مجلة الرسالة/العدد 244/الكُتُب
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 244 الكُتُب [[مؤلف:|]] |
المسرح والسينما ← |
بتاريخ: 07 - 03 - 1938 |
النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة
تأليف الأستاذ محمد عرفة
بقلم الأديب محمد فهمي عبد اللطيف
منذ أعوام نشبت معركة أدبية بين الجامعة والأزهر حول نسبة الشعر الجاهلي، وكانت شعواء صاخبة جرفت إلى ميدانها كثيراً من رجال الفكر وأعلام الأدب، واتخذت من صفحات الصحف وردهات الأندية ميداناً واسعاً شاملاً، وعج عجيجها فاتصلت بالسياسة وكان لها حديث تحت قبة البرلمان كاد أن يطيح بوزارة، واتصلت بالدين فكان اتهام أمام النيابة واحتكام إلى القضاء؛ ومع هذا كله فقد انتهت تلك المعركة وما تركت إلا النقع يخنق النفوس، والغبار يقذى العيون، وبقيت نسبة الشعر الجاهلي كما هي خاوية لا تقوم على تحقيق ثابت، واهية لا ترتكز على بحث علمي صحيح، معقدة لا يجليها رأي مبتدع، مظلمة لا ينيرها فكر ثاقب
واليوم تنشب المعركة ثانية بين الأزهر والجامعة حول النحو وقواعده والنحاة وجهودهم. فالأستاذ إبراهيم مصطفى الأستاذ بكلية الآداب في كتابه (إحياء النحو) ينتقد النحويين في قصرهم مباحث النحو على الإعراب والبناء، دون أن يبحثوا خصائص الكلام من التقديم والتأخير، والنفي والاستفهام، والإثبات والتأكيد، ثم يرد على النحاة في زعمهم إن الإعراب أثر لفظي لا يؤدي معنى، ولا صلة له بتصوير المفهوم، وإثبات أن حركات الإعراب دوال على معان قصدت من الكلام، فالضمة علم الإسناد، والكسرة علم الإضافة، والفتحة علم الخفة، ثم هو ينتقد النحاة في زعمهم أن هذه الحركات اجتلبها العامل، وراح يثبت أن المتكلم هو الذي أحدثها، وخالفهم فذهب إلى أن التنوين علم التنكير، فلك في كل علم ألا تنونه
والأستاذ محمد عرفة الأستاذ بكلية اللغة العربية يرى في ذلك منكباً للقصد، وحيفاً على الحق، فوضع للرد عليه كتابه النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة) وهو يعتقد أن الأستاذ مصطفى قد نحل النحاة مذاهب لم يقولوها ونقدها وأبان خطلها، كما أنه قعَّد القواعد في العربية لو أخذ الناس بها لغيرت من روح العربية ولأفضى ذلك إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله على غير وجههما، حتى لقد عمم في الطعن ولم يخصص، فأدخل سيبويه وكتابه! يقول الأستاذ عرفة: (ولقد تمثلت هؤلاء النحاة وهم في أجداثهم يهضمون هذا الهضم بعد أن ملئوا الدنيا علما، ويحاف عليهم هذا الحيف وقد خرست ألسنتهم الناطقة، وإذ قد آلو إلى ما آلو إليه، فقد صار حتما على أبنائهم أن يردوا عنهم هذه التهم كما هو الواجب الإنساني، وواجب الأساتذة على أبنائهم الذين هذبوا عقولهم، ثم واجب اللغة العربية وواجب العلم في نفسه، وأخيراً واجب التلاميذ على أساتذتهم)
و (الفكرة) في كتاب الأستاذ عرفة هي مجاوبة للفكرة في كتاب (إحياء النحو)، فهو يرى أن النحو العربي في حاجة إلى تبسيط قواعده وعرضه بطريقة تقربه من طبيعة المتكلمين وتكشف عن سر العربية، ولكن على نمط قويم لا على ذلك النمط الذي انتهجه صاحب (إحياء النحو) فحاد به عن السداد، ولو ثبت لكان خطراً على اللغة العربية، وعلى فهم كتاب الله وسنة رسوله
ولقد أعجبني الأستاذ عرفة في ثبات جنانه فما اشتط في الخصومة، ولا جمح به القلم، فإذا هو مع خصمه من أول الكتاب إلى آخره على ما تقضى به كرامة العلم والخلق الحميد، عف الأسلوب، مهذب العبارة، نزيه الغرض، صريح في الحق، لا يختال صاحبه ولا يموه على قارئه؛ إن قسا فبالحجة، وإن احتكم فإلى النصوص المدونة والنقول الثابتة، وإلى العلم والمنطق
تلك هي معركة اليوم بين الجامعتين، وذلك هو مداها: أستاذ يهاجم وأستاذ يدافع الرأي، والحجة بالحجة، و (الكتاب) (بالكتاب)، وما نريد أن يزيد مدى المعركة على هذا الحد، ولا أن يخرج عن هذا الاعتبار، ولا نحب أن تتجاوز الأستاذين إلى غيرهما حتى ينتهيا إلى آخر الشوط، ويصلا إلى نتيجة ترضى الحق والعلم
أما الآن فالكلمة نحب أن نسمعها من صاحب (إحياء النحو) فهو أولى الناس بالذود عن حوضه، وخير من ينافح عن فكرته، خصوصاً وأنه يريد أن يعمم هذه الفكرة في وزارة المعارف وأن يقحمها في مناهج التعليم؛ وقيل إنه قابل الوزير لذلك الغرض فشجعه الوزير ووعده الخير. فليتقدم الأستاذ مدافعاً عن نفسه أو مسلماً لخصمه؛ وعلى أي حال سواء أمكنه أن ينهض بفكرته وأن يرفع لواءها سليماً من الطعن، أو نكص بها مردوداً من قريعه ومنازله، فإنه مشكور له أجر المجتهد أخطأ أم أصاب، وحبذا الناضل والمنضول في سبيل الحقيقة العلمية خالصة لله منزهة عن الأغراض
محمد فهمي عبد اللطيف
رئيس التحرير وقصص أخرى
(مجموعة أقاصيص أصدرها الأديب صلاح الدين ذهني)
للأستاذ زكي طليمات
القصة المصرية تسير بل تركض. . .
فمذ أطلت برأسها علينا في (حديث عيسى بن هشام) للمويلحي تخفي وجهها بخمار عربي من وشى أنامل تذكرنا بنسيجها الأول في (مقامات الحريري) و (بديع الزمان)، إلى أن أسفرت عن وجهها مصرية من غير نقاب في (زينب) لهيكل، إلى أن صلب عودها واستفاضت بشرتها بحمرة مياه النيل في قصص محمود تيمور، وقبل ذلك في أقاصيص شقيقه محمد، إلى ما لم تدخره حافظتي من أسماء قصاصين من أدباء مصر والشرق العربي أبوا إلا أن يغامروا بأقلامهم في معالجة هذا اللون الجديد من الأدب العربي. منذ ذلك الحين والقصة المصرية توالينا بنتاج لا ينقطع، وكأنها تأبى إلا أن تكون شغل الأدب والنقد في هذه الأيام
القصة المصرية صبية جامحة تياهة مزهوة فهي لا تعرف فضيلة التواضع، تتحدث بصوت جهير كلما ملكتها شهوة الكلام، ولا ندري فعل التفكير والمراجعة وأثر التحري والاستجمام في إتيان الوثبة الواسعة؛ وما هذا بالأمر المستغرب لأنه يرجع إلى طبيعة الشيء. وكأني بالأديب المصري اليوم، وقد استشعر ماهية شخصيته بتأثير النضال الاستقلالي وبعوامل النزاع القومي وبما يعمر رأسه من أصداء الأدب الغربي وفي مقدمتها القصة. كأني به أصبح لا يرتاح إلىالإفصاح عن خلجات نفسه والشكاية من هصره إلا عن طريق التدخل في أديم شخصيات يبتدعها خياله بعد أن ينتزع معينها من البيئة التي يعيش فيها، فيسجل ببراعة دقائق هذه الشخصيات في سرد قصصي يطريه الحوار وتغلفه أجواء تفيض بالصبغة المصرية المحلية، وتتمشى فيها أعراق من الإنسانية العامة. وأغلب الظن أن القصة المصرية أصبحت المجال الذي يعمل فيه الأديب المصري اليوم لاستخلاص (المصرية) ولاستكمال مقومات أدب حديث؛ وهي مظهر من مظاهر تحررنا من أساليب الأدب العربي القديم بعد أن غمرتنا أمواج ثقافة غربية جديدة، وطالعتنا أحداث الزمن بما جعلنا ننفر إلى الجهاد في سبيل حياة مستقلة
ومهما حاول النقد مخلصاً أن ينال من القصة المصرية بإخراج أكثر نتاجها من دائرة الفن الرفيع فلن يستلبها بهاء الشباب وروعة الفتوة. وإذا لم نجد فيها - وأعني أكثريتها - عمق التفكير وجزالة الطبع القوي وصدق التحليل النفسي الذي يحس به ولا يلمس، وطرافة المعالجة، فحسبنا أنفاس عطرة دافئة تهب علينا من بين سطورها، هي أنفاس مؤلفيها، وهو أدباء يحاولون أن يدخلوا لوناً جديداً على الأدب العربي وأن ينشئوا أدباً قوياً
أكتب هذا وأمامي مجموعة أصدرها الأديب الشاب (صلاح الدين ذهني) باسم (رئيس التحرير وقصص أخرى)، وهي مجموعة تقف بجدارة إلى جانب أحسن ما أخرجته أقلام القصاصين الحديثين من المصريين. ولعل أبين ما تمتاز به أنها جاءت في أسلوب يتسامى بجزالته عن مثيله فيما قرأت من قصص الناشئين من القصاصين
إلا أن الجزالة في اللفظ والفصاحة ليست كل شيء في الأسلوب، وهو من معاني القصة قوالبها وأداة معالجتها. والحكم على طرافة القصة ومنزلتها من الأدب الرفيع لا يكون العمدة فيه موضوعها، بل أسلوب معالجة هذا الموضوع. وما ترك الأول للآخر فكرة أو موضوعاً لم يعالجه أو يشر إليه؛ فقد يحدث أن يعالج الموضوع الواحد عدد كبير من الكتاب، ولكن التفوق والخلود لا يكتبان إلا لواحد منهم، وهو من يكون قد حذق معالجة هذا الموضوع وبرع فيه
والمعالجة الطريفة لموضوع القصة تكون في حبكتها الشيقة وإنزالها في القالب الذي تخرج منه منسقة الحوادث من غير عنت، متينة البناء في غير افتعال، متزنة محكمة الأسلوب، تومئ وتفصح، وتقطر وتفيض. وحظ القصص التي بين يدي مما ذكرت غير متجانس، فبعضها يأخذ سمت المعالجة الطريفة في خطو وئيد، والبعض الآخر يتعثر في نواحي من نواحيه، إلا أنها عثرات سرعان ما تقال. ويبدو هذا في القصة الأولى من المجموعة وعنوانها (حسنة)، في حين أن قصة (رئيس التحرير) تعد أنموذجاً لحذق كاتبها من حيث معالجة الموضوع وخصب البيان. وحسبنا من المؤلف أن يصيب مرة ويخطئ مرات، وهو في الحالتين لا يألو جهداً في أن ينزع نحو الكمال الفني المنشود
و (رئيس التحرير) قصة فكهة (كاريكاتورية) الأشخاص والأسلوب. وأبين ما تبين عنه هذه القصة نزعة ساخرة يفيض بها قلم كاتبها، وهي نزعة يخالطها الأسى وتمازجها الشكاية في قصة (مذكرات فنان) حيث نرى المؤلف متبرماً بمجتمعه متململاً بما شاع فيه من التطاول والإدعاء؛ ينقد عن ملاحظة دقيقة أوضاعه المقلوبة، مما يدل على أن (صلاح الدين) على حس مرهف وعين بصيرة بحقائق الأشياء وتفاريق الألوان في مجتمعه، فهو يرى ويشعر ويحيا ويتألم ويسخر ويصخب، وشأنه في هذا شأن صفوة الشباب المعذب في هذا الجيل، ولعل هذه القصة أحسن ما تكشف عن نفسية المؤلف
وللريف في هذه المجموعة من القصص شأن يذكر، وأحسن ما جاء في قصصه تلك الصبغة الريفية التي تطالع القارئ فيحس بريح القرية ملء أنفه وبهدوئها يشمل أعصابه
وللمؤلف جولات أخرى في موضوعات الحياة التي تتصل ببيئته، فهو تارة تراه متدخلاً في زوايا البيوت، وأخرى متغلغلاً في طوايا السرائر؛ وهو في معالجة هذه الموضوعات يركض ويتباطأ، ويهبط ويصعد، ويستقيم ويلتوي؛ ولكنه يريد دائماً أن يذهب بعيداً ليستقر في آفاق طريفة من التأمل والتفكير، وهو فيما يريد أن يذهب إليه يصيب مرة ويخيب أخرى، وهو في خيبته غير مهزوم
زكي طليمات