الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 231/في التاريخ السياسي

مجلة الرسالة/العدد 231/في التاريخ السياسي

مجلة الرسالة - العدد 231
في التاريخ السياسي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 06 - 12 - 1937


مصر وإيطاليا

عبر الماضي دلائل الحاضر

بقلم باحث دبلوماسي كبير

لما كشفت إيطاليا الفاشستية في أوائل سنة 1935 عن نياتها الاستعمارية نحو الحبشة توجس أولئك الذين يشفقون على حرياتهم وحريات الشعوب الآمنة شراً، واستشعروا الخطر الاستعماري جاثماً وراء تأكيدات رومة بأنها لا تبغي من وراء اهباتها العسكرية سوى الدفاع عن أملاكها الأفريقية. ولم تمض أشهر قلائل حتى صدق الظن ووثبت إيطاليا بالحبشة وثبتها المعروفة، واستشهدت ضحية جديدة من ضحايا الاستعمار.

وكان لهذه المأساة الاستعمارية في مصر وقع خاص؛ ولم يكن ذلك فقط لأن مصر ترتبط مع الحبشة بروابط تاريخية قديمة، ولها في الحبشة نفوذ ديني خاص بواسطة كنيستها القبطية، ومنابع نيلها تقع في الحبشة، ولكن لأن مصر شعرت على الأخص بأن خطراً استعمارياً جديداً قد استقر على مقربة منها ومن سودانها ونيلها، وأن الفاشستية الطموحة المتوثبة قد أصبحت تطوق وادي النيل من ناحيتيه، وأن استشهاد الحبشة على هذه الصورة المروعة إنما هو عبرة يجب أن يكون لها بالغ الأثر.

وقد كانت المعاهدة المصرية الإنكليزية التي عقدت في 26 أغسطس سنة 1936 نتيجة محتومة لهذه المأساة؛ ولم يكن في وسع مصر وبريطانيا العظمى أن يتجاهلا أهمية ذلك التطور الخطير في أحوال وادي النيل؛ ولم يكن في وسعهما أن يمضيا بعد في نزاع طال أمده، وأن يغفلا بذلك عن الخطر الذي تواجهانه معاً؛ ومن ثم كان عقد المعاهدة المصرية الإنكليزية عملاً حكيماً من الجانبين، وكانت ضرورة أملتها الظروف والحوادث. والآن تبدو أهمية التحالف بين مصر وبريطانيا العظمى؛ فتطور الحوادث في البحر الأبيض المتوسط، وحالة التوتر التي تسود علائق الدول الفاشستية والدول الديمقراطية، والكدر الذي يشوب علائق إيطاليا وبريطانيا، وما تبديه الفاشستية الإيطالية من بوادر التحفز والطموح، وما تقوم به من الأهبات العسكرية في جزيرة بانتلاريا الواقعة بين تونس وصقلية، وفي جزيرة رودس، وما تحشده من القوات الجرارة في طرابلس على مقربة من الحدود المصرية: كل أولئك يجب أن يلفت الأنظار، ويثير الريب، ويقضي على أولئك الذين تعنيهم هذه الحالة أكثر من سواهم بالتيقظ والحذر والاستعداد.

ولا ريب أن مصر في مقدمة الدول التي يجب أن تعنى بهذه التطورات؛ بل هنالك ما يدل على أنها ليست بعيدة عنها، وأنها لا تستطيع أن تطمئن إليها؛ وليس ذلك فقط لأن الحوادث قد جمعت بين مصر وبريطانيا العظمى، ووثقت بينهما في جبهة صداقة وتحالف دائمين، ولأن الفاشستية الإيطالية في خصومتها لبريطانيا العظمى لا بد أن تقصد إلى خصومة مصر في نفس الوقت باعتبارها حارسة لشريان من أهم شرايين الإمبراطورية البريطانية: نقول ليس ذلك فقط، بل كذلك لأن الفاشستية الإيطالية ليست بعيدة عن التفكير في مصر لذاتها.

إن الفاشستية الإيطالية تضطرم اليوم بأعظم الأحلام الإمبراطورية، وترتد ببصرها إلى الإمبراطورية الرومانية؛ وليست مصر في نظرها إلا كطرابلس ولاية رومانية سابقة. وما زلنا نذكر إشارة السنيور موسوليني في إحدى خطبه أيام الحرب الحبشية إلى مصر وقوله إنها كانت أهراء الغلال لرومة، والفاشستية ترنو في حلمها الإمبراطوري إلى مصر، ولا سيما بعد استيلائها على الحبشة. وقد دللت على ذلك في مواطن عديدة ومناسبات كثيرة وهي تحاول منذ أعوام أن تقوي نفوذها ودعايتها في مصر بمختلف الوسائل؛ وسواء أكانت الفاشستية ترنو إلى مصر من خلال خصومتها لإنكلترا، أو كانت تقصد إليها بالذات كحلم استعماري رائع يمكن تحقيقه، فان الذي لا ريب فيه هو أن مصر تواجه اليوم مرحلة من أدق مراحل تاريخها.

ولقد توالت من خلال هذا القلق الشامل تصريحات المقامات المسئولة في رومة بأن إيطاليا الفاشستية لا تضمر شراً لمصر ولا يمكن أن تفكر في الاعتداء عليها، وأنها بالعكس تشعر نحوها بأكرم عواطف الصداقة والود؛ وأما الجيوش الجرارة التي تحشد في برقة، وأما الأهبات العسكرية الهائلة التي تتخذ هنالك على مقربة من الحدود المصرية، فليست سوى إجراءات تحفظية تقرر اتخاذها منذ بعيد. هكذا نسمع من رومة بين حين وآخر، وهكذا أكد لنا السنيور موسوليني نفسه في حديث أفضى به منذ أسابيع قلائل، وهكذا يؤكد ممثل إيطاليا في مصر للحكومة المصرية كلما أبدت دهشتها وتساؤلها من سير الأحوال في برقة.

بل هنالك ما هو أكثر من ذلك، وهو أن الحكومة الإيطالية عرضت أكثر من مرة، وما زالت تعرض بواسطة ممثلها في مصر على الحكومة المصرية أن تعقد معها ميثاق صداقة وعدم اعتداء. ويقال إنها تقدمت إلى الحكومة المصرية بمثل هذا العرض حتى قبل أن تعقد المعاهدة المصرية الإنكليزية.

ومصر تغتبط بلا ريب بمثل هذه التأكيدات الودية من جانب حكومة رومة، وتود لو أنها تستطيع أن تؤمن بها وتطمئن إليها.

ولكن مصر لا تستطيع أن تؤمن ولا أن تطمئن؛ ولها في ذلك أكبر العذر؛ فالتاريخ يعيد نفسه دائماً، وشواهد الماضي قرائن الحاضر؛ ولإيطاليا الحديثة في نقض المواثيق والعهود تاريخ متصل لم تنقطع حلقاته حتى اليوم؛ وهو يدل دلالة واضحة على أنه إذا كانت إيطاليا الحديثة الناشئة قد آثرت مدى نصف قرن أن تجري على سياسة انتهاز الفرص ونقض العهود، فإن إيطاليا الفاشستية التي تجيش بمختلف المطامع والأماني لا يمكن أن تكون أحفظ للعهد وأجدر بالثقة والاطمئنان.

وإليك منطق التأريخ الحاسم: لم تكد إيطاليا الفتية تستكمل وحدتها واستقلالها في أواخر القرن الماضي حتى أخذت تساورها نزعة الاستعمار والتوسع، وتلتمس لتحقيقها جميع الخطط والوسائل؛ وكانت تتردد يومئذ بين فرنسا وألمانيا لترى أي الناحيتين أكفل للغنم؛ وكان وزيرها الشهير كرسبي رجل المطامع والمغامرات، بل يمكن أن يقال إنه هو الذي وضع أسس سياسية التوسع التي تنزل إيطاليا إلى ميدانها اليوم. فلما احتلت فرنسا تونس في سنة 1880 اضطرمت إيطاليا سخطاً لأنها كانت تطمع في احتلالها؛ وتحول كرسبي إلى ألمانيا خصيمة فرنسا يخطب ودها، وانتهى الأمر بدخول إيطاليا في المحالفة الثنائية الألمانية النمسوية التي غدت المحالفة الثلاثية من ذلك الحين (سنة 1882) ثم تجددت في سنة 1887؛ ولبثت قائمة حتى نشوب الحرب الكبرى.

ولكن ما الذي حدث عند نشوب الحرب الكبرى؟ التمست لإيطاليا الوسيلة لنقض عهود تحالفها مع الدول الوسطى والتزام الحيدة أولاً، ولم يمض عام حتى انقلبت إلى الحلفاء. ثم انضمت إليهم وأعلنت الحرب على حليفتيها القديمتين لتشترك مع الحلفاء في تحطيم الإمبراطورية النمسوية والاستيلاء على نصيبها من أسلابها.

وحصلت إيطاليا على نصيبها من أسلاب الدول المهزومة؛ وكانت أوفر الحلفاء حظَّاً في أوربا لأنها فضلاً على الفوز بتحطيم الإمبراطورية النمسوية جارتها القوية وخصيمتها القديمة، استولت على التيرول الجنوبي واستيريا ودلمانيا، وكفلت بذلك حدوداً منيعة في الشمال والشرق.

ثم قامت الفاشستية الإيطالية ولم يرضها ما حصلت عليه لإيطاليا من أسلاب الحرب، بل اعتبرته غبناً لها وانتقاصاً لحقوقها فشهرت سياستها المعروفة في سبيل التوسع الاستعماري، وعززتها بالتسلح والأهبات العسكرية العظيمة، وأخذت تترقب الفرص لتحقيق مشاريعها وأمانيها.

وكانت لإيطاليا قد عقدت منذ سنة 1906 معاهدة ثلاثية مع بريطانيا العظمى وفرنسا تقضي بالعمل المشترك بينها لحماية أراضيها ومصالحها في شرق أفريقية، وتنص على وحدة الحبشة واستقلالها مع التنويه بمصالح إيطاليا في الحبشة؛ وجددت هذه المعاهدة في سنة 1925. وفي سنة 1928 عقدت إيطاليا مع الحبشة معاهدة صداقة وتحكيم، وجددت عهودها للحبشة باحترام استقلالها ووحدتها، وكانت إيطاليا من أشد المؤيدين لدخول الحبشة عصبة الأمم.

ولكن الفاشستية الإيطالية كانت في الوقت الذي تقطع فيه على نفسها هذه العهود والمواثيق تتحين الفرص، وتدبر اعتداءها سراً على الحبشة، حتى إذا سنحت الفرصة نفذت مشروعها الاستعماري على مرآي ومسمع من العالم، ولم تبال بمواثيق أو عهود، وسخرت من كل اعتراض أو احتجاج، وتم لها ما أرادت من القضاء على حريات أمة آمنة مستقلة.

ولما اضطرمت الحرب الأهلية الأسبانية ظهرت إيطاليا الفاشستية من وراء الثوار تشد أزرهم وتذكي أوار الحرب بجنودها وسلاحها، وما زالت تمضي في سياستها حتى اليوم تنفيذاً لمآرب ومشاريع استعمارية تبغي اجتناءها. ولما نظمت اليابان اعتداءها الأخير على الصين بادرت إيطاليا بإظهار عطفها وتأييدها لليابان المعتدية لأنها تسير في نفس السياسة الاستعمارية التي تسير عليها.

هذا هو ماضي إيطاليا، وهذا هو حاضر الفاشستية الإيطالية في نقض العهود والمواثيق وتمزيق المجتمعات، وفي ترقب الفرص غير المشروعة وتنظيم الاعتداءات الاستعمارية.

والواقع أن الفاشستية الإيطالية لا تنكر جنوحها إلى هذه الخطط، فهي تنادي علناً بأن الحق للقوة وحدها، وتسخر من كل عهد أو ميثاق أو حق لا تؤيده القوة، وهي تجري على سياسة مكيافيلية خالصة تبرر لتحقيق الغاية كل الوسائل.

فكيف تستطيع مصر بعد ذلك كله أن تثق بتأكيدات رومة الودية وتطمئن إليها؟ إن التاريخ يعيد نفسه دائماً، ومصر ترجو ألا تكون ميداناً للوثبة القادمة.

ومصر لا يمكن أن تطمئن إلا لنفسها ومقدرتها على الدفاع عن كيانها، وهي تشعر شعوراً صادقاً بالخطر الذي يلوح لها في الأفق؛ ولكن مصر تثق أيضاً في مستقبلها وطالعها، وتعتزم ألا تسمح لأحد بالاعتداء عليها. ومن حسن الطالع أنها تستطيع أن تعتمد في مثل هذا الظرف على معونة صديقتها وحليفتها العظيمة بريطانيا العظمى. ومن حسن الطالع أن مصلحة مصر ومصلحة بريطانيا تتفقان هنا وتمتزجان؛ فالاعتداء على مصر يكون في نفس الوقت اعتداء على ما تعتبره بريطانيا مركزاً حيوياً لمواصلاتها الإمبراطورية.

على أن مصر يجب أن تعمل منذ الآن للاعتماد على نفسها قبل كل شئ، فنحن في عصر القوة لا في عصر الحق، ويجب أن تتذرع الأمم للذود عن حرياتها وكيانها بكل ما تدخر من القوى المادية والمعنوية؛ وهذا ما ستفعله مصر بلا ريب.

ثم إننا نؤمن من جهة أخرى بأن هذه النظم الطاغية والخطط الاستعمارية الباغية التي تصول اليوم في ميدان القوة والعدوان سوف تنهار متى وقع الاصطدام الحقيقي؛ هذا إذا لم تسارع قبل ذلك إلى تمزيق نفسها بنفسها.

(* * *)