مجلة الرسالة/العدد 239/أناشيد صوفية
→ للأدب والتاريخ | مجلة الرسالة - العدد 239 أناشيد صوفية [[مؤلف:|]] |
في المهرجان الملكي ← |
بتاريخ: 31 - 01 - 1938 |
جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
- 89 -
في اليوم الذي يطرق الموت بابك، ماذا تقدم إليه؟
آه، سأضع أمامه كأس حياتي المترعة لكيلا يرتد صفر اليدين
سأقدم له كل ما يحلو من ثمار أيام الخريف وليالي الصيف، وكل ما كسبت والتقطت في حياتي المليئة بالجد. . . سأقدمها كلها إليه عند آخر لحظة من لحظات حياتي. . . حين يطرق الموت بابي
- 91 -
أيها الموت، يا من هو آخر أمل في الحياة، تعال وأهمس في أذني!
الأيام تمر وأنا أرقب لقياك؛ فمن أجلك أنشأت في حياتي والسرور والألم معاً
أنا، وكل ما أملك، وكل ما آمل، وكل حين. . . كل أولئك يندفع إليك في أعماق الخفاء. إنني أبتغي النظرة الأخيرة من عينيك ثم لتكن حياتي شيئاً تملكه أنت إلى الأبد
لقد صففت الزهور، والأكاليل تنتظر العروس. وبعد العرس ستنقلب العروس من دارها لتلقى سيدها - في خلوة - في هدأة الليل وسكونه
- 91 -
أنا أوقن بأن اليوم الذي أحرم فيه النظر إلى الأرض آت لا ريب فيه! وأن روحي ستفزع عني في صمت. فيسدل على عيني آخر ستار من أستارها
ولكن النجوم ما تزال تتألق في غسق الليل، والصبح ما يبرح يتنفس في حينه، والساعات تمر جياشة كأنها الموج المضطرب وفيها اللذة والألم في وقت معاً
وحين تتراءى لي ساعتي الأخيرة يتصدع أمام عيني حجاب الزمن. فأرى من خلال لمعات الموت. . . أرى دنياك وفيها كنوزها المهملة؛ وما فيها سوى منزل وضيع وحياة حقيرة
دع كل ما أندفع عبثاً في إثره وكل ما أصيبه. . . دعه يمر ولكن مُنّ عليّ بكل ما كنت أزدريه وأعرض عنه
- 92 -
لقد اعتزمت الرحيل فودعوني يا اخوتي! سأنحني لكم جميعاً في رفق ثم أنطلق
هاكم مفاتيح داري فخذوها. . . سأنزل لكم عن حقي فيها. . . ولن أطلب إليكم شيئاً سوى كلمة عطف
لقد تجاوزنا طويلاً؛ ولقد نلت أكثر مما أستطيع أن أعطي والآن ابتسم الفجر وفزع عني السراج الذي أضاء ركني المظلم زماناً؛ وناداني الداعي، وهاأنذا على استعداد للرحيل
- 93 -
في ساعة الرحيل، تمنوا لي السعادة، يا رفاقي! فالفجر يلمع في السماء والطريق أمامي لاحب جميل
ولا تسألوا عما أتزود به فأنا أندفع في طريقي قفر اليدين ممتلئ القلب بالإيمان
سألبس إكليل العرس، ولن ألبس ثياب الرحيل الحمراء القاتمة؛ ورغم أن في الطريق مخاوف فقلبي مطمئن ساكن
ستبزغ نجوم الليل حين تنتهي رحلتي، سترن في مسمعي ألحان الدجى الشجية تتصاعد عند باب ملك الملوك
- 94 -
لم يكن لي أن أعرف اللحظة التي أخطو فيها خطواتي الأولى نحو الحياة
أي قوة جعلتني أتفتح في هذه المتاهة الواسعة كما يتفتح كم غض في مضلات الصحراء تحت ستر الظلام
وعلى ضوء الصباح فتحت عيني فما استشعرت في نفسي الغربة عن هذه الدنيا؛ لأن قوة خفية لا اسم لها ولا شكل، ضمتني إليها تهدهدني كأنها أمي
بمثل هذا ستبدو أمامي هذه القوة الخفية نفسها. . . . ستبدو عند موتي كما عهدتها، وكما أحببت الحياة سأحب الموت
إن الطفل ليصيح حين تنتزعه أمه عن ثديها الأيمن. ولكنه سرعان ما يجد في الثدي الأيسر سلوة وغراء
- 95 -
فلتكن كلمة وداعي حين أبرح هي: إن ما رأيته هنا هو المثل الأعلى
لقد رشفت بعض الرحيق الخفي من زهرة اللوتس المنشورة على محيط النور. لهذا فأنا سعيد. . . فلتكن هذه هي كلمة وداعي
وفي هذا الملعب اللانهائي وجدت نفسي لهوها؛ وفيه استطعت أن أنظر إليه نظرة خاطفة. . . إليه هو الذي لا شكل له
وأرتعد جسمي كله واضطربت أطرافي بلمسة من لمساته هو. . . هو الذي لا يلمس؛ وإذا حان حَيْني فليأت. . . فلتكن هذه هي كلمة وداعي
- 96 -
حين أجد لذتي معك لن أسأل: من عسى أن تكون؛ فأنا لا أعرف الخداع ولا الخوف، لأن حياتي كانت صاخبة
وفي بكرة الصباح ستوقظني من غفوتي في رفق كأنك صديقي، ثم تقودني في سرعة من طريق إلى طريق
أنا - في هذه الأيام - لا يعنيني أن أدرك معنى الأغاني التي تترنم لي بها؛ غير أن صوتي يوقع اللحن، وقلبي يرقص على النغم
والآن، وقد تصرّم زمان العب، ماذا عسى أن تكون هذه النظرات الفجائية التي تتساقط علي؟ إن الدنيا مطرقة في خشوع ونظراتها معلقة بقدميك وكواكبها صامتة
كامل محمود حبيب