مجلة الرسالة/العدد 241/المثل الأعلى للشاب المسلم
→ فلسفة التربية | مجلة الرسالة - العدد 241 المثل الأعلى للشاب المسلم [[مؤلف:|]] |
من برجنا العاجي ← |
بتاريخ: 14 - 02 - 1938 |
للأستاذ علي الطنطاوي
تتمة ما نشر في العدد الماضي
لقد انتهينا من تعريف المثل الأعلى والشباب والإسلام، فلنشرع في الموضوع:
قلت إن أندريه موروا وصف الشباب بصفتين أساسيتين: هما الحب والبطولة. أما الحب فهو عماد الحياة وركنها وأساسها، لا معدي عنه، ولا منجى منه. وأحسب أن الشباب الحاضرين، بل وكثراً من الشيوخ يصفرون لي وينزلونني عن المنبر، إذا أنا قلت لهم: (لا تحبوا)، وكيف أقولها؟ أجننت حتى أقول: (حطموا القلوب)، ودوسوا العاطفة. وماذا يبقى لنا إذا خسرنا العاطفة؟ لقد خسر أدوار عرش بريطانيا العظمى، ولكنه ربح العاطفة فلم يخسر شيئاً. لقد أنسته عينا مدام سمبسون ملك إنكلترا، فهل كان ينسيه هذا الملك الضخم، وهذا التاج المرصع، عيني سمبسون لو أنه هجرها. . .؟
العاطفة هي التي تدير دولاب حياتنا، وتسّير أمورنا كلها، أما العقل فلا يصنع وحده شيئاُ. من يذكر منكم أنه مشى خطوة واحدة برأي العقل وحده؟ العقل يا سادتي فيلسوف أعمى، حكيم مقعد، ينادي بصوت خافت ضعيف. . . أما العاطفة فهي القوة، هي النشاط، هي الحياة. . .
أنا لا أقول اقتلوا العاطفة، لأن في موتها موتنا، ولكن أقول إن العاطفة تضيق حتى لا تشمل إلا شخصاً واحداً، وتنحط حتى تنزل من قلب هذا الشخص إلى ما تحت القلب، إلى ما تحت. . . السرّة! وتسمو حتى تحيط بالمثل الإنسانية العالية، وتعمّ حتى تشمل الأمة كلها، بل الإنسانية جمعاء. فاسموا بعواطفكم عن مواطن شهواتكم، واخرجوا بها من ذواتكم، وقفوها على أمتكم وبلادكم
أحبوا، فإن الذي لا يجب لا يكون إنساناً، واذكروا واحلموا وتألموا. . . ولكن افهموا الحب بمعناه الواسع الذي يشمل كل ما هو حق وخير وجميل. . . لا المعنى الضيق العقيم، الذي لا يتجاوز حدود جسم امرأة. . . أحبوا، ولكن ابقوا مسلمين. إن للمسلم قلباً، قال الله عز وجل: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)، ولكن المسلمين يغضون عيونهم وقلوبهم وفروجهم (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون). أحبوا ولكن ابقوا رجالاً. إن الرجل إذا احب لم يبكِ ويتذلل ويأرق الليل، ولم يلق شفتيه على قدمي المرأة، كما كان يفعل لامارتين، ولكنه يقوم قائما على مشط رجله، ثم يقول لها، بعينيه النافذتين، وعضلاته الحجرية، وإرادته الماضية، ورجولته البادية: (تعالي!)
أحبوا ولكن ابقوا أفراداً من هذه المجموعة البشرية التي هي الأمة، لا يقطعكم الحب منها، ويُعِدْكم إلى الحياة الفردية الوحشية، فتنكروا كل شيء، وتنسوا الدنيا، وتتجاهلوا الحياة إلا إذا أشرقت عليها نظرة من المرأة وأضاءت في أرجائها كله منها. ولا تقيموا الدنيا وتقعدوها، وتغرقوا الأرض بالدموع لأن الحبيبة المحترمة لم تمنح قبلة وعدت بها، ولم تصل وقد لوحت بالوصل، تنظمون الأشعار في هذه الكارثة، وتنشئون فيها الفصول، تبكون وتستبكون، ثم تنامون آمنين مطمئنين، والنار من حولكم تأكل البلاد والعباد. . .
الشعر شعور، فأي شعور وأي حس فيمن يرى أمة كريمة مجيدة بقضها وقضيضها، ومفاخرها وتاريخها وحياتها وأمجادها تطرد من ديارها، وتخرج من بيتها - وهي أمته، وأفرادها اخوته - لتعطى مساكنها إلى أمة من أسقط الأمم: أمة ضربت عليها الذلة والمسكنة وباءت بغضب من الله، وغضب من الناس والحق والفضيلة والتاريخ، ويرى صدورها مفتحة للرصاص، وشيوخها مسوقين إلى حبال المشانق، وشبابها في شغاف الجبال وبطون الأودية يدفعون الظلم بالدم، وأطفالها ونساءها بين لصين: لص ديار، ولص أعراض، لص يحارب بالذهب، ولص يقاتل بالبارود - ثم لا يحس بهذا كله، ولا يدري به، ولا يفكر فيه، لماذا؟ لأن الشاعر المسكين مصاب متألم. . . ماله؟ ما مصابه؟ إن حبيبته لم تعطه خدها ليقبله. . .
إن العاطفة إذا بلغت هذا المبلغ كانت جريمة.
وما دمنا في حديث الحب فلنوف الحديث حقه. إن لي تعريفاً قديماً للحب، هو أنه المرقد (البنج) الذي وضعه الله لتمام عملية التناسل التي لابد منها لبقاء النوع البشري، والتي لا يصبر الإنسان على احتمال قذارتها وآلامها لولا هذا المخدر، فأول الحب إذن ووسطه وآخره الاجتماع الجنسي والسلام، أما الحب العذري الأفلاطوني العفيف فليس إلا إحدى الأكاذيب الجميلة، التي لا يصدق بها عاقل. من أجل ذلك يشك العقلاء في عفاف المرأة المحبوبة، وينظر المسلمون إلى الحب نظر الريبة. . . إني لألحظ في وجوهكم معنى الاستنكار والاعتراض، وأرى فيها بوادر الثورة. . . لا يا سادتي. . . أنا لا أنتقد الحب، ولا أشك في جماله، ولكن أسألكم وارجوا أن تجيبوني بإنصاف: من هو الذي يسمح لي فيكم أن أحب زوجته أو أخته؟ لا تغضبوا يا سادتي. . . فما أردت إلا التمثيل فجاء المثل غليظاً نابياً، وإني ليسرني أن تستهجنوه، لأن هذا دليل على أنكم للحقيقة أشد استهجاناً. . .
فلنعلن إذن أن هذا الحب المعروف اليوم، ما يأباه الإسلام ويتنافى مع المثل الأعلى للشاب المسلم، ولكن ماذا يصنع الشباب؟
الجواب: يتزوجون. . .
نعم يتزوجون. إن حياة الغرب حياة خطرة على نفسه وعلى المجتمع. إنه صندوق ديناميت يوشك أن ينفجر في كل لحظة فيدمر سعادة أسرة من الأسر، وينقض دعامة من دعائم الوطن. إن حياة العزب حياة فارغة من كل شيء لأنها فارغة من الزوجة ولو امتلأت بكثير من النساء (غير الزوجات). إن أفكار العزب مهما اختلفت مناحيها وتعددت متوجهة إلى وجهة واحدة، تسعى إليها بشدة وعنف كما تسعى السيول من كل جهة إلى قعر الوادي، إنه لا يجتمع عزبان إلا نظما مؤامرة على الأخلاق والعفاف
لست أبالغ. . . أنا أيضاً شاب عزب! ولكني كسائر العزاب لا أحمل ذرة من اللوم، وليس عليّ شيء من الذنب. الذنب عليكم أيها الآباء. إنكم تبيعون بناتكم. إنكم تصاهرون المال والجاه والأرستقراطية الزائفة، إن حفلات العرس وحدها تخرب بيتي العروسين. . . فما قولكم في المهر والأثاث؟ وما قولكم في شاب مثلي في رأسه شيء، وليس في جيبه شيء من مال؟ كيف يتزوج؟
لا أحب يا سادتي أن أكون منحطاً إلى هذه الدركة من الاستئثار و (الأنانية) فأستغل اجتماعكم لسماع محاضرتي لأعلن عن نفسي، وأعرضها خاطباً مستجدياً. . . ولكني أحبّ أن تفكروا في هذا الأمر تفكيراً جدياً. إننا قد شبعنا من الخطب ومللنا من المقالات، فهل فيكم أب مسلم له بنات يكون قدوة طيبة للآباء المسلمين الطيبين، فليفتش عن شاب صالح جاد فيزوجه بما يستطيع من المهر والنفقات: بخمسين ليرة سورية بثلاثين لم لا؟ أهي تجارة؟ أتريد زوجاً لبنتك صالحاً تسعد به ويسعد بها، وينشئان أسرة شريفة مستورة سعيدة أم تريد ذهباً تبيع به ابنتك؟
هذا دواء هذا المرض العضال. هذا حل المشكلة. فإذا لم تحلوها اليوم لا تنحل أبداً، إذا لم تداووا المرض اليوم يموت المريض. . .
فيا وجهاء هذا البلد، الوجاهة بالعمل النافع، وبالتقوى والإصلاح، لا بالمال ولا بالفخفخة الفارغة، ولا بالعظمة الجوفاء ولا بالمراتب العالية، فاعملوا أو فتنحوا عن أماكنكم لمن يعمل!
وإن من الحماقة التي ليس وراءها حماقة أن تبن الأسرة الثابتة على عاطفة متبدلة متحولة. من الحماقة أن يبنى الزواج على الحب. منذَ الذي يبني داره على كِثب من الملح في طريق السيل؟ الحب فراشة حلوة، فيها أجمل الألوان ولكنها لا تعيش إلا يوماً واحداً. الحب زهرة فوّاحة ليس لها في الروض مثيل، ولكنها تذبل عند أول لمسة. من رأيي في الحب أنه لا يكون إلا إذا كان أمل، وكان مع الأمل حرمان، كالكهرباء لا تضيء المصباح إذا التقى فيها القطبان المختلفان. أنت تحب المرأة لأنك لا تقدر عليها، فتسبغ عليها من خيالك ثوباً تراها فيه أجمل الناس، فإذا قدرت عليها، وخلعت هذا الثوب عنها، عادت امرأة كسائر النساء. انظروا إلى الزوجين الحبيبين في شهر العسل، وقد ذهبا يسيحان ينعمان بالخلوة الحلوة، في اجمل البقاع، أو أكبر المدن، تحسبوا أن السعادة قد جمعت لهما من أطرافها، ولكن اقتربوا منهما تروا أنها لا تمر إلا أيام حتى لا يجدا ما يتحدثان به، إلا حديث الأيام الأولى، يوم كان أمل وكان حرمان، ثم تمضي الليالي، وتبلى جدّة هذا الحديث، فلا يبقى بينهما كلام. . .
وماذا في لغة الحب، غير (أحبّكِ) و (أحبّكَ) رددها مائة مرة فإنكم تنامون. . .
فلنعلن إذاً أن بناء الزواج على الحب وحده لا يرضاه الإسلام، لأنه لا يرضاه العقل. . . فهل نعود إذن إلى طريقتنا الأولى: تخطب لي عمتي أو خالتي، وتنتقي لي الزوجة على رأيها، وأنزل أنا على حكمها، وأعلق مستقبلي بها، وأمضي العقد وأمشي إلى حفلة العرس، وأنا لا أعرف ما لون عين العروس وما شكل أنفها؟
هذه طريقة سقيمة عقيمة. . . فماذا نصنع إذن؟ ما هي الطريقة المثلى؟ هي يا سادتي طريقة الإسلام. إن الإسلام منح الخاطب (بعد أن يتم الرضا عنه، ويرجح جانب قبوله صهراً) أن يرى وجه المرأة وكفيها، أن يجلس معها (بحضور وليها). . . هذه هي سنة الدين، ولكن الآباء جاهلون، يأبون أن يرى الخاطب الصالح وجه الفتاة، ثم يخرجونها إلى الأسواق، متبرجة متهتكة، يرى أكثر من وجهها وكفيها الفاسق والخبيث، وكل من كان في الطريق، حتى الحمار!
إننا تركنا قواعد الإسلام، فتركنا الفلاح والنجاح
(البقية في العدد القادم)
علي الطنطاوي
المدرس في كلية بيروت الشرعية