مجلة الرسالة/العدد 232/القلب الغريب
→ هل الحرب ضرورة؟ | مجلة الرسالة - العدد 232 القلب الغريب [[مؤلف:|]] |
حرق الميت ← |
بتاريخ: 13 - 12 - 1937 |
في ليلة عيد
للدكتور زكي مبارك
أخي الأستاذ الزيات
هل تذكر ما حدثتني به منذ سنين؟ هل تذكر انك تشهيت مرة أن توجه إليّ خطاباً على صفحات البلاغ عنوانه (من غريب إلى غريب) وكنت الغريب في بغداد وكنت الغريب في باريس؟
ولم تحدثني عما أوحي إليك أن تفكر في إنشاء ذلك الخطاب، فهل أستطيع أن ارجح أن ذلك كان بعد أن نشرت أنا رسالة (من غربة إلى غربة بين القاهرة وباريس) تلك الرسالة التي فضحت بها مكتوم صدري ومكنون هواي؟
على أنني لن اكتب مثل تلك الرسالة مرة ثانية فقد انتهى عهد الغربة بالقاهرة، وقضى الحب أن اشهد كيف تنهمر دموع الملاح يوم رحيلي إلى العراق
انتهى عهد الغربة بالقاهرة، وحل عهد الاغتراب عن القاهرة، فمن يردني إليها ليلة أو ليلتين لأقضي حق التحية، تحية المغاني الآهلة التي كانت تتشوق إلى العيد، لتراني مع العيد!
ليتك يا صديقي تعرف نعمة الله عليك في بلد لك فيه أهل وأحباب، ولا أراك الله حسرتي وعذابي وأنا أتجرع كأس الغربة في ليلة عيد!
ولكن هل من السياسة أن أعلن غربتي في بغداد، وقد لقيت فيها أهلاً بأهل وجيراناً بجيران؟
إن قيل ذلك فأنا أعلن إني لا أعاني غربة العقل وإنما أعاني غربة القلب
وكيف أعاني غربة العقل ومحاضراتي يشهدها المئات من عشاق العلم والبيان، ولا أخطو خطوة إلا وأنا محوط بالعطف والإعجاب، ولا ادخل نادياً إلا تلقاني أهله وسامروه بالترحيب والتبجيل؟
ولكن هل يكتفي مثلي بحياة العقل؟ يا ضيعة العمر إن كتب علينا ألا نظفر بغير الثناء من عقلاء الرجال! وما أضيق العيش إن كانت لا تلمع بروقه إلا من صرير القلم وسواد المداد!
إن الحياة العلمية ليست إلا خدعة يتلهى بها أرباب القلوب. وهل يخفي عليك ما يعانيه رجل مثلي حين يعود وحيداً إلى منزله بلا أنيس ولا رفيق؟ هل يعزيه حينذاك أن يتذكر انه كان منذ لحظات يعاقر الفكر والرأي وهو يلقي محاضرته على جمهور من العلماء والأدباء؟
ليتك تراني وأنا ادخل إلى غرفتي شارد اللب فأزيح الستائر عن النوافذ ثم أطفئ المصباح لأقف وجهاً إلى وجه مع ظلام بغداد. ويا رحمة الله من ظلام بغداد في لياليها الطوال!
ولكن ما الذي يدعوني إلى معانقة الظلام في بغداد؟ لا اعرف ولكن يخيل أليّ أن الظلام يؤنسني بعض الإيناس، لأنه يوهمني أني في فترة من الزمن تأنس فيها القلوب بالقلوب، وتسكن الأرواح إلى الأرواح. وربما كان الظلام في غرفتي فرصة طيبة أتبين فيها بصيص النور في منزل قريب أو بعيد فأتمثل أخيلة النجوى والعتاب، وأتوهم ضجيج المرح في ليالي الوصال
أما بعد فهذا غروب اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان وهذا مكاني على المائدة في المطعم الذي تخيرته بشارع الرشيد، وهذه أطياف ترد على القلب، من أحباب القلب، أطياف من مصر الجديدة والزمالك، تلك البقاع التي لم تر فيها النجوم قلباً مثل قلبي، ولم تسدل ستائرها على هوى اعنف من هواي. . . وليقل من شاء ما شاء!
واسأل جاري على المائدة: هل ثبتت الرؤيا؟
فيجيب: سنعرف ذلك بعد ساعة أو ساعتين
وأخرج فأتصفح الوجوه في شارع الرشيد بلا نفع ولا عناء، ثم أميل على الشرطي أسأله:
هل ثبتت الرؤيا؟
فيجيب: لم تثبت، ولكن المحكمة تنتظر برقية من النجف
فأدمدم: برقية من النجف؟ وهل يسر من في النجف أن يفطر من في بغداد؟ إن كان الأمر لعلماء النجف فسيضيفون إلى الصوم يومين، ولولا أن يفضحهم الهلال لزادوا الصوم أسبوعين
واذهب إلى نادي المعارف لأسمر لحظات مع الزملاء من المدرسين فيفرحون بلقائي ويسألون: كيف غبت امس؟ فأجيب: غبت أمس لأحضر اليوم. ولكن حدثوني هل عندكم أخبار عن الهلال؟ فيجيبون: سنعرف ذلك بعد الساعة العاشرة. فأقول: والشمس تغرب في الخامسة فهل يمكن أن يكون بين الخامسة والعاشرة مجال لرؤية الهلال؟
وبعد لحظة تحول إبرة المذياع إلى مصر فاسمع فتاة تباغم المستمعين فتقول: سادتي وسيداتي، وهذا آخر العهد برمضان! فأقول: يا إخواني، يا حضرات الأساتذة يا مسلمين يا أولاد الحلال، هذه في مصر ليلة العيد.
فيجيب أحدهم وهو يبتسم: علمت شيئاً وغابت عنك أشياء. ألم تعلم أننا صمنا يوم الجمعة، وصام المصريون يوم الخمس، فهم حتماً يسبقوننا إلى العيد؟
فأقول: من هنا تعلمون أن مصر تقدمت في كل شئ، فلها السبق في الصوم ولها السبق في العيد وانصرف محزون الفؤاد هذه غرفتي موحشة لا يؤنسني فيها غير أرواح الموتى من المؤلفين وسيكون الغد يوم عمل، لأن يوم الوقفة لا عطلة فيه في بغداد، وإذن فسأعطي غداً درساً في التفسير، وهو درس متعب لأنه في الكشاف، وفي آية يختلف فيها أهل السنة مع أئمة الاعتزال
وكيف اعد هذا الدرس، يا رباه وأنا اعرف أنها ليلة عيد في مصر الجديدة وفي الزمالك، ويا ويلتاه من لوعة القلب حين أتمثل مصر الجديدة والزمالك؛ وغضبة الله على من تمر بباله خاطرة ملام وأنا اردد أسماء تلك المغاني، حرسها الله وأدام لأهلها نضرة النعيم
بسم الله الرحمن الرحيم
(يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وانتم لا تشعرون)
قال جار الله الزمخشري. . .
هذه طلقة مدفع!
وقال ابن حجر في الرد عليه. . .
وهذه طلقة ثانية!
وكيف نوفق بين القولين؟
وهذه طلقة ثالثة! ولكن ما الساعة الآن؟
الساعة العاشرة! إذن ليست هذه مدافع السحور ولا مدافع الرفع، وإنما هي مدافع العيد
وأطفأت المصباح وتلفت إلى النافذة لأرى ظلام بغداد وقلت هذه ليلة عيد بالإجماع، فلأرح نفسي من الكشاف، ولجاجة صاحب الكشاف ولأقبل على قلبي أتبين ما فيه من فطور وندوب.
تذكرت أنني كنت اكتب رسالة وجدانية في كل ليلة عيد ثم انقطعت رسائلي بعد إذ مات أبي يرحمه الله، لأنني أنفت أن ابكي بعده على غرض مضيع أو هوى مفقود
ثم بدا لي في هذه الليلة أن أبي لا يسرة في قبره أن تعيش مهجتي بلا لوعة، ومقلتي بلا دمعة وكان يرحمه الله جذوةً من الوجدان
وعدت إلى الظلام استلهمه واستوحيه فلم أجد من أحاوره غير الرجل الحزين الذي اسمه احمد، احمد حسن الزيات
صديقي!
هل تذكر فكاهتك الطريفة إذ تحدث إخوانك انك عرفتني أول مرة عن طريق البوليس؟ هل تذكر أن البوليس دعاك مرة إلى زيارة المحافظ فتوجست خيفةً ثم رأيت أن الخطب هين لأنك دعيت لتتسلم رسالة من الشيخ زكي مبارك الذي اعتقلته السلطة العسكرية أيام الثورة المصرية؟
ألا فلتعلم أن الحظ قضى عليك إلا تتلقى مني رسالة إلا في ظروف تحيط بها شبهات، فان كانت الرسالة الأولى في عهد ثورة فهذه أيضاً في عهد ثورة، وربما كانت هذه اعنف وافظع لأنها تحدثك عن صديق حزين يناضل الأرق والسهاد في ليلة عيد
صديقي!
لا تعجب من رجل يضنيه الحزن والإبتئاس مع أنه ينهض بأثقل الأعباء، فدنيا القلب غير دنيا العقل والشواغل الجسام لا تلهي الرجل عما يساوره من لواذع الإحساس، وأنا رجل يؤمن بان القلب أدق ميزاناً من العقل وكيف لا يكون كذلك وهو يأخذ هدايته من الفطرة، على حين لا يهتدي العقل إلا بالبراهين، وهي في الأغلب تقوم على مقدمات لا تخلو من تضليل صديقي
هذه الساعة الأولى بعد منتصف الليل، وستقرأ هذه الرسالة فتذكر انك أرقت في ليلة العيد بلا سبب معروف فلتفهم حين تقرا هذه الرسالة أن ذلك الأرق إنما كان هدية أرسلها إليك الغريب في بغداد، الغريب الذي يوحي الحزن إلى أشقياء الغرباء
والآن أطفئ المصباح لأعانق الظلام في المدينة السحرية التي شقي بليالها ملايين الرجال فلا أرى غير بصيص ضئيل لمصباح أقامته الحكومة على شاطئ دجلة، فافهم أنني أخاطب الأموات لان مصابيح الحكومة لا تدل على شيء ولا يهتدي بها غير لصوص الجيوب
الآن تهدا بغداد بعد أن تسدل أستارها على الغافين من السعداء والبائسين، ويبقى المسهد الغريب الذي لا يعرف ربيع القلب، ولا نعيم الجفون
في هذه الليلة تهدأ جُنوب، وتقلق جنوب، وجنبي هو الجنب الحائر تحت سماء بغداد.
في هذه الليلة تتلفت عيون فلا تراني، عيون كنت لها أمتع من إغفاءة الفجر، وانضر من بياض الصباح في هذه الليلة تشتاقني أكبادٌ رقاقٌ علمتها كيف تطيب ليالي الأعياد
ولكن لا باس، فسنعيش حتى نرد ديون الهوى، وسيعلم من أبكاهم الفراق أن الدمع لا ينفع، وسنرجو إلا يسمحوا لنا بعد هذه المرة بالتعرف إلى محطة باب الحديد.
أخي الأستاذ الزيات
لا انتظر منك دمعة عند قراءة هذا الخطاب، ولكن لي إليك رجاء، فاحفظ عهد أخيك ولا تمش في شوارع القاهرة إلا مشية الخاشعين، فليس في تلك المدينة بقعة إلا ولي فيها صبوات، وليس فيها شارع ولا مشرب ولا ناد إلا ولي فيه أحباب وخلان
ولو شئت لكلفتك تبليغ التحية إلى أصفياء القلب في مصر الجديدة، وفي الزمالك، ولكن مثلك وا أسفاه لا يؤتمن على نقل التحية إلى أسراب الملاح، فلتكن (الرسالة) رسولي إلى من أذالوا غاليات الدموع يوم رحيلي إلى العراق والسلام عليهم وعليك من الغريب الحزين
زكي مبارك