مجلة الرسالة/العدد 238/زواج ملكي
→ الزواج الملكي السعيد | مجلة الرسالة - العدد 238 زواج ملكي [[مؤلف:|]] |
الملك الشاب رمز الأماني الجديدة ← |
بتاريخ: 24 - 01 - 1938 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
لورنس هوسمان أديب شاعر رسام إنجليزي أشتهر بمسرحياته الصغيرة التي كتبها عن حياة الملكة فكتوريا ونشرها أخيراً (نادي اليمين) الذي يعارض جماعة الشمال من أصحاب المبادئ الاشتراكية والدعوات الانقلابية. وإحدى هذه المسرحيات مقصورة على المناقشة بين اللورد ملبورن والملكة فكتوريا عن مسألة الزواج الملكي وقد دار فيها بينهما هذا الحوار:
فكتوريا - إنني لم أفكر في أحد ما على التخصيص. . . أعني أنني لم أتخذ بعد قراراً حاسماً
ملبورن - يفرج عني أن أسمع هذا يا مولاتي، وأفهم منه إذن أن صاحبة الجلالة لا تزال طليقة الرأي. . .
فكتوريا - طليقة الرأي؟ نعم. نعم، لاشك أنني صاحبة الخيار في الأمر يا لورد ملبورن
ملبورن - وكيف لا؟ هذا ما أعنيه طبعاً ولا أشير بغيره لحظة
فكتوريا - لكن هناك أموراً قد عقدت النية عليها وبتتُّ فيها
ملبورن - مثل ماذا؟
فكتوريا - أن يكون زواجي يا لورد ملبورن زواج عاطفة
ملبورن - ذلك ما يستطاع تدبيره فيما أعتقد يا مولاتي بغير مشقة
فكتوريا - أعني أنني أريد إنساناً أجل خلائقه، وأستطيع أن أحبه وأن أرتفع إليه
ملبورن - ترتفعين إليه؟!
فكتوريا - نعم يا لورد ملبورن. وربما استغربت ما تسمع؛ إلا أنني أريد زوجاً أتطلع إليه حقاً بعد أن تكمل له الدربة على المرتبة التي سيشغلها
ملبورن - آه. هو كذلك، هو كذلك. إنني واثق من إمكان وجوده. وإذ كانت صاحبة الجلال قد أعربت عن طلاقة رأيها في هذا الصدد فعندي الساعة بيان بالأسماء المحتملة
فكتوريا - آه. لورد ملبورن، ما أعجب هذا! كم عددها؟
ملبورن - حسناً مولاتي. هم في الوقت الحاضر خمسة وحسب، ولكننا ننتظر آخرين. . .
فكتوريا - تنتظرون؟!
ملبورن - أريد أن أقول إننا نستخبر خبرهم
فكتوريا - وكيف تستخبرون؟
ملبورن - عن كل شيء يا مولاتي، وهو واجبنا المفروض علينا، فليس من شأني أن أعرض على صاحبة الجلالة أحداً يتجه إليه اعتراض على وجه من الوجوه
فكتوريا - وقد وجدت منهم خمسة حتى الساعة. . . ما أبرعك يا لورد ملبورن!
ملبورن - تحدثت يا مولاتي عن (المحتملين). . . ولا يزال الاستخبار جارياً عن الآخرين، وأنا قائم بالبحث الآن، ولعله لا يبقى منهم بعد مراجعة صاحبة الجلالة غير واحد
فكتوريا - أود أن ألقي نظرة على بيانك يا لورد ملبورن
ملبورن - إن أذنت مولاتي فبعد تمهيد وجيز عن الملاحظات التي تهديني في بحثي أعرض بياني لنظر مولاتي، ولموافقتها فيما أرجو
فكتوريا - لا يسعني أن أوافق على خمسة!
ملبورن - على سبيل المراجعة الأولى لم لا يا مولاتي؟ من خمسة يجرون تختارين السابق
فكتوريا - يجوز ألا أختار أحداً إلى زمن طويل، ولكن على كل حال هات ما عندك. إنني مصغية ومهتمة
ملبورن - إن المزايا التي يمتاز بها قرين يليق بصاحبة الجلالة هي ولا ريب مزايا فريدة أو مزايا خاصة. ولعلي لا أعدو وصفها الصحيح إن قلت غريبة. فمن الواجب أولاً أن يكون من سلالة ملكية، ومع هذا يجب ألا يكون وارثاً مباشراً أو مرجحاً لعرش من عروش الملك أو الإمارة
فكتوريا - ولم لا يا لورد ملبورن؟
ملبورن - لأن وراثته ربما جرت يا مولاتي إلى بعض المشكلات السياسية. إن تاج هانوفر قد تجاوزك إلى غيرك لأن قانون الوراثة يقصر ولاية الملك على الذكور، وتلك مناسبة سعيدة فيما أحسب، فنحن لا نحب مزيداً من تيجان هانوفر، وإن البلاد لأحسن حالاً بغير تلك التيجان
ولنعد إلى المزايا المطلوبة يا مولاتي. فالقرين اللائق بصاحبة الجلالة ينبغي فوق عراقته الملكية وبعده عن وراثة العرش أن يكون أميراً من بيت لا هو بالصغير المفرط في الصغر ولا هو بالخطير المفرط في العظم. إذ لا مناص لنا من اجتناب المحالفات المعقدة. وينبغي بعد هذا أن يدين بالعقيدة البروتستانتية
فكتوريا - أجل. أجل. فليس في مقدوري أن أتزوج برجل (بابوي)
ملبورن - نعم يا مولاتي ليس في مقدورك. إن قانون الولاية يمنع ذلك. ثم ينبغي أيضاً أن يكون شاباً كي يصبح قرين حياة لصاحبة الجلالة؛ وينبغي أن يعرف أو يتعلم اللغة الإنجليزية، وأن يكون صالحاً لاقتباس العادات والتقاليد القومية. وإن هذه المزية الأخيرة لأصعبها جميعاً لما هو معروف من تحرج الإنجليز مع الأجانب
فكتوريا - لكني يا لورد أحسب ما تقول سيجعل الأمر مستحيلاً
ملبورن - حاشا يا مولاتي. غاية ما هنالك أنه سيضيق نطاق الاختيار. ولابد من العثور على أحد قادر بعد الاصطباغ بالصيغة الإنجليزية أن يقتبس عاداتها ومشاربها. وقد حدث هذا فإن أبن عمك الأمير جورج أوف كامبردج مثلاً يتخذ على عجب صورة الإنجليزي المطبوع، ولا تمضي سنوات خمس أو نحو ذلك حتى يتعود أن يجفو الأجانب كما نجفوهم
فكتوريا - لكن أتراك تجفو الأجانب يا لورد ملبورن؟
ملبورن - كلا يا مولاتي! كلا! وإنما أصطنع جفاءهم بعض الأحايين لأسباب سياسية
فكتوريا - حسن. وماذا بعد ما تقدم؟
ملبورن - يجمل به فوق ما تقدم يا مولاتي أن يملك بعض الثروة وإن لم تكن عظيمة؛ فإن البرلمان سوف يتكفل بما هو لازم؛ ويجمل به أن يكون صاحب سمت لائق بمقامه، وأن يكون على جانب من العقل لكن على غير جانب عظيم منه!!! إذ لا يحق له أن يتعرض لشؤون السياسة
فكتوريا - هذا حق، ولن أسمح له بالتعرض لتلك الشؤون
ملبورن - ثم ينبغي أن يكون صحيح الجسم سليم التكوين، منحدراً من (أصل أصيل). . . وهذا أصعب ما عانيناه في المسألة إذ كان (الأصل الأصيل) في الأسر الأوربية المالكة من أندر الصفات
فكتوريا - وضح من فضلك، فإني لا أكاد أفهم. ويخيل إلى أن كلمة (الأصل الأصيل) تنصرف إلى الماشية
ملبورن - هي كذلك يا مولاتي في بعض معانيها؛ بيد أنها تعني أيضاً ما ينحدر من الوالد إلى الوالد. ونحن نجدها في الوصية الثانية حيث تنبئنا أن خطايا الآباء تنصب على الأبناء؛ وكذلك الفضائل. ففي بعض السلالات الملكية قد امتزجت الخطايا والفضائل حتى لنخشى المزيد من امتزاجها والخلط بينها. ولهذا كان القران بين الأمراء الأقارب غير محمود المشورة
فكتوريا - أوه!
ملبورن - أعني على الجملة لا على التقصي. وفيما يرجع إلى بعض الفروع من شجرة أسرتكم يا مولاتي ينطبق هذا لسوء الحظ أشد انطباق. ومن ثم لم أضمن بياني أسمي أثنين من أبناء عمومتك على الرغم من ذكرهما لي، وإنهما لولا ذلك لكانا من أصلح المرشحين لتلك المكانة، وهما صاحبا السمو الأمير إرنست والأمير ألبرت من ساكس كوبرج جوثا
فكتوريا - ومع هذا كانا يلوحان لي على أتم صحة وقوة عندما رأيتهما منذ سنتين
ملبورن - في الظاهر يا مولاتي، والظواهر طالما تخدع. والمسألة بعدُ دقيقة، بل مؤلمة، غير أني لم أضمن أسميهما - اتباعاً لما عندي من الأنباء الطبية - في البيان الذي أتشرف الآن بعرضه على صحابة الجلالة (وينهض ويقدم إليها البيان فتعبره بلمحة واحدة)
فكتوريا - أوه. ولكن هل تراني أعرف أحداً منهم؟
ملبورن - جلالتك تعرفين أحدهم حق المعرفة
فكتوريا - أوه. لا أحسب. أتعني الأمير جورج؟ إنه أبن عمي أيضاً
ملبورن - في فرع آخر يا مولاتي، وليس على هذا الفرع اعتراض من ذاك القبيل
فكتوريا - أوه، لكنني لا أستطيع أن أقبل أبن عمي جورج. . . إنه. . . إنه
ملبورن - ليس من يريد أن يمس حق جلالتك في اختيارك. . . هناك غيره
فكتوريا - إلا أنني كما قلت لا أعرف أحداً منهم
ملبورن - يسهل إصلاح ذلك يا مولاتي. تدعينهم إلى البلاط واحداً واحداً ولا تقولين شيئاً، ثم تصرفينهم ولا تقولين شيئاً. أو تقولين ما بدا لك، ويبقى، أو يعود كرة أخرى
فكتوريا - لكنني أنا التي أختار. أليس كذلك؟ ملبورن - نعم أنت التي تختارين يا صاحبة الجلالة، ولا ضرورة تلجئك إلى الزواج إن أبيت
فكتوريا - أوه، لكن لابد من الزواج. هكذا كانت أمي تقول في كل حين
ملبورن - وهكذا سمعت. على أن مسألة لها مثل هذه الخطورة قلما يسمح فيها لولاء البنوة أن يؤثر في اختيار صاحب الجلالة. وإنما أقول يا مولاتي إنه على فرض أن هناك محاولة من محاولات التأثير على اختيارك في وجهة من الوجهات فالواجب يقضي على لما قدمت من أسباب أن أعارض
فكتوريا - لورد ملبورن، إنني لن أقبل معارضة ما في أمر من الأمور التي على هذا النحو. إنها لن تؤثر في رأيي لحظة
ملبورن - لا؟
فكتوريا - علي التحقيق، وربما أثرت على النقيض في وجهة أخرى
ملبورن - فهمت يا مولاتي، وأنا أشاطرك شعورك، ولا أقول كلمة أخرى، وإنما أكل المسألة إلى حسن رأيك، وإلى ضميرك
فكتوريا - أوه. ما أكرمك معي يا لورد ملبورن! وكم ذا أتعلم منك!
ملبورن - بل كم ذا أتعلم أنا من مولاتي. لقد خدمت ملكين أسن من صاحبة الجلالة، إلا أنني لم أخدم أحداً يصغي إلى المشورة بما تبدين من حكمة وحسن إصغاء
فكتوريا - (ناهضة) أستودعك إذن يا لورد ملبورن. أتبقي معك البيان أم تتركه هنا؟
ملبورن - بأذنك يا مولاتي. اذكري ما قلته أو تفضلي بنسيانه. . . فالاختيار لك وحدك وليس لأحد غيرك
فكتوريا - نعم، ولكنك لم تُرِني بعدُ صورة من الصور
ملبورن - صوراً يا مولاتي، ولماذا الصور؟
فكتوريا - لا يسعني أن أختار أحداً حتى أرى ملامح وجهه، فليس هذا بالإنصاف لهم ولا هو بالإنصاف لي
ملبورن - تستطيعين أن تأمري بدعوتهم.
فكتوريا - كلا! لا أنوي أن أدعو أحداً إن لم يعجبني مرآه ملبورن - إن الصور لخادعة في بعض الأحيان يا مولاتي
فكتوريا - هذا صحيح. وقد رأيت منذ أيام صورة لأبن عمي الأمير جورج أوف كمبردج؛ فإذا به يلوح فيها وهو جميل
ملبورن - أستطيع أن أحصل على صورهم جميعاً يا مولاتي حسب مشيئتك، ولكن المصورين في البلاط - مثلهم كمثل رؤساء الوزارات - يعرفون واجباتهم، ولا يعملون إلا ما هو منظور منهم أن يعملوه، فإن لم يقدروا على عمله فعليهم أن يذهبوا
فكتوريا - (وهي ذاهبة إلى المائدة). . . هذه صورة أرسلت إلى والدتي منذ أيام: صورة ابن عمي الأمير ألبرت
ملبورن - (وقد تبعها إلى المائدة). . . أوه. . آه. نعم
فكتوريا - لا شك أنه نشأ جميلاً. ليس في استطاعة مصور بلاط أن يتخيل صورة على هذا المثال
ملبورن - من يدري يا مولاتي؟ من يدري؟ إن الخيال ليجمح. . . فأما وقد استغنينا عن بيان الأسماء فهل أمضي الآن في جمع الصور لصاحبة الجلالة؟
فكتوريا - أوه. كلا! يا لورد ملبورن. لم أكن جادة حين ذكرت هذا
ملبورن - ولا أنا يا مولاتي. إلا أنني أتوسل إلى صاحبة الجلالة أن تفكر في هذا الأمر جادة. . . إن مصير هذه البلاد لفي هذه اليد الصغيرة (وينحني على يد الملكة مقبلاً)
هذا الحوار طريف شائق مفيد من جوانب كثيرة، لأنه يرينا نمطاً من أدب الحديث بين الملوك والوزراء في بلاط الإنجليز، ويرينا نمطاً من الشروط السياسية التي تلاحظ في زواج الملوك الأوربيين والملكات الأوربيات، ويرينا نمطاً من اللياقة التي يتذرع بها الساسة هناك إلى تصريف المسائل الدقيقة. ويحسن الإطلاع عليه، والأمة المصرية تبتهج بزفاف المليك الفاروق حفظه الله وأدام ايامه، ليتم الإطلاع على الفارق بين تقاليدنا وتقاليد الغربيين في هذه الشؤون؛ فقد فرض العرف القديم وفرضت المواقف السياسية قيوداً على ملوك الغرب لا محل لها من العادات الإسلامية والشرقية. ومن ثم كان زواج الملوك المصريين أقرب إلى الديمقراطية وإلى الحرية وإلى المعاني الإنسانية مما يكون بين الأمم الغربية، وهي فيما توحيه الظواهر مهد الحرية في مسائل الزواج.
عباس محمود العقاد