مجلة الرسالة/العدد 244/تحية شوبنهور
→ في حفلة أدبية! | مجلة الرسالة - العدد 244 تحية شوبنهور [[مؤلف:|]] |
مظاهر داء الشعور بالحقارة ← |
بتاريخ: 07 - 03 - 1938 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
- 2 -
ختمنا مقالنا السابق واعدين أن (نطابق في مقال آخر بين سيرة الرجل وفلسفته، وبين العرض والجوهر في هذه المطابقة)
وإنما رأينا ضرورة هذه المطابقة لأننا اعتقدنا أن كثيراً من القراء سيلمحون جانباً من التناقض الكبير بين دعوة الرجل وسيرته في حياته: بين رجل يزدري الحياة ويستمتع بلذاتها، ورجل يقتضي مذهبه الزهد وهو يحرص على المال، ورجل يهرب من الوباء وهو يبشر (بالنرفانا) والفناء، ورجل عبوس الرأي مشرق الفكاهة
فمن المفيد ولا ريب أن نبين وجهة النظر التي تتجه إليها في تعليل ذلك التناقض، وأن نشرح التوافق الباطن في هذا التناقض الظاهر، وأن نقول إن مذهب الحرص ومذهب التشاؤم كلاما يصدر عن منبع واحد، فلا اختلاف هناك ولا غرابة من وراء الحجاب، وإن بدا لنا الأمر على ظاهره مختلفاً جد الاختلاف مستغرباً جد الغرابة
كان شوبنهور إمام المتشائمين الساخطين على الحياة المستريبين بالناس، المتوجسين من ضمائر الغيب
كان لا يسلم وجهه قط إلى حلاق مخافة أن يذبحه أو يجرحه، وكان يغلق الأقفال على أدوات تدخينه مخافة أن تمزج بالسموم، وكان ينام والى جانبه مسدساته محشوة مهيأة للإِطلاق، وكان لا يطيق معاشرة الناس ولا سماع الأصوات، وكان يقول إن الحياة نقمة لا تحمد ومحنة لا تطاق
كان كذلك وكان يخاف الموت ويهرب من الطاعون، فكيف يكون التوفيق بين هذا الفزع من الموت وذلك التشاؤم بالحياة؟
هما في الحقيقة شيء واحد!
فالمتشائم لا يتشاءم إلا لأنه شديد الإحساس بالخطر، شديد الغلو والإغراق في هذا الإحساس؛ وليس مقتضى ذلك أن يطمئن إلى الأوبئة والأمراض ويركن إلى السرائر والنيات كما يلوح في بادئ الرأي، بل مقتضاه أن يفزع من النذير إذا كان غيره لا يفزع من الحقيقة الواقعة، وأن يكتفي بالإيماء إذا كان غيره لا يكتفي إلا بالصيحة العالية، وأن يهرب من الطاعون قبل أن يهرب منه المستريحون المطمئنون إلى العيش الواثقون بالمصير
وكان شوبنهور يبغض الحياة ويستمتع بلذاتها، فكيف يكون التوفيق بين البغضاء والاستمتاع؟
هما كذلك شيء واحد في الحقيقة. فلولا أنه يحب الاستمتاع بها لما أبغضها، ولولا أن الرجل يعرف لذة المعشوقة لما استعرت في نفسه بغضاؤها حين يحال بينه وبين متعتها كما يشتهيها، ولولا الإحساس المرهف لما كان الألم ولا كانت الحاجة إلى الترفيه عن النفس المتألمة بالإقبال على اللذات والتشاغل بالسرور، فإنما اللذات هنا ترياق لا يحتاج إليه إلا من هو مريض في المستشفى، بل هو مرقد لا يحتاج إليه إلا من فارقه الرقاد ولازمه السهاد
وكان شوبنهور ينفر الناس من الدنيا ويحرص على ماله ولا يفرط فيه، فكيف يكون التوفيق بين مذهب التنفير ودافع الحرص الشديد؟
هما أيضاً شيء واحد في بواطن الأمور
فالحرص على المال علامة بعض حالاته على الحذر الشديد من الناس، وقلة الركون إلى الوفاء والإخلاص والمعونة من الأصدقاء والأقرباء، فإذا افتقر إليهم فهو على يقين أنهم لا يسعفونه ولا يحفلون بما يصيبه، وإذا نظر إلى المستقبل فهو على يقين أنه سيفتقر أو يستهدف للنكبات والمتاعب، لعظيم خوفه من العواقب وإشفاقه من غدرات الحوادث، وعلى قدر هذا الخوف وهذا الإشفاق يكون الحرص على المال الذي ينفعه حين لا ينفعه صاحب ولا قريب
وكان شوبنهور عبوس الرأي مشرق الفكاهة كثير التنكيت والتبكيت، فكيف التوفيق بين الخصلتين؟
لا ضرورة إلى الإِطالة في التماس التوفيق بينهما، فهما متفقتان لا تتعارضان
فالمرهف الإحساس يتألم، والمرهف الإحساس يفطن للفارق الدقيق بين طوايا الناس ودعاواهم، وهذا - أي الفارق الدقيق بين الطوايا والدعاوي - هو ينبوع التهكم الذي لا ينضب ومبعث الفكاهة ومادة (القفش) كما نقول في لغتنا نحن المصريين
والمرهف الإحساس من جهة أخرى يشعر بالألم فيحتاج إلى الضحك والسخرية وعنده المادة موفورة كما أسلفنا، فيتزود منها حيناً بعد حين بما يريحه إذا التمس الراحة، وما يصول به على خصومه إذا تعاوروه بالإساءة والإيذاء، وهو يتهمهم أبداً بأنهم يفعلون ذلك وإن لم يفعلوه
ومن راقب إخوانه وعشراءه عرف بالتجربة والمشاهدة أن النكتة المريرة أنفذ وأمضى وأدعى إلى المفاجأة من نكات المرح والخفة والمجانة، ولا سيما إذا اقترنت بالذكاء الثاقب والخبرة الواسعة والاطلاع الموفور، وكل أولئك كان من خصال شوبنهور ولوازم طبعه، ولو ضعفت مرارته لضعفت فكاهته على خلاف المنظور في ظواهر الصفات
وهكذا يؤدي بنا تطبيق المنطق على الخلائق الإنسانية إلى نقيض المتبادر من قريب، فنستغرب الأمر لأول وهلة ثم نمضي قليلاً إلى ما وراء ذلك فإذا المستغرب هو المألوف، وإذا المألوف فيما زعمنا أولاً هو الغريب البعيد
وخطأ أن يقال إن منطق العواطف غير منطق العقول. . . كلا! بل هما منطق واحد في جميع الحالات، وكل ما هنالك أننا لا نستحضر وجوه المقارنة جميعاً إذا بحثنا في ظواهر العواطف والأخلاق، فإذا استحضرناها وجمعنا أسبابها فالحكم على كل حال لا بد أن يطرد ويستقيم
وهكذا نصنع إذا حكمنا في قضية لها عشرون شاهداً من الجانبين ولم نسمع إلا خمسة شهود من جانب واحد. فهل يجوز لنا إذا اختل حكمنا أن نقول إن منطق القضايا المدنية أو الجنائية غير منطق العقول؟ كلا. بل نقول إن منطق واحد لا تناقض فيه، ولكننا نحن نسينا أسبابه وأغفلنا جوانب الحكم والمقابلة
من هنا يتبين لنا أن (شوبنهور) يعرض لنا صورة منسوقة من سيرته وفلسفته، وأن شذوذه هو اللون الصادق في جلاء تلك الصورة والموافقة بين أنوارها وظلالها، وأنه ابن مزجه وتكوينه في كتبه وفي حياته، كما كان ابن زمانه وأسرته وبلاده وما اختبره واطلع عليه
وما من رأى في كتب الفيلسوف إلا وله مرجعه إلى حالة من حالات زمانه أو دخيلة من دخائل بيته، فقد رأينا كيف علمه سقوط نابليون أن العمل للإرادة وأن الإرادة إلى فشل وحبوط. فهل من علة لتقسيم الإرادة والذكاء بين الرجل والمرأة أو بين الآباء والأمهات؟ أو هل من علة لحقده على جنس النساء وكراهيته للنسل والزواج؟
نعم. علة ذلك أن أباه كان من رجال الأعمال وقد مات مجنوناً وقيل إنه بخع نفسه بيديه، وإن أمه كانت ذكية حصيفة تكتب الروايات وتنافس ابنها في عالم التأليف، وكانت تعيش بعد أبيه عيشة مريبة فاعتزلها ولم يرجع إليها بقية عمرها. فمن ثم كان اعتقاده أن الولد يرث الإرادة من الأب والفكرة من الأم، وأن تمام الفكرة والإرادة في الإنسان إنما يكون على هذا المنوال، فيصبح وهو مثال الدنيا التي تنتهي من الإرادة إلى الفكرة إلى (النرفانا) وما يشبه الفناء
شوبنهور عجيب، وأعجب ما فيه أن شذوذه كله يستقيم مع التعليل وتتفق فيه الظواهر والأسباب، ويعرض لنا نموذجاً صادقاً لنقائض الأخلاق، وهي في باطن الأمر أقرب ما تكون إلى المألوف المطرد المنظور
عباس محمود العقاد