مجلة الرسالة/العدد 244/مظاهر داء الشعور بالحقارة
→ تحية شوبنهور | مجلة الرسالة - العدد 244 مظاهر داء الشعور بالحقارة [[مؤلف:|]] |
من برجنا العاجي ← |
بتاريخ: 07 - 03 - 1938 |
للأستاذ عبد الرحمن شكري
من الأمراض الاجتماعية التي حققها المفكرون حديثاً، مرضان نفسيان: الأول داء الشعور بالعظمة، وقد يظهر بمظاهر العظمة أو بمظاهر التواضع المكذوب الذي ينم عن الكبر؛ وداء الشعور بالحقارة، وهذا أيضاً يظهر بمظهرين مختلفين: مظهر التواضع المتناهي وتحقير النفس، ومظهر التعاظم الذي يراد به ستر ما يشعر به المرء من احتقاره لنفسه. وهذا الشعور قد يكون مؤسساً على أمور في العقل الباطن فلا يتنبه صاحبه إلى حقيقة أمره ولا يعرف أنه مريض بداء الشعور بالحقارة
وقد يختلط المرضان لأن كلا منهما يظهر إما بالتعاظم وإما بالتواضع، ويغالي في التعاظم أو التواضع، ولكن تعاظم المصاب بداء الشعور بالعظمة يكون مقروناً بشيء من الاطمئنان والثقة. وقد يبلغ الاطمئنان مبلغاً يجعل صاحبه لا يدرك سخر الناس؛ أما تعاظم المصاب بداء الشعور بالحقارة فهو تعاظم يساوره القلق وغطرسة تنتابها حُمَّى الحقد والحسد، فالخلط بين الداءين من هذه الناحية يدل على خطأ في الاستقراء ونقص في الخبرة وخطل في التفكير. وكذلك الخلط بين تواضع المصاب بداء الشعور بالعظمة وتواضع المصاب بداء الشعور بالحقارة؛ فالتواضع الأول مقرون بالثقة أيضاً، ويظهر من ورائه اطمئنان صاحبه إلى عظم نفسه. أما تواضع المصاب بداء الشعور بالحقارة، فهو تواضع يظهر من ورائه الحقد والحسد؛ وليس من لوازم داء الشعور بالحقارة أن يجعل مظهريه مظهر التعاظم ومظهر التواضع في رجل واحد في أوقات مختلفة. إنه قد يفعل ذلك ولكن كثيراً ما نرى أنه يختص رجلاً بالتعاظم وآخر بالتواضع؛ وأكثر شيوع داء الشعور بالحقارة يكون في الأمم التي لبثت عصوراً طويلة مغلوبة على أمرها، ولا يهم التمييز بين أصحاب الغلبة في تفسير نشأة هذا المرض الاجتماعي
وأكثر ضرر داء الشعور بالحقارة يكون إذا صال به وجال أناس قد بلغوا شيئاً من الجاه والمنزلة والثروة أو كانت لهم سلطة، فان اقتران القدرة به والنفوذ والسلطة مفسدة وأي مفسدة. وكذلك إذا كان صاحبه قدوة لغيرة، فإنه يفسد النفوس بما ينشره هذا الداء الوبيل داء الشعور بالحقارة من الأحقاد والضغائن والأكاذيب والشرور والحقارة والفساد، ولا تستطي أمة أن ترقى إلا إذا تمكنت من اقتلاع جرثومة داء الشعور بالحقارة من نفوس أفرادها، وإلا إذا عالجته في مدارسها علاجاً
نفسياً صحيحاً بإطلاع الطلبة والتلاميذ على حقيقة نتائجه، فإن نتائجه قد تظن محمدة واعتزازاً بالنفس، أو قد تظن غير ذلك على حسب ما يظهر به داء الشعور بالحقارة من المظاهر سواء مظاهر العظمة التي يساورها القلق والحقد والحسد أو مظاهر التواضع التي تساورها هذه الأمور أيضاً. ومن الحكمة جمع الشواهد والأدلة وتفسيرها، فالغيبة والنميمة مظهران من مظاهره ولا شك، لأن منشأهما الرغبة في الاستعلاء بوسائل غير مشروعة يتخذها من يشعر في نفسه بالعجز عن أسباب الاستعلاء الفاضلة لتمكن داء الشعور بالحقارة من نفسه، وكذلك حب الظهور من شواهد هذا الداء وأدلته ولو كان ظهوراً يؤدي إلى ضياع الثروة والعقارات والفدادين. ومن شواهده الولوع بالفكاهة اللاذعة للسخر حتى بالغرباء، كل هذه محاولات من المرء أن يقهر شعوره بحقارة نفسه وأن يقنعها بأنه أفضل من غيره. ومن شواهد داء الشعور بالحقارة أيضاً عدم احترام حدود الحق والواجب، لأن العظيم حقاً يجد من عظم نفسه الحقيقي ما يسليه عن الفشل في نيل أمر تمنع من نيله حدود الحق والواجب، أما الذي يشعر في نفسه بداء الحقارة، فإنه يرى في طمس حدود الحق والواجب زيادة في قدرته وعظمته وشفاء لما يشعر به من ألم الحقارة أو لما يتحسسه في أعماق العقل الباطن من هواجس هذا الداء إذا كان صاحبه لا يدرك حقارة نفسه أو لألم الحقارة وهواجس العقل الباطن معاً. ومن شواهد هذا المرض وأدلته أيضاً الامتعاض من لباب الأمور، فإن صاحبه يكره اللباب المحض الصريح لأنه يشعر أنه يبرز عجزه ويهتم للبهرج المزيف لأنه براق خادع ولا يكلف ما يكلفه اللباب. وليس من الضروري أن يكون المريض بداء الشعور بالحقارة غبياً أو بليداً. وهذا الشعور بالحقارة قد يعظم في نفس صاحبه حتى انه قد يدفعه إلى الإثم والجرم الشنيع. وقد يصير جنوناً أو شبه جنون وحتى تصبح نفس صاحبه كالمفرزات القذرة التي يتصاعد منها الذباب الكثير الألوان، فمن ذباب أزرق وذباب أصفر وآخر أسود وغيره أحمر إلى آخر أنواع هذا الذباب الذي ينبعث من الأقذار. وقد يعظم داء الشعور بالحقارة في نفس صاحبه حتى كأنما يخيل له أن الأرض لا تستطيع أن تحمل ثقل شعوره بحقارة نفسه وهي هي الأرض التي حملت الجبال وحملت الناس والحيوانات حتى الحيوانات الهائلة التي اندثرت قديماً؛ وهي الأرض التي حملت طوفان نوح وفلكه المشحون وحملت حماقة الناس وآثامهم وغباوتهم وجهلهم من عهد سيدنا آدم، وحملت الأرض كل هذه الأشياء ولكن كأن المسكين يخشى أن تلك الأرض نفسها ربما لا تستطيع أن تحمله وأن تحمل ثقل شعوره بحقارة نفسه. وهذا الشعور بالحقارة مما يزيد الحياة مرارة وألما. وله عدوى في بعض البيئات مثل عدوى الأمراض الجثمانية المعدية. ومن درس التاريخ عرف أن الأمراض النفسية تكون لها في بعض الأحايين عدوى مثل عدوى الأمراض الجثمانية المعدية. أو لعل تلك الأمراض النفسية تكون مصحوبة بأمراض عصبية كمرض (الهستريا). وقد شوهدت عدوى تلك الأمراض النفسية وشوهد وباؤها بصفة خاصة في عصور الانقلاب الفكري والاجتماعي والاقتصادي وفي عصور الكوارث الطبيعية الكبيرة والثورات والحروب، ولكنها تظهر في شكل أقل شدة وحدة في حياة الناس اليومية
وداء الشعور بالحقارة قد يصيب الغبي كما يصيب الذكي، وقد يصيب الوضيع المنزلة كما قد يصيب الرفيع المنزلة الذي ارتفع بعد ضعة أو ارتفع أبوه أو جده بعد ضعة أجداده. وهو في أشد حالاته يكون مصحوباً بجنون خلقي لا يميز صاحبه الخير من الشر، ولكن ليس كل جنون خلقي يكون مصحوباً بداء الشعور بالحقارة
والشواهد على وجوده كثيرة؛ فالوضيع الذي يتعالى ويتعاظم مصاب به، والرفيع المنزلة الذي تصيبه حمى إذا رأى ميزة في إنسان أو استضعفه وحاول القضاء عليه بوسائل تنجيه من العقاب والمؤاخذة. ومثله مثل الفلاح الذي يسلط الأشقياء على الناس لسبب تافه أو لغير ما سبب إلا حب الأذى وحب الظهور. وقد عرفنا أناساً من هذا القبيل يصابون (بالسادزم) نسبة إلى الكونت دي ساد الفرنسي الذي كان مصاباً بداء التلذذ بالتوحش والقسوة. فترى أن داء الشعور بالحقارة في أشد حالاته يكون مصحوباً بالجنون الخلقي وبجنون التلذذ بالتوحش والقسوة. وسنحصي بعض شواهد هذا المرض في مقال آخر
عبد الرحمن شكري
المفتش بوزارة المعارف