مجلة الرسالة/العدد 239/الكتب
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 239 الكتب [[مؤلف:|]] |
المسرح والسينما ← |
بتاريخ: 31 - 01 - 1938 |
في منزل الوحي
بقلم الدكتور محمد حسين هيكل بك
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
لعل فريضة من فرائض الإسلام وشعائره لم تخدم الثقافة الإسلامية، وتنفع الأدب العربي كما خدمت في ذلك فريضة الحج وأفادت، فإن جل الذين كتبوا الرحلات، وألفوا في التاريخ الإسلامي خصوصاً تاريخ بلاد العرب، ووصف طبيعتها وجغرافيتها وتقويمها، هم من الذين كانوا يقصدون إلى أداء الفريضة المقدسة، وزيارة الروضة المطهرة. وكتاب (في منزل الوحي) إنما هو أثر من تلك الآثار التي فاض بها الشعور الإسلامي، والاتجاه الوحي نحو تلك البلاد الطيبة التي تنزع إليها النفوس، وتهفو نحوها الأرواح، وتطمئن بذكرها القلوب. وقد وصف المؤلف الفاضل كتابه وتحدث عن القصد الذي قصده من تأليفه فقال: (وليس هذا الكتاب مرجعاً من مراجع التاريخ الإسلامي، ولا شيء فيه من تقويم بلاد العرب، إنما هي وقفات وقفتها في بلاد الوحي ومنزله، أستوحي فيها مواقف محمد عبد الله ونبيه ورسوله، وهناك في هذه المواقف تجردت نفسي وسمت روحي وكررت بالعصور والقرون أطويها، ورحت أتمثل هذا الهادي الكريم، وأتمثل المسلمين من حوله، ألتمس في ذلك الأسوة والعبرة، آملاً أن أشرك فيهما إخواني المؤمنين بالله، وبما جاء من عند الله. لم أتقيد في هذه المواقف بما جاء في كتاب غير كتاب الله الكريم، ولم أخضع تفكيري لحكم غيري، وما كان لي أن أخضعه، فقد كنت أحس في كثير من هذه المواقف أنني بين القوم أسمع وأرى، وأتمنى لو كنت أجاهد معهم، فأفوز فوزاً عظيماً، وما كان لي أن أفعل ثم أخدع نفسي فأزعم أنني إذ أحدث الناس إنما أقص عليهم ما رأيته وما أحسست به في حين لا أقص إلا ما رآه غيري، وما سبقني إلى تسطيره. لقد تركت نفسي على سجيتها تتوجه بوحي روحي، وتستلهم الحق مما حولي، وتستعرض ما تستلهمه على حكم عقلي وتقدير ضميري، ثم سطرت ما اجتمع من ذلك لا أبغي به إلا رضا الله)
هذا كلام المؤلف الفاضل في وصف كتابه، وهو كلام، على ما أرى، فيه شيء من التواضع يغطي جانباً من الحق؛ وقد تكون هذه نية الدكتور هيكل في تأليف كتابه، أراده على أنه (ليس مرجعاً من مراجع التاريخ الإسلامي ولا شيء فيه من تقويم بلاد العرب وإنما هي وقفات في بلاد الوحي ومنزله) ولكنه على ما يظهر غلب على أمره فجاء كتابه مرجعاً من مراجع التاريخ الإسلامي، وجاء خير دليل يجب أن يصحبه كل راحل إلى تلك البلاد، وجاء أيضاً من أهم التقاويم لكثير من الأماكن في بلاد العرب، ثم جاء مشروع إصلاح قويم يهم من يهمهم (العناية بهذه البلاد المقدسة ودراسة حاضرها وماضيها دراسة علمية دقيقة، وما يدعو المفكرين والساسة أولي العزم ليعملوا على إصلاح هذه البلاد)، ثم هو نفحة روحية من أثر الرسول الكريم فاض بها قلب خافق وشعور دافق. فإذا كانت نية الدكتور هيكل على ما ذكرنا من قبل، فلا شك أنه قد غلب على أمره، وتجاوز رغبته في إخراج كتابه، وتحديد الموضوع الذي أراد أن يجري في حلبته؛ وهو تجاوز قد اقتضته طبيعته، ودفعته إليه صناعته، فكان ذلك في حظ العربية وحظ قرائها وحظ رواد تلك البلاد المقدسة
نعم! هو تجاوز اقتضته طبيعة هيكل، لأن هيكلاً كما نعرف صحافي، والصحافي من طبيعته لا يقف عند شيء ولكنه يحب أن يقف على كل شيء؛ ثم هو أديب دقيق الشعور وافر الإحساس يتأثر ويهتاج لكل ما يراه ويقع عليه حسه، فإذا وصف أضفى على وصفه الإحساس والشعور وخلقه خلقاً حياً كله الروعة والجلال؛ ثم هو عالم ناقد ينظر إلى كل شيء بعين فاحصة، وفكر صائب وتقدير سديد، وهذه الغريزة في نفسه هي التي جعلته يقول ما يقول عن حق (إن لحكمي المكان الأول من الاحترام عندي، وإذا لم يكن من حسن القصد أن نعجل بالحكم قبل لأن نطمئن إليه وقبل أن تتم بين أيدينا أسبابه، وكانت العجلة طيشاً غير جدير بمفكر يحترم عقله فليس من حسن القصد ولا من احترام المفكر عقله أن ينحل نفسه حكم غيره قبل أن يمحصه حتى يطمئن ضميره إليه، ومن الجمود الذي لا يقاس إليه طيش أن نأبى تقليب الأمور على وجوهها جميعاً حتى نطمئن إلى بلوغ غاية ما نستطيع من الحق فيها)
وأحب لك أن تتأمل الكتاب بنفسك، وأن تصحب مؤلفه الفاضل من (عزم السفر) حتى (أوبة الرضا) فستقضي في ذلك سفرة سعيدة، ورحلة طيبة، يسعد فيها عقلك بكثير من العلم والمعرفة، ويفوز منها قلبك بكثير من البهجة والانشراح، وتطيب بها روحك على خير ما تطيب به الأرواح من ذكر الماضي وأثر الدين؛ غير أني أحب لك أيضاً أن تكون صبوراً مع هيكل ما وسعك الصبر، إذ تراه يسير سيراً بطيئاً فيقف بك عند كل أثر من آثار الرسول، ينبش الماضي، ويسأل التاريخ، ويفحص المعالم، ويستوحي الروح، ويحكم العقل، ويقارن بين ما يرى وما يسمع، فإذا طفت معه مثلاً في أنحاء مكة الحديثة، فكن شديد الاحتمال إذ تراه يدخل بك في كل زاوية، وينعطف بك على كل ثنية، وينحدر بك إلى كل مغار، ويرتفع بك إلى كل نجد، ويدفعك دفعاً حتى بين النؤى والأثافي، والأحجار والصخور، ويقف بك عند كل أثر ظاهر، وكل مظهر قائم. وإذا ما صحبت هيكلاً مثلاً إلى أسواق العرب فاصبر إذ تجده يطيل عليك فيحدثك عن الأسواق الثلاث في العهود القديمة، ويتلمس لك موقع المجنة وموقع ذي المجاز، ويكشف لم عن أسباب الخصومة في الأسواق العامة؛ ثم يحدثك عما كان يجري في عكاظ وعن موقف النبي ﷺ في تلك السوق، ثم يسرد الأقوال التي قيلت في ذلك من قبل محاولاً أن يطبقها على ما يرى وأن يقيسها بمقياس العقل. نعم أحب لك أن تكون صبوراُ مع هيكل إذا رأيته في جميع المواقف يبحث ويتقصى ويطيل النظر والتأمل فإنه إنما يقف بك على آثار ومعالم لحياة قوم ملئوا الدنيا بمجدهم، وأسعدوا العالم بهديهم، وأفعموا التاريخ بذكرهم. أما نفس هيكل في هذه المواقف فهي نفس مطمئنة يقول هو عنها بأنها (قد سمت إلى حيث لم تسم من قبل قط) وهو يحدثك عن شعوره في ذلك فيقول: (رأيت نور الله ماثلاً في كل دقيق وجليل من خلقه، ورأيت آية الهدى متجلية يشهدها كل من أراد أن يفتح لها قلبه وبصيرته، ورأيت سنته في الكون تبتدى لكل من أخلص إلى الحق وجهة ثابتة لا تبديل لها، رأيت هذا كله رأى العين، وآمنت به إيماني بما يقع عليه حسي، وما تلمسه يدي، وأيقنت أن العلم بهذا كله هو الحياة الراضية المرضية)
وما نفس هيكل في ذلك وشعوره إلا طراز من النفس السامية على حقيقتها، وتمط من الروح الشرقية التي تمجد الدين أبداً، وتقدس المعنويات أبداً، إذ ترى سعادتها في الروحيات أكثر منها في الماديات
والظاهر أن هيكلاً في حياته الروحية الجديدة قد اتصل بالقرآن اتصالاً وثيقاً، وتغذى بألفاظه وأسلوبه كما تغذى بمعناه وروحه، وإنك لتلمح أثر ذلك واضحاً جلياً في تعابيره خصوصاً إذا ما تحدث عن معاني الإسلام تعمر القلوب، وسمو الإيمان يغمر الأرواح والنفوس. أنظر إليه وهو يصف الحجاج محرمين في طريقهم إلى مكة فيقول: طبع هذا المنظر أعمق الأثر في نفسي فهذه القوافل من المشاة والركبان تقصد إلى غاية واحدة وترجو في ربها الرجاء الأسمى. . . ليس يذكر أحدهم ما له من ثروة أو جاه أو ولد، وإنما يذكر أنه هو وهؤلاء المسافرين معه أخوة في الله وأنهم جميعاً قد أتوا قاصدين بيته، ملبين داعيه، ليشهدوه على أنفسهم وليطهروا بين يديه مما قدمت أيديهم، وليبدؤوا بذلك حياة جديدة يبتغون فيما أتاهم الله الدار الآخرة، ولا ينسون نصيبهم من الدنيا ويحسنون كما أحسن الله إليهم، ولا يبغون الفساد في الأرض. لهذا جاءوا من كل فج عميق، ولهذا ركبوا البر والبحر واستهانوا بالمشقة ونسو كل شيء إلا الله، ولهذا أحرموا آية إخائهم ومساواتهم إيذاناً بأن أقربهم إلى الله أتقاهم، ومظهراً لميلادهم الروحي الجديد، ليتخذوا من هذا الميلاد عدتهم لحياة جديدة، ولهذا تتصل قلوبهم وإن اختلفت أجناسهم وألوانهم ولهجاتهم، وهم يعبرون عن هذا الشعور بالتلبية تنفرج عنها شفاههم في حبور وغبطة مطمئنين إلى رحمة الله ومغفرته، إنه يغفر الذنوب جميعاً، لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
فهيكل كما ترى مولع بآيات القرآن يقتبسها لأسلوبه؛ ويقحمها في عباراته، ويستخدمها استخداماً طلياً منسجماً يدل على مهارة وتمكن. ولقد بلغ من ولعه بألفاظ القرآن أن آثر كلمة (طوّع) على مرادفتها في الأستعمال، فعبر بها مراراً إلى حدّ يلفت النظر، حتى أنه ليستخدمها في مواضع قد تكون مرادفاتها أولى بها، وقد لا تؤدي المعنى إلا على شيء من التسامح، ولكن هيكلاً يؤثرها لأنها لفظة قرآنية فهي حلوة سائغة. وإن من العجيب حقاً أن يؤثر هيكل ألفاظ القرآن كل هذا الإيثار، وأن ينتفع بأسلوبه إلى هذا الحد الذي يفوق فيه أولئك الذين شبوا على مدارسة القرآن، وقضوا أعمارهم في مزاولة عباراته والبحث في نصوصه على حين أنه قد نشأ نشأة مدنية كما يقولون، وتثقف ثقافة تتصل بالغرب أكثر مما تتصل بالشرق، وما آثاره الأولى إلا لون من ألوان تلك الثقافة الأجنبية. وإنما يسر لهيكل أن يندمج في حياته الروحية كل هذا الاندماج، وأن يتصل بثقافة القرآن وأسلوبه كل هذا الاتصال، أنه ذو موهبة فنية، وطبيعة أدبية صافية، والأديب إذا ما صفت طبيعته، وخلصت نفسه، ينطبع على الحياة التي يريدها وكأنها حياته التي تعودها حياته، ويفنى في البيئة التي يلابسها فإذا هو صورة قوية رائعة لما فيها من الألوان والمظاهر، ويخضع حواسه في الانفعال للفكرة يريد تنفيذها فينجلي لك صادق الإحساس صحيح الغرض، وهذا هو السر في أنك ترى الكاتب أو الشاعر يدرج بين صخور البادية وعلى أشواكها فتلمح في أسلوبه وتفكيره الشدة والجفوة، ثم ينتقل إلى مطارف الحضارة فإذا به هين لين مذلل الفكر يجري أسلوبه في مثل رقة الماء والهواء. وهذا هو السر أيضاً في أنك ترى الكاتب أو الشاعر يحدثك مثلاً عن البؤس فيجيد الحديث على أنه ليس ببائس، ويقول في النسيب والغزل فيملك عليك نفسك مع أنه ليس بغزل ولا محب، فكيف بذلك الأديب أو الشاعر إذا كان صادق العاطفة، خالص الرغبة، صافي النفس والروح كهيكل في حياته الجدية؛ لاشك أنه يكون شيئاً كبيراً، ويكون أثره أثراً قوياً رائعاً كهيكل (في منزل الوحي)
وأما بعد فقد أطلت على القارئ، ولنا وقفة أخرى مع (هيكل) في منزل الوحي سيرى القراء فيها لوناً طلياً من ألوان الفكر الروحي الذي يحترم العقل ويمجد الحق
محمد فهمي عبد اللطيف