة صديقة من نساء سادة البلاط تحبها وتخلص لها الود، تدعى ليدي بولينا، زوجة انتيجونوس الصقلي فلما علمت بما أجاء الملكة في سجنها من المخاض، وما تلا المخاض من وضع، ترقرقت دموع الألم في أغوار قلبها من اجل مولاتها، وانطلقت إلى السجن خفية، فقالت لليدي اميليا؛ السيدة الطيبة القلب المنوط بها السهر على الملكة: (أحسبك ياعزيزتي الليدي تشركينني في الألم لما أصاب الملكة!) فلم يكن إلا أن تفجرت الدموع من عيني اميليا جواباً على ما قالت بولينا. . فقالت لها وقد سرها ما رأت من بكائها: (إذن تذكرين لها أنني هنا. . . وأنني مستعدة لان اذهب بالطفلة إلى الملك فأدافع عن هرميون، والقي إليه بابنته عسى إن هو رآها أن ترقق ما قسى من قلبه، وتنير ما تدجى من نفسه، وتظهر له ما خفي عليه من برهان ربه) فأجهشت أميليا، ودعت للسيدة، وشكرت لها مجازفتها، ثم ذكرت أن الملكة كانت تفكر في مثل هذا
ودفعت الملكة بطفلتها إلى بولينا فذهبت بها إلى الملك رغم ما حذرها به زوجها من مغبة الإقدام على هذا الجنون، خشية أن يبطش بها؛ فلما مثلت بين يديه كشفت عن المولودة البائسة فصاحت وأعولت، ثم وضعتها عند قدميه، وانطلقت تدفع عن صديقتها الملكة ما رماها به من الفحش، وطلبت إليه أن يرحم الطفلة بالعطف على أمها. . . وكانت تتدفق في دفاعها كالسيل، وترق في استعطافها كالنسيم، ساكبة أثناء هذا وذاك دموعها تنثرها على كلماتها، وتنضج بها عباراتها، عسى أن يلين فؤاد الملك
ولكن الملك وا سفاه لم يزدد إلا عتوا ولم يزده ما صنعت بولينا إلا استكبارا، فأمر زوجها أن يذهب بها من بلاطه وان يتركاه إلى شيطانه.
ثم دعا الملك إليه انتيجونوس - وهو زوج بولينا - فأمر أن يحمل الطفلة إلى البحر وان يقلع بها ليتركها عند أول شاطئ وديعة مظلومة بين أيدي القضاء والقدر
وأتمر الرجل الغبي بأمر الملك، فحمل المولودة في يديه الجبارتين وألقاها على صدره الصخري، ومضى بها إلى. . . البحر!
وهكذا فصل الملك بينه وبين قطعة فؤاده في ثورة الغضب الجامح، غير منتظر عودة رسوليه بنبوءة أبوللو من دلفوس
ولم يكن بحسبه هذا، بل أمر بقضاة المملكة وذوي الرأي فيها فاجتمعوا في حشد عظيم لمحاكمة الملكة. . لمحاكمة هرميون. . بأعين الرعية، وعلى ملأ من الجمهور ولغطت ألسن السوء بما اتهم به الملك زوجته، وراجت، شائعات الضلالة، واهرع الناس من كل فج ليشهدوا مليكتهم التقية النقية تقف موقف الاتهام الوضيع، والشك المزري، ثم لتسمع بعد هذا الحكم الذي لا تدري هل يكون عليها أم لها
وصمت الناس حتى لكأن على رؤوسهم الطير
وجلس القضاة فوق المنصة الكبرى وليس في خد أحدهم قطرة من دم
وصدئ البريق في عيونهم فانبعث منها ظلمات من ورائها ظلمات!
وفغر الناس أفواههم حين شاهدوا الملكة المظلومة تبكي، وهي برغم بكائها جميلة فينانة ريانه رائعة. . . لأنها بريئة
وحضر الملك فلم يتحرك أحد للقائه. . . وجلس فوق عرشه الصلف، وأخذت نظراته تزيغ هنا ثم تشرد هناك. . . كنظرات الذئب قد فجأه ضبع!!
وحينما دق كبير القضاة بيده على المنضدة مؤذناً ببدء المحاكمة، شهد الناس سيدين من خيرة ساداتهم يشقان الجموع المحتشدة، ويذهبان إلى هيئة المحاكمة صعدا، ثم يتجهان ناحية الملك
أوه!! إنهما كليومين وديون قد عادا من دلفى!
ترى ماذا في هذا الظرف الكبير المختوم بخاتم كاهن أبوللو الأكبر؟!
قال الملك: (افتح يا كليومين بإذني، واتل على الناس نبوءة دلفى!!
وفض كليومين الظرف الكبير، ونشر الصحيفة البردية، وراح يتلو:
(بريئة هرميون)
(لا وزر على بوليكسينز)
(كاميللو من الرعايا المخلصين)
(ليونتس ظالم غيران)
(سيعيش الملك بلا وارث إن لم تعد طفلته المفقودة!!)
وتبسم الملك مستهزئاً، وظن ظان النبوءة رجس من عمل هرميون وتلفيق أصدقائها، ثم أمر القاضي الأكبر أن يأخذ في المحاكمة ليتبين الرشد من الغي
وحينما دق القاضي بيده مؤذنا بدء المحاكمة، إذا رجل طويل يقدم حتى يقف تلقاء الملك وهو يلهث، فيقول
- مولاي! الأمير يا مولاي! ماميللوس!
- ما له يا رجل؟
- ما. . . ما. . . ت!!
- مات؟ ولمه؟
- حزناً على أمه الملكة يا مولاي! لقد هاله أن تقف هذا الموقف لتفضح ظلماً في شرفها وعرضها. . . آه يا حبيبي الأمير. . . آه يا اعز الناس علي!!)
وزاغت الأبصار كلها. . . واستخرط الناس في البكاء. . . ووجم القضاة فلم ينبسوا بكلمة
أما الملكة، أما هرميون المسكينة، فقد ذاب قلبها، ووهى جلدها، ولم تطق أن تسمع أن ولدها الوحيد الحبيب قد لفظ نفسه الأخير وجداً عليها، ورثاء لها، فنظرت إلى الدنيا كأنها تسوخ تحت قدميها، والى السماء كأنها تطوى من فوقها، والى الناس كأنهم عيون ودموع وقلوب كسيرة مفجعة. . . فخرت مغشياً عليها
وانتفض قلب الملك!
وتفجرت في أغواره شآبيب الرحمة، وانسرقت عبرة من عينه تغلي كالمهل لتكفر عن خطيئته. . . فأشار إلى بولينا ومن معها من وصيفات الملكة، فحملنها، وأوصاهن بها خيراً
واخذ الجمع الحاشد يتمزق أباديد
ولم يمض غير قليل حتى عادت بولينا وفي وجهها سحابة حزينة باكية، وفي جسمها رجفة عظيمة، وفي عينيها دموع سخينة حرار. . . وفي فمها نعي هرميون!!
ماتت هرميون إذن، وخلفت هذه الدنيا السمجة المملوءة بالرذيلة وراءها. . . خلفتها للملك المغيار المسكين الذي لم تنفعه أن تتحرك الشفقة في فؤاده حينما سمع بموت وليه ما ميللوس، ولم ينتفع كذلك أن يؤمن ببراءة هرميون بعد إذ رماها بأم الموبقات
وذكر ليونتس طفلته التي نفاها وراء البحر مما جلبت عليه مظنة السوء في أمها من خبال، فصار شجوه شجوين، واعتلج فؤاده بهمين، وود لو يعطي عرشه وملكه لمن يرد إليه المولودة التي لا يعرف لها اسماً ولا يكاد يذكر لها رسماً
ولكن هيهات! فهاهي ذي السنين تمر، والأيام تكر والملك المسكين يتلظى بنار الشجو والشجن، ويغص بآلام الأسى والحزن فهو من عيشه في سجن، ومن قصره في قبر، ومن ضميره في عناء، ومن ذكرياته في بلاء، ومن رعيته في شهود عليه بما قدمت يداه!!
أما انتيجونوس الذي ذهب بالطفلة وراء البحر، فقد اقلع في سفينة دفعتها الرياح، وما زالت تدفعها، حتى أرست على شاطئ بوهيميا! حيث يحكم الملك بوليكسينز بأمره. . . وهنا. . . نزل الرسول الشقي بالأميرة الصغيرة إلى البر وما كاد يصعد في حدوره حتى لمح غابة قريبة فجعل يدلف نحوها، وفي ذراعيه الوديعة المسكينة تبكي وتصيح من الجوع. . . أو. . . من هذا الصدر البارد الذي لم يعرف حنان الام، ولم يجش فيه لبنها ومحبتها!
وتحت دوحة باسقة وارفة الظلال وضع انتيجونوس الأميرة الصقلية، وعاد أدراجه إلى البحر. . . لكنه لم يبلغه. . . وكيف يبلغه وهذا الدب المنتقم قد ترصده، حتى إذا بعد عن الطفلة انقض عليه، واعمل فيه أنيابه ومخالبه، وطهر ظهر الأرض من روحه المظلمة الظالمة التي لا تعرف الحنان!
وذهب الدب بعد إذ اغتذى وشبع
وبرز من الغابة رجل راع مجدود طيب القلب كان مختبئاً ثمة من الدب؛ وكان بكاء الطفلة يحز في صدره ويذيبه وجداً عليها. . .
وأحتملها في يديه الرحيمتين، وراح ينظر في وجهها الصغير ويتعجب، وينظر إلى لفائف الحرير الجميل والدمقس المفتل ويطرب. . . ثم جلس ليصلح من شأنها ما علمته الأبوة الساذجة فاكتشف كنزا من در وياقوت وجوهر، وورقة كانت هرميون قد شبكتها في صدر ثوبها بدبوس وكتبت عليها. . . برديتا. . . وكليمات أخريات عرف منهن الراعي أن اسم لقيته برديتا وأنها من نسل الملوك الصيد
وخفق قلب الرجل واشتد وجيبه وابتسم للدنيا وابتسمت الدنيا له، وطبع قبلة على جبين الطفلة فسكنت. . . وهرول بها إلى كوخه. . . وهناك. . .
(لها بقية)
دريني خشبة