الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 240/فلسفة التربية

مجلة الرسالة/العدد 240/فلسفة التربية

بتاريخ: 07 - 02 - 1938


كما يراها فلاسفة الغرب

للأستاذ محمد حسن ظاظا

(ليست الجماعة مجرد علاقات، ولكنها في كل منا، ثم هي

ترتفع في أعظمنا إلى الدرجة القصوى)

(ماك إيفر)

(لو قد نشأ الفرد على المرونة والتجديد: لما استطاعت يد

الرجعية الآثمة أن تعوق سير الحضارة، وأن تعبث بجلال

الإنسانية)

(* * *)

(أليس في الطبيعة فرد مطلق غير الله تعالى، وما الفرد من

بني الإنسان إلا جزء من والديه ومن خلية الحياة الأولى بل

ومن الإنسانية ماضيها وحاضرها)

(برجسن) (وغيره)

الجماعة والفرد

رأيت فيما سبق بعض تطبيقات الديمقراطية، على الثقافة والمنهج، والمعلم والطالب، والمدرسة وطريقة التدريس، احب اليوم أن أكمل الناقص في ذلك، وأوضح الغامض، ولا سيما من ناحية الجماعة والفرد وما ينبغي أن يكون بينهما من علاقة ديمقراطية صحيحة تغرسها التربية الحديثة وتنميها

ما الجماعة وكيف نشأت؟ اختلف العلماء في ذلك وتباينوا؛ ومن اشهر نظرياتهم في ذلك دعوى (العقد الاجتماعي) التي قال بها (روسو) ومهما يكن من شيء فالجماعة الحق يسود فيها التبادل كما يقول (نوفيكو)، كما أنها ليست مجرد علاقات أفراد بعضهم ببعض، ولكنها روح دافع غلاب في كل فرد كما يقول (ماك إيفر)، وها هو (هوبهوس) يقول إن الجماعة توجد في أفرادها، إن كل فرد فيها مركز اتصال، وإن هذا الاتصال يتوقف قوة وضعفاً على الفرد نفسه ويؤثر فيه، وإن الأفراد إنما يتحسن شأنهم ويرتقى باتصالهم بغيرهم

وقد يبدو للبعض أن الرجعية والبطء في التطور والتجديد طبيعة في الجماعة ثابتة، ولكن الراجح أن التربية العميقة هي المسئولة عن ذلك كله. ولذلك نرى التربية الديمقراطية تدعو إلى سعة الصدر وحرية الفكر ومرونة العادات، وتصرح قائلة على لسان (جون ستيوات مل): (ويل للزمن الذي لا يجرؤ على الشذوذ فيه إلا الأقلون)!

أما الفرد فهو أنت وأنا أيها القارئ العزيز! وكم أحُتقر وازدري في الدهورالغابرة، وحُرم حرية الفكر والحركة والحياة، وكم اعتز بشخصيته، وعلا وتكبر، واعتبر نفسه مقياساً للأشياء جميعاً من حق وباطل، وخير وشر، وجمال وقبح - في عهد السفسطائيين؛ ولو شئت الحقيقة في أمر هذا الفرد لعرفت أنه لا يستطيع أن يكون (مطلقاُ) بحال من الأحوال! وهل من مطلق في الطبيعة غير الله؟ سر إلى الصحراء إذا شئت وعش هناك وحيداً إذا استطعت، فلن تجد (الجماعة) إلا محيطة بك عن يمينك وعن شمالك ومن خلفك ومن قدامك، ألم ترث عنها ما قد ورثت عن آبائك وآجدادك؟ ألا تفكر بمنطقها؟ أو لا تهجس بلهجتها؟ ثم ألا تستفيد من تجاربها العملية في كل ما تتخذ من سلاح وغطاء ودثار؟

نحن إذاً مدينون للجماعة حاضرها وماضيها بكل شيء تقريباً وإذاً فلا أقل من أن نعطيها من أنفسنا بعض هذا الدين الذي لو عشنا دهوراً لما وفيناه؛ ولكن الجماعة مع ذلك مدينة لبعض الأفراد هي أيضاً؛ إلا يقول: (كارليل) ما تاريخ الإنسانية إلا تاريخ عظمائها؟ وإذا فلا أقل أيضاً من أن تحترم الجماعة الفرد وتشجعه على خدمتها، وتسمح له بإصلاح ما فيها من عيوب والسمو بها إلى مثله العليا. وإذ كان الجمال في الفن هو (كثرة) تسيطر عليها (وحدة) كما يرى الأستاذ (كوزن) في كتابه الفريد: (الخير والحق والجمال)، فإن (السير برسي نن) يرى أن تاريخ الإنسانية يتطور ويتقدم نحو (الفردية) المتزنة، وكلما قطع في تطوره شوطا كلما كانت الحياة أسمى وأهنأ وأرفع وأخصب

وإذا كان الأمر كذلك فماذا عسى أن تكون العلاقة الصالحة بين كل من الجماعة والفرد؟ يقول هوبهوس (يجب أن تنمو الجماعة وحدة متناسقة فلا يتضخم فيها (فرد) ويصير مارداً على حساب الجميع)

ويقول الأستاذان (ديوي وتفت) إن مقياس كل نظام اجتماعي هو: (هل يجعل قدرة الفرد حرة في زيادة الخير العام؟ وهل يسمح بمساواة الجميع في فرصة إظهار الكفايات؟) بل إن (ديوي) ليقف عند كل نظام سياسي أو غير سياسي ليرى أي دوافع يثيرها؟ وأي أثر له على من ينفذونه؟ أهو يحرر القوى؟ وإلى أي حد؟ وللجميع أو للأقلية؟ وهل تسير القوى التي يحررها في طريق معقول؟ وإذا كان النظام نظام تعليم نراه يسأل (هل يرهف الحواس ويدرب العقول؟ وهل يثير حب المعرفة في النفوس؟ وما هو نوع (حب المعرفة) هذا؟ أهو عرضي يطفو أم جوهري يغوص؟)، وهكذا دواليك. . .

بقي أن نتساءل وما (المصير)؟ إلى ما هو أحسن كما يقول المتفائلون؟ الواقع أن الجماعة في تطور دائب مستمر وإن كنا لا نستطيع أن نعتبر كل تطور نجاحاً. وبعد الوقوف على آراء - هوبهوس - وديوي - وفاجيه - وشو - ويود - ومل - وبيري - في ذلك الموضوع نستطيع أن نقول: إن (النجاح في الجماعة ليس أتوماتيكياً بل يعتمد على الإرادة والقصد، وإن الهرم في الأمة يمكن أن يجتنب تماماً بمرونة العادات، وإن مذهب (إمكان التحسين) خير من التفاؤل البحت أو التشاؤم البحت، لأنه وحده يبعث على الأمل والرجاء، ويمنع الغرور واليأس، وإن (حرية الفكر) هي أهم عامل في التطور نحو (الأحسن) وخصوصاً إذا اقترنت بنية بريئة فاضلة ونفوس حازمة عاقلة، وإن (انحطاط) العهود التاريخية المظلمة ليس غير حقارات أفراد، وطوائف، وأحزاب، وجماعات، أكثر مما هو حقارات أمم وشعوب. وإذاً فتقدم الإنسان بيده لا بيد الطبيعة الصماء، وذلك طبعاً أفضل له وأشرف. وهاهو ذا تقدم العلم يقول لنا أن ليست هناك غاية موضوعة، ولكن هناك ما يمكن أو ما يجب أن يكون

ولكن تُرى من يدفع الجماعة إلى هذا (المصير)؟ وكيف السبيل إلى ذلك الدفع؟ يرى (أرسطو) أن ذلك هو واجب الحكومة وسبيله التربية، ولكن (ديوي) يخشى إشراف الحكومة لأنه يعتبرها أكثر جموداً وتلكؤاً من المجتمع، ولذلك نراه يعتمد على (الهيئات الحرة) أكثر مما يعتمد عليها؛ وهاهي ذي الحكومات كثيراً ما تخطئ في الخطط وتجني على الديموقراطية جناية نكراء، ألم تحول إيطاليا المدارس إلى ثكنات عسكرية يحرم فيها النشء من أشياء في الحياة كثيرة، ويساق سوقاً إلى نظام تعسفي مرذول فرضته سياسة خاصة قوامها الوطنية المتعصبة التي لا يضيرها احتراق بعض العالم ما دام في ذلك خير لها؟

وبعد فتلك هي الجماعة، وهذا هو الفرد كما تتصورهما الديمقراطية الحديثة، جماعة مرنة متجددة، وفرد حر خادم مطيع ثم تقدم يدفع بهما معاً نحو (الأحسن) قوامه الحرية والنية الفاضلة. . . ولما كانت التربية هي الوسيلة الوحيدة الفعالة الجديرة (بخلق) هذه الجماعة وذاك الفرد، فإنها يجب أن تكون بحيث تستطيع خلقهما خلقاً صحيحاً يقي الإنسانية آفات الرجعية والجمود، ويوفر عليها حقارات أولئك الذين يسودون صفحات التاريخ!. ومعنى هذا أن تكون المدرسة مجتمعاً صغيراً تتوافر فيه جميع الأسباب التي تحرر العقول، وتطهر النفوس، وتغرس التعاون والإيثار، وتمهد للمجتمع الفاضل المنشود. . . ويتطلب ذلك بالطبع اتباع طريقة في التدريس خاصة، والعناية بدراسة معينة، أو معاملة الطلبة على أساس ديموقراطي مرسوم؛ ولست تطمع من غير شك في أن أمر معك بكل التفاصيل. حسبك أن تعلم أن رياضة الغلبة والتعصب والأنانية والتنافس، لا تؤدي بنا إلى شيء من هذا كله، وأن حشو العقول لا يحررها ولكنه يشلها ويبلدها، وأن الاهتمام بالحروب والاطناب في سير أبطالها يبرر ما فيها من نهب وسفك وهدم وتدمير لدى الناشئ الساذج البريء، وأن الدروس الإلقائية التي لا تطبيق فيها ولا تعاون لا تعمل أكثر من تكوين أفراد (لأنفسهم) قبل أن يكونوا لغيرهم، وان إعطاء كل شيء للطالب وتوفير مجهود البحث والاطلاع عليه يجعله اتكاليّاً عديم الثقة بنفسه والاعتماد عليها.

وأن. . . وأن. . . وأن. . . مما قلت وما سأقول، وما تستطيع أن تدركه أنت دون ذكره أو الإشارة إليه! كل ذلك لا يخلق الجماعة الديموقراطية المرنة المتجددة، ولا يتمخض إلا عن عقول العصافير، وإلا عن نفوس يملكها الركرد والخمول، وعن طوائف العصبية والانخذال، ونزعات الرجعية والأنانية والشهوة والجمود. . . وها أنت ذا ترى العالم يمجد سياسة الحروب ويدعو إليها ويجد وا أسفاه من الشعوب جنوداً مثلهم الأعلى الإسكندر وهانيبال وقيصر ونابليون. . أفكان ذلك يتأتى لو درس الطفل تاريخ الإنسانية لا تاريخ الوحوش؟

وحسبي اليوم ذلك وإلى اللقاء حيث نرى لوناً آخر من الكلام

(يتبع)

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بمدرسة شبرا الثانوية الأميرية