مجلة الرسالة/العدد 242/الترجمة
→ موت سقراط | مجلة الرسالة - العدد 242 الترجمة [[مؤلف:|]] |
في المؤتمر الطبي ببغداد ← |
بتاريخ: 21 - 02 - 1938 |
خطرها وأثرها في الأمم المختلفة
للدكتور عبد العزيز عزت
2 - عند الرومان
ونجد أثر الرواقيين والأكاديمية الجديدة في كل كتبه الأخرى وعلى الخصوص في (غايات الخير والشر) وهو أهم كتاب لشيشرون بإجماع مؤرخي الفلسفة، ويشرح فيه الأخلاق النظرية، وهي ترتكز على حرية الإرادة التي تتضمن سياسة النفس الفردية وانسجامها مع منطق المجتمع البشري، وتفهم إرادة الوجود العالمي الذي فيه الإنسان جزء بسيط في مرتبة الكائنات المختلفة التي تتسلسل في درجات متصاعدة حتى تبلغ القداسة السماوية. كذلك في كتابه الواجبات ويشرح فيه الأخلاق العملية معلناً أن مغريات الحياة الخارجية أعراض زائلة يجب الزهد فيها، ويجب التماس النافع منها لتقوية روح الإنسان لفعل الخير ومقاومة الشهوات الجامحة والانفعالات الثائرة، كي يصل الإنسان إلى تلك الجنة النفسية الداخلية التي يصورها الرواقيون في تفكر الفلاسفة والحكماء، وكذلك في (طبيعة الآلهة) حيث يعرض للإِلهيات والطبيعة. وبينما يتأثر في الجزء الأول منها بأبيقور ومذهبه في اللذة في مجال الأخلاق وفلسفة الطبيعة عامة، يتأثر في الجزء الثاني بفلسفة الرواقيين من حيث خلق العالم وترتيب نظامه وعناصره ومخلوقاته، ثم هرمه وتناقصه حتى المبدأ الفطري الأول حيث تحصل الطهارة ويخلق العالم من جديد وتتم دورة نظامه. وهو أهم هذه الأجزاء لأنه يبسط آراء كريزيب وكلبانت، وفي الجزء الثالث يحدثنا كوتا عن آراء أرسطو
وبجوار ذلك ترجم شيشرون الكتب الآتية من أولها لآخرها وهي كتاب لزينوفون، (ولقد ضاعت هذه الترجمة) وكتاب البروثا جوراس لأفلاطون وهي من كتب عهد الصبا حيث يتأثر أفلاطون بتعاليم سقراط الأخلاقية إذ يتساءل فيها عن صفات الفضيلة: أهي طبيعية فينا أم هي مكتسبة بالتعلم والتمرين والعادة؟ (ولقد ضاعت هذه الترجمة)، وترجم لأفلاطون كذلك كتابه العظيم الخالد، الذي يلخص كل فلسفته وكل العلم اليوناني حتى زمان أفلاطون وهو كتاب (طيماؤوس) وفيه يتكلم أفلاطون عن رحلاته وعن روح العالم، وكيف تتوسط بين الخالق الفنان وبين سائر المخلوقات التي تنتظم في ترتيب يحقق جمال عالم المثل. وبعد أن يعرض لطباع المخلوقات بالتفصيل مبتدئاً من الله ومعقباً بالعالم السماوي ثم بالإنسان والحيوانات والنباتات والجمادات، يمهد لرأيه في السياسة الذي يبسطه بعد ذلك في (جمهوريته) وفي نواميسه. (فطيماؤس) هذا هو أهم كتاب في نظري تركه العالم اليوناني وسار سواء في العالم الروماني عن طريق شيشرون أم في العالم العربي بعد ذلك حيث ترجمه حنين بن إسحاق وأصلحه يحيي بن عدي كما يؤكد ذلك العلامة لكليرك في كتابه (تاريخ الطب عند العرب) الجزء الأول، وكما يؤكد القفطي في مقالته عن أفلاطون في أخبار الحكماء. ولقد شرحه أخيراً بالفرنسية أستاذنا العلامة ألبير ريفو في مجموعة بيدي
فمؤلفات شيشرون بنوعيها سواء المترجم منها أم التي يسودها الترجمة في أغلب أجزائها تدل دلالة واضحة على أنه لا أهمية لشيشرون كمؤلف، لأنه لم يضف شيئاً جديداً إلى ما قاله اليونان القدماء. وهذا راجع إلى أن عقلية الرومان عقلية عملية تهتم بالحياة الجارية أكثر من الحياة الفكرية، وبحياة الفتح والغزو أكثر من حياة الاستقرار والإنتاج، وبحياة القهر والاستعباد والقانون والعقاب أكثر من حياة الحقيقة المجردة والخطأ الفكري وإصلاحه وواجب الفضيلة وتأنيب الضمير. عقلية تمتزج بعوارض الدنيا، وإذا أرادت أن تتحرر من قيود المادة هامت على وجهها في ميدان العقل. فنجد مثلا شيشرون يخطئ في التعليق على آراء الفلاسفة كما يفعل عندما يتكلم عن عناصر المادة في الكاديميك مما دعا العلامة تيوكور في رسالته لدكتوراه الدولة أن يصفه بأنه فيلسوف بالواسطة لا بالذات. وأهمية شيشرون في نظر هذا العلامة تنحصر في أن مؤلفات شيشرون تكوّن موسوعة لا يسبر غورها لفلسفة اليونان وخصوصاً للفلاسفة الذين جاءوا بعد أفلاطون وأرسطو مباشرة وضاعت كتبهم أي الفلاسفة الرواقيون، لأن العلامة لوسيان ليفي في شرحه (لنواميس) شيشرون يذكر أن لكريزيب نحو ستمائة كتاب أغلبها إن لم يكن كلها قد فقد. ولخلق مثل هذه الشخصية العظيمة يرجع أستاذنا إميل برهبيه , في كتابه عنه إلى شيشرون في كل صفحة من صفحاته. ولزيادة الدقة في البحث نذكر أن الكتب الرواقية المفقودة والتي نستعيض عنها بمؤلفات شيشرون هي كتب الرواقيين القدماء أي زينون وكلبانت وكريزيب، وليست كتب الحديثين منهم أي بنيتيوس وبسدونيس الذين كادوا يعاصرون شيشرون في زمانه، ونحن في هذا نعتمد على رأي العلامة جورنز
ويجب ألا يتطرق إلى ذهن القارئ أن ضعف شيشرون في هضم الفلسفة يرجع إلى عيب في مداركه، فللحكم عليه يجب ألا نتأثر بحالتنا الراهنة للفلسفة في أوروبا، وإنما يجب أن نرجع إلى حالة الفلسفة في عهده. فسنجد أن ما نسميه الآن ضعفاً كان قوة، وكان هو سيد العبقريين في زمانه بين أهله وعشيرته، بل إن ما نسميه الآن ضعفاً كان فضيلة لها ميزتان: الأولى أنه أخلص لعبقرية جنسه فأثبت أنه عريق في الرومانية يمت إلى أهله بأصل ثابت، فلم ينفرد عنهم بقوة التجريد. الثانية أنه لم يتصرف فيما نقله عن فلاسفة اليونان فكانت مؤلفاته أو بالأحرى (ترجماته) خير معبر صادق عما ضاع من نصوص، وخير معين على تتبع حركة الفكر عند اليونان دون ضياع حركة ما
ويجب أن يعلم القارئ مع ذلك أن شيشرون لم يكن فيلسوفاً (محترفاً) وإنما كان على وجه الخصوص سياسياً ماهراً وخطيباً مصقعاً لم يعرف التاريخ له مثيلا، وأنه اتخذ من الفلسفة وسيلة لتدعيم مركزه في الأوساط الرومانية وبين أعضاء مجلس الشيوخ برومة، فكلما حيل بينه وبين منبر الخطابة ذهب إلى الفلسفة ليشرح إلى بني وطنه أصول المعرفة فيتصل بهم عن طريق العقل والآراء فلا ينسونه وهو بعيد عن حظيرة السياسة، كذلك وجد في الفلسفة وسيلة لتربية ابنه، وسائر أبناء وطنه فهو يقول: (إذا كان الخطيب المصقع له الحق أن يعلم ذلك الفن الذي أثبت قدرته فيه، مرات، فللسياسي الحق أن يلقن شباب المستقبل بعضاً من المبادئ والدروس البالغة) (إقراء لكليرك (مؤلفات شيشرون الجزء الثاني عشر صفحة 3)). ويذكر العلامة بيشون في كتابه (تاريخ الأدب اللاتيني) أن شيشرون اتخذ من الفلسفة وسيلة لتفهم القانون الروماني الذي ساد في زمانه واستيحاء هذا القانون خلال تلك المبادئ العقلية في خلق فلسفة سياسية نجدها في جمهوريته ونواميسه. والفلسفة بعد ذلك كانت وسيلة للعزاء في آخر حياة شيشرون لأنه فقد زوجته بعد حياة ثلاث وثلاثين سنة واضطر إلى الزواج من أخرى صغيرة السن لم تستقم سيرتها مع ابنته التي ماتت بعد ذلك في شبابها المبكر؛ فلزم الحزن وسطر كتابه (التأسي) (اقرأ القسيس العلامة برتران في كتابه (منتخبات من مؤلفات شيشيرون في الفلسفة)) وعليه فالفلسفة عند شيشرون لاحقة بالسياسة وتابعة لها وهي وسيلة عنده لا غاية، وإن كان هذا يقلل من قيمته كمؤلف إلا أن مؤلفاته لنفس هذا السبب ذات قيمة تاريخية عظيمة جداً.
ومهما يكن من شيء فشيشرون في جملة القول يتأثر فيما يبسطه في كتبه بمذهب الرواقيين ومذهب الأكاديمية الجديدة؛ وإن مؤلفاته تحل محل المؤلفات اليونانية الضائعة فلا تضيع حركة تاريخ الآراء والمذاهب عندهم. ثم إن لمؤلفاته قيمة أخلاقية إذ شرحت للناس طوال القرون الوسطى في أوروبا أصول الفضائل العملية والنظرية لأن أفلاطون وأرسطو لم يعرفا على حقيقة أمرهما إلا عن ترجمة آباء الكنيسة للتراث الإسلامي، وبمساعدة علماء اليهود في إسبانيا إبان القرن الثالث عشر الميلادي. ولها في النهاية قيمة أدبية لأن أسلوب شيشرون له مميزاته، فهو يبسط الآراء لا في شكل متتابع بل في شكل حوار؛ فهو يقلد أفلاطون في ذلك، ولم يخرج عن هذه القاعدة من مؤلفاته إلا الـ أي الواجبات؛ والـ أي المحيرات
عبد العزيز عزت
عضو بعثة الجامعة المصرية لدكتوراه الدولة