الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 246/الحكومة الإسلامية الأولى

مجلة الرسالة/العدد 246/الحكومة الإسلامية الأولى

مجلة الرسالة - العدد 246
الحكومة الإسلامية الأولى
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 21 - 03 - 1938


للأستاذ الشيخ علي الخفيف

مدير المساجد

دعا النبي ﷺ إلى ربه. فبدأ دعوته في مكة حيث نشأ، ومكث بها داعياً ثلاث عشرة سنة تبعه فيها السابقون الأولون من المؤمنين وهم قليل. فأوذوا في أنفسهم وأموالهم وفتنوا في دينهم. وحيل بين الدعوة وبين ظهورها ونشرها، كما منع الناس من أن يطرق الحق آذانهم أو تصل الذكرى إلى قلوبهم. وكان ذلك بأيدي أولي القوة والحماية، وبأعين أهل الحكم والولاية. وكان المؤمنون يومئذ فئة قليلة لا يملكون قوة ولا يستطيعون دفاعاً ولا يجدون أمناً ولا عدلاً. فلم يجدوا سبيلاً لحياتهم إلى الهجرة من ديارهم

هاجر النبي ﷺ إلى المدينة وهاجر إليها المؤمنون من قبله ومن بعده يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله، فحلوا على الرحب والسعة بين إخوانهم وحلفائهم من الأوس والخزرج الذين آزروهم ونصروهم وأشركوهم في ديارهم وأموالهم، وعقدوا معهم أخوة كونت منهم جميعاً جماعة لها من الأسرة توادها وتراحمها وتعاطفها واجتماعها على زعيم رءوف بها حريص عليها، وفيها كل خصائص الدولة من التماسك والمنعة والخضوع لنظام واحد، والسعي إلى غاية مشتركة، والاختصاص بوطن معلوم

لقد كانت الهجرة النبوية بداية لعهد جديد افتتح به العالم طريق كماله الإنساني، وحياته المفكرة، ونظره المستقل؛ فتغيرت لذلك وجهة الأمن، وتبدل مجرى الحوادث، وبدأ التاريخ فصلاً جديداً لتطور فكري منشؤه البحث والنظر، وانقلاب اجتماعي أساسه المساواة والتعاون، وانكشاف ديني غايته تزكية النفس وتكميل الخلق. ولم يكن للهجرة ذلك الأثر إلا لأنها هيأت للمسلمين قيام دولة إسلامية قامت بنشر الدعوة وحمايتها وإيصالها إلى من كان محجوباً عنها. ثم دافعت عن كل من دان بها، فإذا الناس بهديها مهتدون، وبنورها مستضيئون، وبتهذيبها مفلحون، وبآثارها متمتعون

بدأت هذه الدولة يوم أن دخل النبي (ص) المدينة المنورة، واستقر بها زعيما الأوس والخزرج ومن هاجر إليهم من قريش ومن لازمهم من مسلمي العرب، فتألفت منهم جماع متحدة جعلت المدينة مقراً لها ووطناً، واتخذت أوامر النبي (ص) ونواهيه نظاماً وحكما، فكانت منهم دولة يحكمها الرسول له فيها سلطان الحكومة كاملاً؛ فهو صاحب الولاية العامة، وهو مصدر التشريع، وله القضاء وإليه التنفيذ، يدير الشؤون ويقود الجيوش، ويجبي الأموال وينفقها في وجوهها ويوزعها على مستحقيها، ويعقد العهود ويقوم على الوفاء بها وينبذ إلى من نقضها، ويحمل الناس على الخطة المثلى ويهديهم صراطاً مستقيماً

وكانت هذه الشؤون على عهد الرسول قريبة الغور بسيطة التركيب رقيقة الحاشية قليلة العدد محدودة المكان ترجع في بساطتها ورقتها إلى ما ألفوه يومئذ من معيشة بدوية، واعتادوه من عادات فطرية، وتوارثوه من تقاليد طبيعية، إذ كان نظام الحكم مستمداً من نظمهم المألوفة عندهم المعروفة لديهم، ولن استمداده لم يتجاوز الصور والأوضاع إلى ما كانت تحويه تلك النظم الجاهلية من هضم لحقوق الضعفاء، وظلم للأبرياء، وأخذ بالشبهات، وتصديق بالخرافات، واعتماد على الترهات، بل كان خالصاً من الظلم، نقياً من الدنس، بريئاً من العيب، صالحاً لزمانه، ملائماً لأهله، كفيلاً بتحقيق مصالحهم وتوفير طمأنينتهم وسد حاجاتهم. ذلك بأن أمره كان إلى الرسول يتلقى فيه وحي ربه، ويهتدي في ترتيبه وتدبيره بهديه، ويجتهد في تكميله بحكمته ونظره، حسبما تقتضيه المصلحة والحاجة، وعلى ضوء ما يدعو إليه التطور الجديد وتهدي إليه الحوادث

من ذلك يتبين أن نظام الحكومة الإسلامية الأولى لم يكن نتيجة خالصة لتطورات حكمية سالفة، ولا أثراً لثورات ماضية، كما لم يكن فكرة أفضت إليها أزمات استعصى حلها، أو حاجات تعذر قضاؤها، أو اختلاف في طرق الحكم لم ينته إلا بانكشافها، وإنما كان هدياً نبوياً وتوفيقاً إلهياً أخذ من النظم المألوفة والتقاليد الموروثة ما لاءم الفطر وصلح على الزمن وأوصل إلى الغاية، ثم نفى منها الفاسد الخبيث مما ساير الأهواء وأورثته المطامع والشهوات، ولم يعلُ فيما ابتدعه من ترتيب ووضعه من أسس ومبادئ عن مستوى الزمن ومدارك العامة من أهله واستعدادهم الاجتماعي وبيئاتهم الحاضرة، بل راعى في تشريعه جميع ما يلابسهم ويتصل بهم من ثقافة وتربية وعادات ووطن ودين اختير لإعلاء كلمته ونشر دعوته، وكذلك راعى الزمن وسيرة الحوادث وتقلباتها، والجماعات وتطوراتها، والحاجات وتغيراتها لهذا جاءت أسس الحكومة الإسلامية قواعد كلية ومبادئ عامة جديدة لا يبليها الزمن، ومستقيمة لا يقومها التطور، ومثبتة لا تنال منها الحوادث، صارمة صريحة صالحة لكل أمة، ملائمة لكل زمن، قائمة في كل مكان. وهذه بعض تلك القواعد نكتفي بذكر أهمها لأن استيعابها لا يتسع له المقام ولا يناسب الحال:

1 - العدل: أمر الإسلام بإقامته وكرر الأمر به في صور شتى تارة بذكره كقوله تعالى: (اعدلوا هو أقرب للتقوى)، وقوله: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، وتارة بالنهي عن الظلم وكراهة أهله كقوله: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة، إن الله لا يحب الظالمين)، وقوله عليه السلام: (إن الناس إذا رأوا الظلم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده)

2 - المساواة: قرر الإسلام مبدأ المساواة في قوله تعالى: (إنما المؤمنون اخوة) وقوله: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وقوله عليه السلام: (المسلمون كأسنان المشط) وقوله: (المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم)

3 - التآلف والوحدة: دعا الإسلام في أكثر من موضع إلى الوحدة وعدم الفرقة، فقال تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) وقال: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً) وامتن بها فقال لرسوله: (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) وقال عليه السلام: (المسلمون يد على من سواهم)

4 - الشورى: حض الإسلام عليها فأمر بها نبيه بقوله: (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله)، ومدح بها المؤمنين إذ وصفهم بها فقال: (وأمرهم شورى بينهم)

5 - النصيحة: ويدخل فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد عني بأمرها الإسلام فجعلها من الدين، قال عليه الصلاة والسلام: الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله؟ قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. ولعن الله بني إسرائيل لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، وقال لبئس ما كانوا يفعلون. وقال عليه السلام: إن الله يرضى لكم ثلاثاً ثم ذكر منها: أن تناصحوا من ولاه الله أمركم 6 - التعاون: فقد أمر به الكتاب فقال: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)

على هذه القواعد التي تقيم الحكم على أساس متين وتكفل له تحقيق أكمل غاياته قامت حكومة الرسول (ص) في المدينة المنورة وفيما جاورها من الأماكن القريبة. ولبساطتها وقلة التفرع في شؤونها وبعدها عن التشعب وعدم سعة أرضها كان أمر تدبيرها في جميع نواحيها إليه ﷺ مباشرة. وساعد في ذلك أن أصحابه كانوا لأوامره مطيعين، ولأقواله حافظين، وبأفعاله مقتدين، ينشدون العدل ويطلبون الحق، يرون سعادتهم في طاعته وترسم آثاره، وشقاءهم في مخالفته وتنكب طريقه

وكانت الولايات على عهد الرسول تكاد تنحصر في قيادة الجند وولاية الصلاة والتعليم، وولاية الصدقات والأموال، وولاية القضاء والمظالم، وولاية التشريع

فأما قيادة الجند فكانت إليه. يدعو إلى الجهاد ويعبئ الجيش ثم يقوده بنفسه، ويشرف على ترتيبه وخططه، فإذا لم يخرج معه عهد إلى بعض أصحابه في ذلك ممن عرف بالكفاية في الحروب والحذق بفنونها والبصر بمكايدها. ولم يكن له عليه السلام جيش خاص يقوم بذلك دون بقية المسلمين، بل كان جميع المسلمين جنداً محاربين لا يعفى من الخروج إلا من أقعده المرض أو الضعف أو العجز، أو لم يجد نفقة، وكان في ذلك حزنهم وعظيم كربهم، حتى أنزل الله تعالى قوله: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا الله ورسوله، ما على المحسنين من سبيل، والله غفور رحيم. ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه، تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون). كذلك كان يعفى من الخروج من عهد إليه بعمل عام في المدينة أو لحقته ضرورة لا فكاك منها، على أن يكون له سهمه في الغنائم. وكانت نفقاتهم في أموالهم وأرزاقهم من مال الله الذي آتاهم أو في أموال المحسنين منهم ممن كانوا يخرجون عن بعض أموالهم لهذه الأغراض. ولم يكونوا محصورين في ديوان لعدم الحاجة إلى هذا الإحصاء لأنهم كانوا جميعاً محاربين، ولم تتخذ سجلات الجيوش إلا في عهد عمر رضي الله عنه

وأما ولاية الصلاة والتعليم فكان عليه السلام يؤمهم في المدينة ويعنى بتعليمهم دينهم وإرشادهم أشد عناية، لأن ذلك كان من أهم أغراض الرسالة. كان يعلمهم بنفسه، يقوم بذلك في المسجد، وفي كل مجلس يجلسه، وفي كل مقام يقومه، في الحضر والسفر، والسلم والحرب؛ وكان يحض المتعلم من أصحابه على أن يعلم الناس، ويشجع من قام بذلك بقيامه على حلقته في المسجد. وكان يستعين في ذلك بأمثل أصحابه يرسلهم إلى الجهات النائية أو القبائل التي دانت بالإسلام ليؤموهم ويرشدوهم ويعلموهم القرآن وأحكام دينهم. ومن عنايته ﷺ بالتعليم أن جعل فداء المعسر من أسرى بدر إذا كان قارئاً كاتباً تعليم عشرة من غلمان المدينة

وأما ولاية الصدقات والأموال فكانت جبايتها إلى من يختارهم من أصحابه العالمين بأحكامها، يجمعونها من أهلها في بلادهم المختلفة ويحضرون بها إلى النبي ﷺ فيوزعها لوقتها دون أن يدخر منها شيئاً. ولذا لم تكن لهذه الأموال على عهده خزائن لحفظها ولا سجلات لقيدها، وإنما وجد ذلك بعد وفاته ﷺ. وذلك يرجع إلى قلة ما كان يجمع منها على عهده وحاجة المسلمين إليه وقيامهم جميعاً بالدفاع والغزو. ولم تكن موارد هذه الأموال يومئذ تتعدى الصدقات والغنائم والجزية؛ وكانت مصارفها ما بينه الكتاب الحكيم في قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) وفي قوله تعالى: (واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل).

وأما ولاية القضاء والمظالم فكانت إليه في المدينة المنورة وما جاورها من الأماكن، إذ لم تكن الخصومات كثيرة إلى الدرجة التي تدعو إلى الاستعانة بغيره. ولم تكن مع ذلك خصومات حقيقية، بل كان أكثرها لا يعدو أن يكون اشتباهاً في وجه الحق، فإذا بينه عليه السلام بعد الترافع إليه فما أسرعهم إلى الرضا والتنفيذ دون حاجة إلى دافع أو ملجئ. على أنه عليه الصلاة والسلام لم يستغن عن معاونة غيره في الحوادث التي تتطلب الانتقال، وفي البلاد النائية التي فتحها الله عليه كاليمن والبحرين ومكة وغيرها، فولى فيها ولاة جمع لهم بين ولاية القضاء والصلاة والصدقات والحرب، وربما فرق بينها حسبما تدعو إليه الظروف والمصالح وأما ولاية التشريع فكانت له وحده لأنه إنما أرسل ليشرع للناس دينهم ويهديهم إلى ربهم، ويسلك بهم طريق سعادتهم وفلاحهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، لا ينطق فيه عن هوى، وإنما يصدر فيه عن الوحي ينزل به الروح الأمين على قلبه فيقرؤه على الناس قرآناً مبيناً، أو يحدثهم به حديثاً نبوياً، أو يعلمهم إياه بفعل يأتيه أمامهم فيقتدون به؛ فإن لم يكن وحي صدر عن البحث والنظر ينتهيان إلى استنباطه الحكم المطلوب معتمداً في ذلك على ما استقر في نفسه من روح الوحي وما يراعيه من مصالح الناس. وليس لغير الرسول أن يتولاه، وليس له إلا الاجتهاد في تفهم النصوص وتطبيقها على الحوادث، وإذا صدر منه ما أقره النبي كان شرعاً بإقراره عليه السلام لا بصدوره من صاحبه؛ غير أن ما كان يليه الرسول أو يأتيه لم يكن كله دينا بل كان للدنيا منه كثير؛ وما شرعه في النوع الأول يجب اتباعه ولا يجوز فيه تغيير، وما اتبعه في النوع الثاني يصح أن يناله التغيير والتبديل تبعاً لتطور الزمن وتغير الناس واختلاف العادات، لأن الشأن فيه أن يسير مع المصلحة ويتقيد بالمنفعة، فجاز أن يتسع للبحث وأن يتقبل الخلاف. وكثيراً ما عدل الرسول عن رأيه إلى رأي أصحابه، وغير من رأيه حين اقتضت المصلحة التغيير. وقد ولى عليه السلام كثيراً من أمور الدنيا بحكم ولايته العامة فسلك فيها سياسة دعت إليها حاجات حاضرة وعادات قائمة ومصالح يومئذ مطلوبة، فإذا ما انتهت تلك الحاجات وتغيرت تلك المصالح وتطورت تلك العادات كان على المسلمين من بعده أن يغيروا فيها تبعاً لذلك؛ وقد حصل منهم ذلك فعلا بعد وفاته ﷺ في كثير من النظم

هذه هي أهم الولايات على عهد الرسول ولم تقتصر أعمال الحكومة في عهده عليها بل تجاوزتها إلى كثير من الأعمال التي دعت إليها الحاجة واقتضاها ضبط الأمور وتنظيم العمل مثل الكتابة، والمحاسبة، والترجمة، وحفظ الختم، وحفظ السر، والعسس بالليل والحراسة فيه، فكان لكل هذه الأعمال عمال من أصحابه يقومون بها تحت رقابته وإرشاده

كان عليه الصلاة والسلام المرجع في كل هذه الأعمال يقوم على تدبيرها وتصريف شؤونها بما يوحى إليه في ذلك من ربه أو بما يهديه إليه رأيه بعد بحث ونظر ومشورة يختص بها أولي الرأي والبصيرة من صحابته كحمزة بن عبد المطلب وأبي بكر وعمر وعلي وغيرهم؛ فكان عليه السلام يستشيرهم في كثير مما يعن من الأمور التي لم ينزل عليه فيها كتاب، وبخاصة ما كان منها متصلاً أو متعلقاً بالغزو والدفاع، فاستشار الأنصار يوم بدر في قتال المشركين، فقال له سيد الأوس سعد بن معاذ: (والله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك). وأخذ برأي الحباب ابن المنذر الأنصاري حين رآه ينزل عند أدنى ماء من بدر فقال له: (أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر أم هو الرأي والحرب والمكيدة) فقال له عليه السلام: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة) فقال: (يا رسول الله ليس لك هذا بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله) فقل عليه السلام: (قد أشرت بالرأي) ثم استشار أصحابه في أسرى بدر وأخذ برأي من أشار عليه بقبول الفداء فعاتبه الله في ذلك وأقره. واستشارهم في إطلاق زوج ابنته زينب ورد قلادتها التي أرسلت بها فداء إليها. واستشارهم في غزوة أُحد أيقيم بالمدينة حتى يلقى العدو على أبوابها أم يخرج إليه، وكان يرى المقام، ولكنه أخذ برأي الجمهرة منهم. واستشارهم في طريقة الدفاع عن المدينة يوم الخندق. ولو أردنا أن نعدد ما استشار فيه عليه السلام أصحابه لطال بنا القول وما أحصينا أكثره؛ وإن ذلك ليكفي في أنه عليه السلام وهو الموحي إليه المعصوم كان يعتمد في حكومته على مشورة أصحابه يبحث معهم الأمر، يحزبهم ويناقشهم فيه حتى ينتهوا فيه إلى الحق، فلا يكون لأحد بعد ذلك خلاف. وذلك ما أدبه ربه عز وجل بقوله: وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله). وكان عليه السلام إلى هذا عادلا لا يميز بين أصحابه ولا يكرم عليه من بينهم قريب لقرابة أو ذو جاه لجاهه، بل أنه ليسوي بينهم وبينه فيرضى أن يقاد من نفسه. لقد تقدم إليه بعض صحابته يوماً ما بشفاعة في قطع يد امرأة مخزومية فقال عليه الصلاة والسلام: أشفاعة في حد من حدود الله؟ والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها. ولقد أتاه يوماً رجل يتقاضاه ديناً فأغلظ له، فهم به بعض أصحابه، فقال عليه السلام: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا. وقال له أحد الأعراب وقد رآه يقسم بعض الغنائم: اعدل. فأجابه بقوله: فمن يعدل إن لم أعدل؟ خبت وخسرت إن لم أعدل. ومر عليه السلام بسواد بن غزية في غزوة بدر وهو خارج عن الصف فضربه بالقضيب في بطنه وقال له استقم يا سواد. فقال سواد أوجعتني يا رسول الله وقد بعثت بالحق والعدل فأقدني من نفسك. فكشف له الرسول عن بطنه وقال: استقد يا سواد. فاعتنقه سواد وقبل بطنه وقال إنما أردت أن يكون آخر العهد أن يمس جلدي جلدك؛ فدعا له بخير

يرى مما ذكرنا أن حكومته ﷺ كانت شورية ما أمكن أن يكون للمشورة محل، لأنها كانت في كثير من الأمور تستند إلى الوحي، ولم تكن عصمة الرسول وما أعطيه من الدرجة الرفيعة ليمنعه من أن يستشير أصحابه، وذلك ليعلمهم البحث ويهديهم إلى النظر الصحيح، والى وسائل الحكم الصالح المنتج، ويشعرهم بوجودهم ويعودهم تحمل نتائج بحثهم وتفكيرهم وفي ذلك تطبيب لنفوسهم وتوفير لمرضاتهم. وقد كانت رياستها إليه وحده بحكم رسالته واختياره من ربه لإظهار دينه ونشر تعاليمه. فلما توفى كان لابد للمسلمين من أن ينظروا فيمن يخلفه في تلك الرياسة العامة، فكان أول من بادر إلى التفكير في ذلك جماعة الأنصار من الأوس والخزرج، فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، ولم يكد يلتئم اجتماعهم حتى وصل نبؤه إلى أبي بكر وعمر فأسرعا إليهم، وكان بينهم نقاش وجدل فيمن هو أولى بالخلافة. أيليها أحد الأنصار أم أحد المهاجرين الأولين من قريش، أم تكون شركة بينهم من الأنصار أمير، ومن المهاجرين أمير؟

لم يكن القوم يومئذ داعين إلى عصبية ولا طامعين في تغلب وجاه، ولا نافسين بعضهم على بعض مراكزهم، ولكنهم فوجئوا بوفاة الرسول دون أن يستخلف أو يسن لهم فيه سنناً أو يشرع لهم فيه شرعاً، يستبين به وجه الحق ويتعين به الخليفة؛ فأسرعوا إلى بحث ذلك خشية الفرقة، يبتغون الحق، ويتبينون الصواب، ويستجلون المصلحة، فما إن خطبهم أبو بكر حتى ظهر لهم جميعاً الحق واندفعوا وراء عمر رضي الله عنه مبايعين أبا بكر، حتى لقد سبقه بعضهم إلى يده وإن كان أسبقهم إلى طلب بيعته. لقد اتفقوا في ذلك الاجتماع على أن يكون خليفة يخلف الرسول إمامته، وعلى أن يكون الخليفة واحداً لا متعدداً، وعلى أن يكون أبا بكر رضي الله عنه. وما ذاع ذلك حتى كان فيه رضا أولي الرأي من بقية المهاجرين والأنصار، فأقبلوا على أبي بكر بالمسجد مغتبطين مبايعين، ولم يتريث إلا بعض بني هاشم، تباطئوا ثم بعد ذلك بايعوا، ولم يكن تباطؤهم مانعاً دون تمام خلافته وأخذه في مباشرة أسبابها في سيره في حكومته على نهج الرسول

ولقد انتهى المسلمون في أمر إقامة الخليفة إلى نتائج قيمة وثمرات صالحة طيبة، أضاعها الخلف فحرموا طيباتها، ومنوا بشرور تجنبها وويلات مجافاتها، فأصابهم ما أصابهم مما هم فيه من الضعف والمهانة حتى أصبحوا أمماً مستعبدين أو جماعات متخاذلين

أولها - أن الخليفة نائب عن الأمة وولايته مستمدة من ولايتها، وسلطانه فرع من سلطانها، فقد اختار المسلمون أبا بكر بعد وفاة الرسول من بينهم وأقاموه خليفة عليهم ليسوموهم ويدبر أمورهم وفق كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومهتدياً في ذلك بهدي رسول الله ﷺ، ومعتضداً بمشورة أولي الرأي منهم، فهو وكيلهم في ذلك ومعقد نظامهم ورأس وحدتهم؛ وهو في هذا الأمر كما كان الرسول، غير أنه لا يأتيه الوحي ولا يزيد في الدين ولا ينقص منه، ولا يمتاز فيه عن سائر أمته إلا بما قد يمتاز به أي فرد من أفرادها من سعة في العلم وزيادة في الفقه وتعمق في النظر وإجادة في الاستنباط

ثانيها - أن الخليفة لا يكون إلا واحداً حتى لا يكون تعدده مثار خلاف أو فرقة بسبب ما قد يحدث لكل من شيعة تتشيع له أو حزب ينتصر لرأيه، وحتى لا يكون في تصريف الأمور اختلاف يعوق دون الإسراع في تدبيرها وتلافي الأخطار التي قد تتعرض لها الدولة

ثالثها - أن اختيار الخليفة وانتخابه ليس إلا لمن يقدر خطر الخلافة ويزن نتائجها ويعرف ما يجب أن يتوفر في الخليفة من جدارة وأهلية وقدرة وكفاية. وهؤلاء هم أولي الرأي في الأمة المعروفون في الصدر الأول بأهل الحل والعقد؛ أما غيرهم فالشر كل الشر في إيكال ذلك إليهم، لأنهم يستمعون لكل صيحة، ويهبون مع كل ناعق، يخدعهم الرياء والسمعة، ويغريهم الطلاء والبهرج، وتطمعهم الأكاذيب ويعميهم الجاه والثراء. وأهم ما يلاحظ اليوم على المجالس النيابية من عيوب عدم كفاية أعضائها، ووجودهم إنما يرجع إلى سوء اختيارهم، وذلك بإيكاله إلى من لا يحسنه

رابعها - خضوع الأقلية في ذلك لرأي الأكثرية حتى لا يتفرق الأمر وينقطع الحبل

وهناك نتائج أخرى لا يتسع المقام لتفصيلها، ولذا نكتفي بهذا البيان عسى أن يكون فاتحة بحث جديد في تفصيل أسس الحكم الإسلامي، ومبدأ اتجاه في إقامة الحكومات الإسلامية اليوم على سنن الحكومة الإسلامية الأولى حتى يعود للمسلمين على أيدي حكوماتهم ما كان لهم أيام حكومتهم الأولى من عزة ومجد وسؤدد.

علي الخفيف