مجلة الرسالة/العدد 238/الزواج الملكي السعيد
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 238 الزواج الملكي السعيد [[مؤلف:|]] |
زواج ملكي ← |
بتاريخ: 24 - 01 - 1938 |
في صباح الخميس العشرين من يناير كانت مصر كلها نطاقاً من الولاء والدعاء والبشر حول قصر القبة العامر!
في هذا اليوم الموموق، وفي هذا القصر المرموق، وضعت مصر المجيدة الخالدة تاجها الثاني على جبين ملكتها الطاهر!
في الساعة الحادية عشرة من ضحى هذا النهار الضاحك كان مولانا الفاروق يتم نعمة الله عليه بالزواج الموفق الباكر!
هل رأيت قبل اليوم أمة بأسرها تحتشد هازجة في مهرجان؟ هل سمعت في غير مصر ستة عشر مليوناً يهتفون بالحب لإنسان؟ هل علمت قبل فاروق أن اتفق مثل هذا الحب لسلطان؟
المدافع المبشرة تقصف في كل ثكنة، والموسيقى المطربة تعزف في كل ساحة، والنواقيس المجاملة تجلجل في كل كنيسة، والمذياع الجهير يرسل الأناشيد في كل جو، وهتاف الشعب المبتهج يهزج في كل نسيم، وتصفيق الجماهير المحتشدة يُدوي في كل شارع، وزغاريد العقائل والأوانس تنطلق من كل شرفة، وأدعية الترفئة والتهنئة ترتفع من كل قلب، وصوت الإمام المراغي ينبعث بالصيغة الشرعية من الحجرة الملكية رهيباً كأمر الله، جليلاً كصوت الرسول، فيربط بالدين قلباً بقلب، ويصل بالدعاء ملكاً برب، ويقرن في الدنيا تاجاً بتاج
فهل رأيت بعين الحلُم ما رأت عيناك في هذا القران؟
وهل سمعت بتاجين صاغهما الله من حب وإيمان؟
وهل أجتمع الدين والدنيا لغير فاروق في هذا الزمان؟
عهدنا بنشوة العرس تبسط قلبي العروسين؛ فإن زادت أبهجت قلوب أسرتين: فإن زادت أنعشت نفوس قرية
ولكن عرس الفاروق بِدْعٌ من الأعراس لم يسجل مثله التاريخ. وإلا فمتى وأين كان العرس الذي يشعر كل مواطن أنه عرسه، في بيته فرحه وفي نفسه مرحه وفي قلبه أنسه؟ لقد تبدلت الحياة غير الحياة في ثلاثة أيام على ضفاف النيل المقدس. فالجهود المسخرة لأكلاف العيش تقف، والعداوات المسعرة لمطامع النفس تبوخ، والأقلام المتسافهة على وجوه الصحف تكف، والقلوب المختلفة تأتلف على شعور واحد: هو أن وطنها مصر وملكها فاروق! فلا وساطة بين الملك وشعبه، ولا علاقة بين المرء وحزبه؛ كأنما أصبح الناس من وحدة الهوى أسرة في رقُعة أمة، وغدا الفاروق من شدة العطف أباً في عرش ملك!
قد يكون لعرس الفاروق أمثال تطاوله في الفخامة وتفاضله في السعة؛ ولكن مزيته الظاهرة أنه عرس قومي ساهم فيه كل امرئ بنبض من قلبه وفيض من جيبه. فلم يبق بلد في القطر، ولا أحد في الناس، لم يقدم إلى العريس الأعظم هدية فاخرة، أو تهنئة خالصة، أو دعوة مستجابة! وتسأل الملايين الوافدة من كل قرية، والأمواج الدافقة في كل طريق: أمصدر هذا البشر الذي يترقرق في جباهكم، ويتألق على شفاهكم، هو هذه الأَضواء الساطعة والزينات الرائعة والمباهج الخلابة؟ فيجيبونك إنما هو حب المليك الصالح وجد متنفسه في هذا الظرف السعيد فانقلب نشوة من نشوات السعادة يضيع في حمياها التدافع بالظهور، والتصادم بالصدور، والنوم على الأفاريز، والضلال في الشوارع. وهم في هذا المزدَحم الضاغط يتجهون إلى القصر ولا يذكرون غير الملك، كما يتجه الحجيج الحاشد إلى البيت ولا يذكر غير الله!
مولاي يا زين الشباب! لَنِعْمَ المثل العالي لناشئة الجيل أنت! إن في برك بشعبك، وفي إيمانك بربك، وفي إحصانك في بكور السن، وفي إقدامك على عزم الأمور، وفي ثباتك على تقلب الحوادث، لدستوراً من الخلق العظيم تصح عليه القلوب المريضة، وتنتعش به الآمال المهيضة، وتشتد به العزائم الرخوة، ويزكو عليه ثرى الوادي الحبيب الخصيب فيعود فينبت تلك الأدواح الشم التي فاء إلى ظلها وأكلها العالمَ القديم فاغتذى واسترْفه
مولاي يا أمير المؤمنين! لنعم الإمام العادل لدولة الإسلام أنت! إن في رفعك منار العدل، وفي إيثارك جانب الحق، وفي إعزازك كلمة الدين، وفي تجديدك ما رث من أسباب الخلق، وفي إحيائك ما عفا من سنن السلف، وفي أخذك نفسك الملكية الشابة بسْمت الرسالة وسيرة الإمامة، لومضةً من ومضات الروح الإلهي تبعث الحياة في هذا الهيكل العظيم الرميم فتعيده قوياً كما نشأ، عظيماً كما شب، حرياً بأن يبسط على الخافقين جناحه، ويستأنف في المشرقين دعوته وإصلاحه
مولاي يا وريث الفراعين! لنعم الملك الصالح لمصر العريقة أنت! إن في جمعك إلى مزاياك الخاصة رأيَ البعقري محمد علي في العُدة والقوة، وحب العزيز إسماعيل للحضارة والفن، وميلَ العظيم فؤاد إلى الثقافة والعلم، لضماناً لمصر الناهضة أن تساهم في بناء المدينة من جديد، وأن تصل حاضرها الطريف بماضيها التليد!
نضَّر اللهُ بالملكة السعيدة عهدك، وثَبَّتَ الله على المملكة الرشيدة مجدك، وأدام الله على الأمة المجيدة سعدك، فإنك يا مولاي لدولتك ورعيتك ومِلّتك نعم المولى ونعم النصير
أحمد حسن الزيات