الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 240/من برجنا العاجي

مجلة الرسالة/العدد 240/من برجنا العاجي

بتاريخ: 07 - 02 - 1938


التجارب هي إحدى وسائل (العلم)، لعل ساعة (التجربة) هي أمتع لحظات (العالِم) خطر لي مرة أن أقوم بتجربة غريبة ممتعة: أن أضع امرأة فاتنة بين إخواني الأدباء الأفاضل: العقاد وطه والمازني وأحمد أمين والزيات والبشري؛ ثم أنظر بعد ذلك ما يكون. إني على ثقة أنهم لن يناموا ليلتهم قبل أن يسطر كل منهم على الورق أشياء قد تكون من أجل ما كتبوا. إن المرأة الجميلة في مجلس الأديب لها فعل السحر. تستطيع بغير عصا أن تخرج جواهر البيان من أفواه الأدباء؛ إنا لا نكاد نجد أدباً من الآداب العظيمة لم يرو لنا خبر المرأة في مجلس الأدب؛ فإذا راجعنا الأدب العربي القديم وجدنا ذكر الجواري اللواتي كالشموس، الضاربات بالعود، اللاعبات بالنرد، الراويات للشعر؛ وإذا نظرنا في آداب الغرب في كل عصر وجدنا أخبار (الصالونات) وما فيها من أقمار كلهن ذكاء وثقافة ودلال. نعم؛ وهل يمر يوم على أديب من أدباء الغرب لا يجلس فيه إلى مائدة تزينها باقات النساء الجميلات؟! فيلبث ساعة يتحدث إلى ملكين رقيقين عن يمينه ويساره يقطر الوحي من شفتيهما، ثم يعود إلى عزلته وكتبه وورقه ليمضي في إنتاجه الأدبي، وهذا الإنتاج الذي نراه بعد ذلك آية من آيات الإعجاز! أما نحن فلا عرب بلغنا ولا غرب، ولا شموس حولنا ولا أقمار؛ ولكننا أدباء كالعناكب ننسج في الظلام، ونعيش في الجدب والحرمان؛ ومع ذلك ننتج أحياناً، وهنا حقاً آية الإعجاز! إن أولئك الذين يتهمون أدبنا الحديث بالتقصير هم قوم ظالمون أو أغرار لا يبصرون. إن أدباءنا المعاصرين لجبابرة مستبسلون، ومجاهدون مستشهدون، لم يعرف مثلهم أدب من الآداب. فما من أدب في التاريخ استطاع أن يظهر في ظروف اجتمعت على خنقه كهذه الظروف. اللهم إنَّا شهداء! اللهم إنّا شهداء!

توفيق الحكيم

للأدب والتاريخ

مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد - 23 -

الرافعي والعقاد

لقد مات الرافعي - يرحمه الله - فانقطع بموته ما كان بينه وبين خصومه من عداوات. وما أريد أن أوقظ فتنة نائمة يتناولني لهيبها أولَ ما يتناول، فما لي طاقة على حمل العداوة، ولا اصطبار على عنت الخصومة، ولا احتمال على مشقة الجدال؛ وإنما هو تاريخ إنسان له على العربية حق جحده الجاحدون فنهضت للوفاء به؛ فإن كنت أكتب عن أحد من خصومه أو أصحابه بما يؤلم أو يسئ فما ذلك أردت، ولا إليه قصدت، ولا به رضيت؛ ولكنها أمانة أحملها كارهاً، وأضطلع بعبئها مضطراً، لأؤديها إلى أهلها كما تأدت إليّ. وإني لأعلم أني بم اكتب من هذا التاريخ أضع نفسي بالموضع الذي أكره، وأتعرض بها لما لا أتوقع؛ ولكن حسبي خلوص النية، وبراءة الصدر، وشرف القصد؛ ولا عليّ بعد ذلك مما يكتب فلان، ولا مما يتوعد به فلان؛ فإن كان أحد يريد أن يصل بي ما كان بينه وبين الرافعي من عداوة فانقطعت، أو يربط بي رابطةً كانت بينه وبين فلان فانفصمت، أو يتخذ من الاعتراض عليّ زلفى إلى صديق يلتمس ودَّه، أو يجعل مما يكون بيني وبينه سبيلاً إلى غرض يرجو النفاذ إليه، أو وسيلة إلى هوى يسعى إليه - إن كان أحد يريد ذلك فلْيمضِ على إرادته، وإن لي نهجي الذي رسمْت، فلتفترق بنا الطريق أو تلتق على سواء، فليس هذا أو ذاك بما نعى من المضيَّ في سبيلي. ومن الله التوفيق!

وهذه خصومة أخرى من خصومات الرافعي، ومعركة جديدة من معاركه. وإني لأشعر حين أعرض لنبش الماضي فأذكر ما كان بين الرافعي والعقاد، أني كمن يدخل بين صديقين كان بينهما في سالف العمر شحناءُ ثم مسحت على قلبيهما الأيامُ فتصافيا، فإنه ليُذكِّر بما لا ينبغي أن يُذكر. والموت يحسم أسباب الخلاف بين كرام الناس؛ فإذا كان بين الرافعي والعقاد عداوةٌ في سالف الأيام فقد انقطعت أسبابها ودواعيها، فإن بينهما اليوم لبرزخاً لا تجتازه الأرواح إلى أُخراها إلا بعد أن تترك شهواتها وأحقادها وعواطفها البشرية. فهنا ناموس وهناك ناموس، ولكل عالم قوانينه وشريعته؛ فما تخلص ضوضاءُ الحياة إلى آذان من في القبر، ولا ينتهي إلى الأحياء من عواطف الموتى إلا ما خلفوا من الآثار في دنياهم هنا رجل من الأحياء، وهناك رجل في التاريخ، وشتان بين هنا وهناك؛ فما أتحدث اليوم عن خصومة قائمة، ولكني أتحدث عن ماض بعيد. والرافعي الذي يحيا بذكراه اليوم بيننا غير الرافعي الذي كان، فما ينبغي أن تجدد ذكراه ماضيَ البغضاء، وهذا عذيرى فيما أذكر من الحديث. . .

لم يكن بين الرافعي والعقاد قبل إصدار الطبعة الملكية من إعجاز القرآن غير الصفاء والود؛ فلما صدر هذا الكتاب في طبعته الجديدة أحدث بينهما شيئاً كان هو أول الخصام. . .

حدثني الرافعي قال: (سعيت لدار المقتطف لأمر، فوافقت العقاد هناك، ولكنه لقيني بوجه غير الذي كان يلقاني به، فاعتذرت من ذلك إلى نفسي بما ألهمتني نفسي، وجلسنا نتحدث. وسألته الرأي في إعجاز القرآن، فكأنما ألقيت حجراً في ماء آسن. . . . . . ومضى يتحدث في حماسة وغضب وانفعال، كأن ثأراً بينه وبين إعجاز القرآن. ولو كان طعنه وتجريحه في الكتاب نفسه لهان عليّ، ولكن حديثه عن الكتاب جره إلى حديث آخر عن القرآن نفسه وعن إعجاز وإيمانه بهذا الإعجاز. . . . . . أَصدقك القولَ يا بني: لقد ثارتْ نفسي ساعتئذٍ ثورة عنيفة، فكدت أفعل شيئاً. إن القرآن لأكرم وأعز. . . ولكني آثرت الأناة. . .)

قال الرافعي: (وأخذت أناقشه الرأي وأبادله الحوار في هدوء وإن في صدري لمَرجلاً يتلهب؛ إذ كنت أخادع نفسي فأزعم لها أنه لم يتخذ لنفسه هذا الأسلوب في الهجوم على فكرة إعجاز القرآن إلا لأنه حريص على أن يعرف ما لا يعرف، وعلى أن يقتنع بما لم يكن مقتنعاً به؛ فأخذت معه في الحديث على هدوئي وثورة أعصابه. . . ولم أفهم إلا من بعدُ ما كان يدعوه إلى ما ذهب إليه. . .)

قال: (لقد كان العقاد كاتباً من أكبر كتاب الوفد، ينافح عنه ويدعو إليه بقلمه ولسانه عشر سنين، وإنه ليرى له عند (سعد) منزلة لا يراها لكاتب من الكتاب، أو أديب من الأدباء، وإن له على سعد حقاً؛ ولكن سعداً مع كل ذلك لم يكتب له عن كتاب من كتبه: (كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم) وكتبها للرافعي وليس له عليه حق مما عليه للعقاد. . .) قال الرافعي: (. . . من هنا يا بني كانت ثورته. كانت ثورة الغيرة. . . لا ثورة الأديب الناقد الذي لم يقنع بما كتب الكتاب عن إعجاز القرآن فهو يلتمس المعرفة والاقتناع. وعرْفتُ ذلك من بعدُ، فما بدا عليّ ما في نفسي من الانفعال، ومضيت معه في الحديث في وجه جديد. قلت: أنت تجحد فضل كتابي فهل تراك أحسن رأياً من سعد؟)

قال الرافعي: (وفهم ما أعنيه فقال: وما سعد؟ وما رأي سعد؟)

قال الرافعي: (وطويت الورقة التي كان يكتب فيها حديثه فقبضت عليها يدي ثم قلت: أفتراك تصرح برأيك هذا في سعد لقرائك وإنك لتأكل الخبز في مدح سعد والتعلق بذكراه. . .؟ قال: فاكتب إليّ هذا السؤال في صحيفة من الصحف تقرأ جوابي كما عرفته الآن. . .!)

قال الرافعي: (وابتسمت لقوله ذاك وأجبته: يا سيدي، إن الرافعي ليس من الحماقة بحيث يسألك هذا السؤال في صحيفة من الصحف، فتنشر السؤال ولا ترد عليه، فيكون في سؤالي وفي صمتك تهمة لي، وتظل أنت عند قرائك حازماً أريباً بريئاً من التهمة مخلصاً لذكرى سعد!)

قال الرافعي: (وما قلتُ ذلك - وإن ورقته في يدي أشد عليها بأناملي - حتى تقبض وجهه، وتقلصت عضلاته، ثم قال في غيظ وحنق: ومع ذلك فما لك أنت ولسعد؟ إن سعداً لم يكتب هذا الخطاب، ولكنك أنت كاتبه ومزوره، ثم نحلته إياه لتصدر به كتابك فيروج عند الشعب!)

قال الرافعي: (وما أطقت الصبر بعد هذه التهمة الشنيعة، ولا ملكت سلطاني على نفسي، فهممت به. . فدخل بيننا الأستاذ صروف، فدعا العقاد أن يغادر المكان ليحسم العراك ويفض الثورة!)

هذه رواية الرافعي، حدثني بها غير مرة في غير مجلس، كما تحدث بها إلى غيري من أصدقائه وخاصته؛ فما لي فيها إلا الرواية والتصرف في بعض الكلام تأدباً مع الأستاذ العقاد وكرامة لذكرى الرافعي

على السفود

وفرغ الرافعي من مقالات عبد الله عفيفي التي كان ينشرها بعنوان (على السَّفُّود)؛ ثم ذهب مرة لزيارة صديقه الأستاذ إسماعيل مظهر صاحب العصور، فسأله تتمة هذه السلسة في نقد الأستاذ عفيفي، فاعتذر الرافعي وقال: حسبي ما كتبت عنه وحسْبه. قال الأستاذ مظهر: فاكتب عن غيره من الشعراء. إن في هذه المقالات لمثالا يحتذيه الذين يريدون أن يحرروا بالنقد عقولهم من عبادة الأشخاص ووثنية الصحافة!

فتنبه الرافعي إلى شيء في نفسه، وجلس إلى مكتب في دار العصور فكتب مقاله الأول من كتاب على السفود؛ وتوالت مقالاته من بعد في أعداد المجلة متتابعة في كل شهر. فلما تمت هذه المقالات نشرها الأستاذ إسماعيل مظهر في كتاب قدم له بمقدمة بإمضائه يبين فيها ما دفعه إلى نشر هذا الكتاب الذي لم يكتب على غلافه اسم مؤلفه، ورمز إليه بكلمة (بقلم إمام من أئمة الأدب العربي)

وفي الأسبوع المقبل إن شاء الله حديثنا عن الكتاب ونهجه

(شبرا)

محمد سعيد العريان

مصر وفلسطين

لأستاذ جليل

سمع الناس في الخافقين منذ أشهر كلمة مصر الإسلامية العربية في (دار العصبة) في شأن فلسطين وذلك التقسيم المقطِّع الممزِّق، وتلوا في هذا اليوم كتاب رجال من (دار الندوة) ومجلس الشيوخ فيها إلى سفير الإنكليز، وفي الكتاب ما فيه. وهذه كلمة ذات زئير ونهيم قالتها مصر منذ قرون حين سأل الغرب مثل الذي يبغيه اليوم. وقد رواها (صبح الأعشى) من (التعريف بالمصطلح الشريف)، وإنها لتنادي مفصحة مبينة على أن مصر هي مصر في كل وقت، وأنها لن تنام عن مظاهرة أخ في الدين أو العربية مستطاعة. وفي رواية (التعريف) ألفاظ عامية لا تنحط بها قيمها بل تغليها؛ وإن كثيراً من الباحثين اليوم ليهتمون بالوقوف على مثلها. وهذه هي الطرفة التاريخية:

(قال في (التعريف): أما الرِّيد فَرَنسي فلم يرد له إلا رسول واحد أبرق وأرعد، وجاء يطلب بيت المقدس على أنه يفتح له ساحل قيسارية أو عسقلان، ويكون للإسلام بهما ولاة مع ولاته، والبلاد مناصفة ومساجد المسلمين قائمة، وإدارات قومتها دارّة، على أنه يبذل مائتي ألف دينار تعجل وتحمل في (كل) سنة، نظير دخل (نصف) البلاد التي يتسلمها على معدل ثلاث سنين، ويطرف في كل سنة بغرائب التحف والهدايا. وحسّن هذا كُتّاب. . . . . . كانوا صاروا رءوساً في الدولة بعمائم بيض وسرائر سود، وهم أعداء زرق، يجرعون الموت الأحمر، وعملوا على تمشية هذا القصد وإن سرى في البدن هذا السم وتطلب له الدرياق فعز

وقالوا: هذا مال جليل معجل؛ ثم ماذا عسى أن يكون منهم وهم نقطة في بحر، وحصاة في دهناء؟

قال: وبلغ هذا أبي رحمه الله فآلى أن يجاهر في هذا، ويجاهد بما أمكنه، ويدافع بمهما قدر عليه، ولو لاوئ السلطان على رأيه أن أصغي إلى أولئك الأفكة، وقال لي: تقوم معي وتتكلم، ولو خضبت ثيابنا بالدم، وأرسلنا قاضي القضاة القزويني الخطيب، فأجاب وأجاد الأستعداد، فلما بكرنا إلى الخدمة وحضرنا بين يدي السلطان بدار العدل، حضرت الرسل وكان بعض أولئك الكتبة حاضراً، فاستعد لأن يتكلم، وكذلك استعدينا نحن: فما استتم كلامهم حتى غضب السلطان وحمى غضبه، وكاد يتضرم عليهم حطبه، ويتعجل لهم عطبه، وأسكت ذلك المنافق بخزيته، وسكتنا نحن اكتفاء بما بلغه السلطان مما رده بخيبته، فصد ذلك الشيطان وكفى الله المؤمنين القتال، وردت على راميها النضال؛ وكان الذي قاله السلطان: وَالْكم أنتم عرفتم ما لقيتم نوبة دمياط من عسكر الملك الصالح، وكانوا جماعة أكراد ملفقة مجمعة، وما كان بعد هؤلاء الترك، وما كان يشغلنا عنكم إلا قتال التتر، ونحن اليوم بحمد الله تعالى صلح (نحن وإياهم) من جنس واحد ما يتخلى بعضه عن بعض، وما كنا نريد إلا الابتداء؛ فأما الآن فتحصلوا وتعالوا وإن لم تجوا فنحن نجيكم لو أننا نخوض البحر بالخيل؛ وَالْكم صارت لكم ألسنة تذكرون بها القدس؛ والله ما ينال أحد منكم منه ترابة إلا ما تسفيه الرياح عليه وهو مصلوب! وصرخ فيهم صرخة زعزعت قواهم، وردهم أقبح رد، ولم يقرأ لهم كتاباً ولا رد عليهم سوى هذا جواباً)

(الإسكندرية)

(* * *)