مجلة الرسالة/العدد 231/بين القاهرة واستنبول
→ ثورة على الأخلاق | مجلة الرسالة - العدد 231 بين القاهرة واستنبول [[مؤلف:|]] |
في التاريخ السياسي ← |
بتاريخ: 06 - 12 - 1937 |
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 2 -
من دمشق إلى القسطنطينية
يا صديقي الزيات:
لعل رسالتي التي حدثتك فيها بطرف من أحاديث دمشق قد بلغتك، وهذه رسالة أخرى أطرفك فيها ببعض ما وعت النفس من مشاهد الطريق بين دمشق والقسطنطينية. وأرجو أن أواصل الرسائل من بعد:
ترددت برهة كيف آخذ طريقي من دار الأمويين إلى دار البيزنطيين. أأركب إليها البحر من بيروت وأرجع من طريق البر، أم أخترق اليبس إلى غايتي؟ وكنت ركبت السفينة بين الإسكندرية والقسطنطينية مرتين قبلاً، فقلت لنفسي: ماذا تفيدين من رؤية ما رأيت، وحافظ الشيرازي يقول:
من جرّب المجرّب ... حلت به الندامة
وماذا تُجدي عليك رؤية الدأماء صباح مساء؟ لجة واحدة وأمواج متشابهة، كأنها ساعات الزمان في بحر العمر!
صح العزم على سفر البر، فخرجت من دمشق بعد ظهر الثلاثاء 19 جمادى الأولى (27 تموز) في سيارة أعدتها شركة السكك الحديدية لإبلاغ المسافرين حمص ليركبوا منها سكة الحديد إلى حلب. وقد ابتليت برفقة ليس بيني وبينهم سبب فأرحت لساني وأذني، وسرّحت طرفي في الفضاء، وفكري في مسارح لا تحد بين الماضي والحاضر، والقريب والبعيد. وكان للسيارة سوّاق ذكرنا بقول القائل: (قد لفّها الليل بسوّاق حُطم) فانطلق بنا لا يألو إسراعاً حتى يكاد الماء في جوف السيارة يشتعل، فيقف ريثما يفثأ الماء، والطريق أكثرها صحراء جرداء تسايرها جبال وتلال، وتزينها بين الحين والحين قرى ومدن ومشاجر ومياه، ولا سيما قرب حمص. ولم نقف على الطريق إلا في النبك لبثنا فيه قليلاً.
هذه حمص بعد سبع سنين ولات حين تلبث. إن الوقت لا يمهلك حتى لزيارة خالد الوليد فاصبر حتى تعود أدراجك من هذه الطريق فتقضي حق العين والفؤاد من هذه المشاهد.
بعد قليل جاءت من طرابلس عربة كعربة ديزل المعروفة في مصر، وتسمى في الشام باسمها الفرنسي (أوتومتريس) أخذت مكاني بها وانطلقت سريعة تطوي ما بين حمص وحلب، والطريق هنا أكثر ماء وشجراً وزرعاً. وفي الطريق لاحت حماة في زينات من شجرها ومائها، ونغمات نواعيرها منثورة في السهل تدور بالماء والماء بها يدور لا تفتر نهاراً ولا ليلاً وتذكرت قول القائل:
ناعورة مذعورة ... للبين حيرى سائرة
الماء فوق كتفها ... وهي عليه دائرة
وتذكرت أني حين قرأت هذين البيتين في المدرسة ظننت الناعورة هي الساقية بلسان أهل مصر، ثم عرفت فرق ما بينهما حين ذهبت إلى الشام أول مرة. ومن رأى نواعير الفيوم فقد رأى صورة صغيرة من نواعير الشام الماثلة في الفضاء على نهر العاصي عالية رائعة.
وبلغنا حلب بعد الساعة الثامنة من المساء فقصدت إلى فندق البارون. اضطرني إليه، على نفرتي من هذه الأسماء الإفرنجية في البلاد العربية، أني أُنزلت به مرة، ولم أعرف من فنادق حلب غيره. وقضيت به بقية الليل. وأصبحت مبكراً إلى القطار قطار الشرق السريع. لم أر في حلب شيئاً ولم ألاق بها صديقاً. وسأعود إلى حديث حلب وحمص في رجوعي إلى الشام إن شاء الله.
وجاء القطار الفخم قد كتب عليه بالفرنسية والتركية ذات الحروف اللاتينية: (قطار الشرق السريع) وما سألت أحد عمال القطار عن عربات النوم فقال لصاحب له بالتركية: (دلّه عليها) فقلت: هذا أول العُجمة وطلائع الغربة.
أخذت مكاني بالقطار موّطناً النفس على السفر ستاً وثلاثين ساعة، ورفيقي فكري وخيالي وديوان البحتري. سار القطار والساعة سبع من الصباح، وكان شريكي في المقصورة إنكليزياً ذاهباً من العراق إلى بلده في إجازة قصيرة، ولكني وجدت عن ملازمته ميلاً ومندوحة في مقصورة أخرى خالية خلوت فيها بصاحبي البحتري. وسأحدث القارئ حديثه بعد؛ على أني لم أذمم من الإنكليزي الشيخ صحبة، وكنت ألقاه حيناً فحيناً فنتحدث ونتفكه، وكنت أجده جالساً وبجانبه عدة السفر من البيبة والسجائر والكتب. ولست أنسى رثائي له حينما أضل منظاره فاضطرب حيناً يبحث عنه، ثم جلس كئيباً يقول: أني لا أستطيع القراءة بدونه، وكيف أقطع الطريق إلى لندرة بغير قراءة؟ إنه منظار ثمين، إنه يلائم عينيّ؛ ثم يهيج فيتهم خادم القطار بالسرقة؛ وييأس، فأعيد الأمل في نفسه، فيعود يبحث عنها وأبحث معه. وجاء الخادم يقول: لعلها في حقيبتك. ففتح الحقيبة مغضباً وأخرج ما فيها من ورق وقال للخادم بالإنكليزية - وهو عالم أنه لا يعرف منها كلمة -: أنظر! أنجدها هنا؟ أأنت على يقين أنها ليست هنا؟ أمطمئن أنت إلى أنها ليست هنا؟ ثم رجعت إليه بعد حين فإذا هو متهلل الوجه مسرور، فلما رآني وثب يريني كيف أنزلق منظاره وراء الباب وكيف وجده، فشاركته السرور وأعدنا الحديث عنه ضاحكين بعد أن أطلنا الحديث عنه آسفين. . .
وبعد ساعتين من حلب دخلنا إقليماً جبلياً مشجراً تخلل القطار فيه أنفاقاً كثيرة متعاقبة على سفوح الجبال حتى بلغنا ميدان أقبس على الحدود بين سورية وتركية، والساعة تسع وخمسون دقيقة، فوقف القطار زهاء نصف ساعة. وجاء موظف تركي فسأل: من أين؟ قلت: من مصر. قال: إلى أين؟ قلت: استانبول. قال: أمعك أشياء للجمرك؟ قلت: لا. قال: كم معك من النقود التركية؟ قلت: قليل لا يتجاوز كذا. قال: مع السلامة.
وبلغنا، والساعة ثلاث ونصف، محطة أسمها مصيص. قلت لنفسي: هذه ولا ريب المصيصة التي كانت ثغراً بين البلاد الإسلامية وبلاد الروم زمناً طويلاً. هنا نهر جيحان، وهنا مغازي سيف الدولة؛ وفي هذا الإقليم وما يجاوره نظم المتنبي ما نظم من قصائده. أليس يقول أبو الطيب لسيف الدولة:
سريت إلى جيحان من أرض آمد ... ثلاثاً لقد أدناك ركض وأبعدا
ومن قبل قال عديّ بن الرقاع العاملي:
فقلت لها كيف اهتديت ودوننا ... دُلوك وأشراف الجبال القواهر
وجيحانُ جيحانُ الملوك وآلس ... وحَزن خزارى والشعوب القواسر
أجل وهنا أطراف العواصم التي يفيض بذكرها التأريخ والشعر.
وسرنا بعد المصيصة ثلاثين كيلا شطر الغرب فاتسع السهل وانتشرت الخضراء ووافينا أطنة والساعة أربع. ندع حديث أطنة وما يليها إلى العودة، ونسير إلى الشمال زهاء ساعة فنوافي جبال طوروس، وما أعظمها منظراً جميلاً رائعاً هائلاً: سفوح مخضرة يصعّد فيها الطرف حتى يبلغ قمماً شاهقة تكاد العين تقصر دونها، قمم متنافسة متسامية إذا صعد البصر إلى إحداها انزلق على السفح ليرقى في سفح آخر إلى قمة أخرى، وإذا أسفَّ النظر إلى الحضيض فهناك الأودية العميقة السحيقة يهول الناظر عمقها ويروقه بين الحين والحين مياه تجري مسرعة مزبدة متعرجة كأنها الأراقم راعها القطار فانسابت إلى مجاحرها. وتتوالى مرائي طوروس في جمالها وجلالها واختلاف ألوانها وارتفاعها واستقالها وما يشغل العين والفكر من صورها، والقطار على السفح موف على هذه الأودية الهائلة يصعد متمهلاً وينبهر أحياناً فيقف زاحراً زافراً لا يقوى على المرتقى. فإذا أعد العدة من مائه وناره وبخاره عزم فصعد جاهداً مجهوداً. وبعد نصف ساعة على هذه السفوح تعاقبت أنفاق لبث القطار فيها نحو عشرين دقيقة كلما بشرّ الضوء بانتهاء أحدها أقبل الآخر في ظلامه يلتهم القطار.
ومن بدائع الجناس أو المقابلة في هذا الجمال البديع أذواد من الإبل في أودية طوروس، لم تذهب بجمالها وروائها مناظر الجبال العظيمة؛ وأما سرب المعزى الذي رأيته هناك فلا أدري من أي أنواع البديع مرآه هناك.
وتوالت ذِكَرُ الآل والأصحاب فإذا لساني يترنم بهذه الأبيات:
ذكرتك إذ طوروس في اللُّوح مُصعِد ... يظلّ بأهداب السحاب يُعمَّم
يطير بيَ الإعجاب بين سفوحه ... وقماته والقلب فيه مقسَّم
ويفزع من وديانه كل ناظر ... ويحتار فيه الطرف كيف ييّمم
جمال ترود العين بين رياضه ... عليه جلال بالمهابة مفعم
فأيقنت أنْ ذكراك أروع مشهداً ... وأجمل من طوروس عندي وأعظم
وانتهى بنا الإصعاد إلى مكان أسمه أولوقشلة وهو أعلى موضع في طريق طوروس؛ وبعده بقليل تلتقي الطريقان: الطريق الآتية من أنقرة، والآتية من قونية.
وجن الليل وبات القطار يسري فأصبحنا عند أنقرة والساعة سبع من الصباح: وأستأذنك يا صديقي أن أطوي المسافة بين أنقرة واستنبول والحديث عنها إلى العودة فكان فقد نصيبي من هذه الديار في عودتي أوفر، وأنسي بها أطول، ثم أخشى أن تمل الحديث الطويل والرسالة المسهبة. فسلام عليك إلى أن أكتب إليك.
استنبول 30 تموز
عبد الوهاب عزام