مجلة الرسالة/العدد 231/إلى أخي النازح إلى باريز!
→ مسكين | مجلة الرسالة - العدد 231 إلى أخي النازح إلى باريز! [[مؤلف:|]] |
أطراف من تاريخ الملابس عند المسلمين ← |
بتاريخ: 06 - 12 - 1937 |
للأستاذ علي الطنطاوي
(هذا الذي أقوله لأخي، يقال لكل طالب مسلم يدرس في
أوربة)
(ع)
يا أخي!
لمّا دخلت (مسابقة البعثة) أمّلت لك بالفوز لما عوّدك الله من التوفيق والمعونة، وخفت عليك الخيبة لأن (الوزارة) لا تريد إلا مبعوثاً واحداً في (العلوم الرياضية) من سورية كلها، وأنى لك أن تكون ذاك الواحد؟
ولما ظهرت النتيجة، وكنت أنت الناجح في (فرع الرياضة)، وكنت ناجح في (الطبيعة) أيضاً، حمدت الله على هذه المنة، وذهبت أستعجلك بالسفر.
ولما عزمت أعددت لك ما تريد وأنا فرح مستبشر مسرور
كنت مسروراً لأني أعلم أنك ذاهب تطلب العلم، وتخدم الوطن، وتقوم بالواجب.
ولكن لم يكد يتحقق الأمر، ويأزف الرحيل، الباخرة الفخمة (ماربيت باشا) رابضة حيال المرفأ (في بيروت) تسطع أنوارها وتتلألأ، وألقي نظري على هذا البحر الهائل الذي يمتد في الفضاء أسود مثل الليل، حتى يغيب في السماء، أو تغيب فيه السماء. . . لم أكد أرى ذلك حتى أدركت الحقيقةالواقعة، وعلمت أنك مودع نازح، فغلبت علىّ العاطفة، وفاضت نفسي رقة وحناناً.
لم أستطع أن أودّعك، ولم أقوَ على رؤيتك وأنت في الباخرة، ماخرة بك عباب أليمّ، تنأى بك عني، حتى تصير نقطة صغيرة على شاطئ الأفق، ثم تنحدر إليه، وتختفي وراءه، وتختفي أنت معها، وتصبح في نظري عدماً، لأني لا أحس لها وجوداً. .
والوداع - يا أخي - جماع آلام الحياة وأساسها ومصدرها، وأشد ألوان الوداع وآلمها وأمرّها وداعٌ في البحر، ذاك الذي لا يطيقه ذو قلب. .
ودعتك وداعاً عادياً، ولبثت في مدرستي ألقي درسي وأنا هادئ الجوارح ساكن الطائر، ولكن في القلب مني زلزلة، وفي الأعصاب ناراً. . .
حتى إذا عاد أخوك ناجي الذي صحبك إلى الباخرة فخبرني أنك سرت (على أسم الله)، أحسست كأن قلبي قد هبط من هذا الزلزال كبناء هوى، وأن هذه النار قد تركت أعصابي رماداً منطفئاً فسقطت على كرسي. . . لا أدري فيم هذا الضعف، ولا أحبه في نفسي، ولكني أدري أني أتخيلك الآن وحيداً فريداً لا ترى حولك قريباً ولا صديقاً، تطل من شرفة الباخرة فلا ترى إلا السماء والماء، وقد أخذك دوار البحر فلم تجد معيناً ولا مسعفاً. وأتصورك في ذلك البلد الغريب الذي لا ترى فيه إلا وجوهاً تنكرها، وأنت الذي لم يفارق أهله قط، ولم يغب عن بيته ليلة، ولم يسافر وحده أبداً. . . فلذلك ما أحزن، وفي ذلك أفكر.
ولكنها - يا أخي - خطيئة تربيتنا الاتكالية. لو أن آباءنا عودونا، ولو أنا عوّدناك على الحياة الاستقلالية الصحيحة، وتركناك وأنت في الثانية عشر تذهب وحدك وتعود وحدك، وعودناك حمل التبعات وأيقظنا فيك شخصيتك ولم ندعها ضائعة في شخصياتنا، ودفعناك إلى استثمار مواهبك ولم نتركها معطلة، ولو فعلنا ذلك وأنت في الثانية عشرة لما خفت عليك السفر وحدك إلى باريز وأنت في طريق العشرين!
يا أخي.
إنك تمشي إلى بلد مسحور (والعوذ بالله)، الذاهب إليه لا يؤوب، إلا أن يؤوب مخلوقاً جديداً وإنساناً آخر غير الذي ذهب. . . يتبدل دماغه الذي في رأسه، وقلبه الذي في صدره، ولسانه الذي في فيه؛ وقد يتبدل أولاده الذين هم في ظهره إذا حملهم في بطن أنثى جاء بها من هناك!
إي والله يا أخي، هذه حال أكثر من رأينا وعرفنا (إلا من عصم ربك)، يذهبون أبناءنا وإخواننا وأحباءنا، ويعودون عداةً لنا، دعاةً لعدونا، جنداً لاستعمارنا. . . لا أعني استعمار البلاد، فهو هيّن لين، ثم إننا قد شفينا منه بحمد الله أو كدنا. . .
وإنما أعني استعمار الرؤوس بالعلم الزائف، والقلوب بالفنّ الداعر، والألسنة باللغة الأخرى، وما تبع ذلك من الارتستات والسينمات وتلك الطامات، من المخدرات والخمور، وهاتيك الشرور. . .
فانتبه لنفسك واستعن بالله، فإنك ستقدم على قوم لا يبالي أكثرهم العفاف، ولا يحفل العرض. سترى النساء في الطرقات والسوح والمعابر يعرضن أنفسهم عرض السلعة، قد أذلتهن مدنية الغرب وأفسدتهن، وهبطت بهن إلى الحضيض، فلا يأكلن خبزهن إلا مغموساً بدم الشرف، وأنت لا تعرف من النساء إلا أهلك، مخدرات معصومات كالدّر المكنون، شأن نساء الشرق المسلم، حيث المرأة عزيزة مكرّمة، محجوبة مخدرة، ملكة في بيتها، ليست من تلك الحطة والمذلة في شئ. . . فإياك أن تفتنك امرأة منهن عن عفتك ودينك، أو يذهب بلبك جمال لها مزوّر، أو ظاهر خدّاع. هي والله الحيّة: ملمس ناعم، وجلد لامع، ونقش بارع، ولكنّ في أنيابها السمّ. . . إياك والسم!
إن الله قد وضع في الإنسان هذه الشهوة وهذا الميل، وجعل له من نفسه عدوّاً (لحكمة أرادها)، ولكنه أعطاه حصناً حصيناً يعتصم به، وسلاحاً متيناً يدرأ به عن نفسه، فتحصن بحصن الدين، وجرد سلاح العقل توَقّ الأذى كله. . . واعلم إن الله جعل مع الفضيلة مكافأتها: صحة الجسم، وطيب الذكر، وراحة البال؛ ووضع في الرذيلة عقابها: ضعف الجسد، وسوء السمعة، وتعب الفكر، ومن وراء ذلك الجنة أو الجهنم. . .
فان عرضت لك امرأة بزينتها وزخرفها فراقب الله، وحكم العقل، وأذكر الأسرة والجدود. . . لا تنظر إلى ظاهرها البراق بل أنظر إلى نفسها المظلمة القذرة وماضيها الخبيث المنتن، أتأكل من إناء ولغت فيه كل الكلاب؟؟
يا أخي!
إن في باريز كل شئ: فيها الفسوق كله، ولكن فيها العلم. فان أنت عكفت على زيارة المكتبات وسماع المحاضرات وجدت من لذة العقل ما ترى معه لذة الجسم صفراً على الشمال (كما يقول أصحابك الرياضيون)، ووجدت من نفعها ما يعلقك بها حتى ما تفكر في غيرها. فعليك بها، استق من هذا المورد الذي لا تجد مثله كل يوم. راجع وابحث وألّف وأنشر، وعش في هذه السماء العالية، ودعْ من شاء يرتعْ في الأرض، ويعش على الجيف المعطرة. . .
غير أنك واجد في ثنايا هذه الكتب التي كتبها القوم المستشرقون عن العربية والإسلام، وفي غضون هذه المحاضرات التي يلقونها، عدواناً كثيراً على الحق، وتبديلاً للواقع، فانتبه له واقرأ ما تقرأ وأصغ لما تسمع وعقلك في رأسك، وإيمانك في صدرك. لا تأخذ كل ما يقولون قضية مسلمة وحقيقة مقررة، فالحق هو الذي لا يكون باطلاً، وليس الحق ما كان قائله أوربياً فانظر أبداً إلى ما قيل، ودع من قال!
ثم إنك سترى مدينة كبيرة، وشوارع وميادين، ومصانع وعمارات. . . فلا يهولنك ما ترى، ولا تحقر حياله نفسك وبلدك كما يفعل أكثر من عرفنا من روّاد باريس. وأعلم أنها إن تكن عظيمة، وإن يكن أهلها متمدنين، فما أنت من سودان أفريقية ولا بلدك من قرى التبّت. . . وإنما أنت أبن المجد والحضارة، أبن الأساتذة الذين علموا هؤلاء القوم وجعلوهم ناساً، أين الأمة التي لو حذف أسمها من التاريخ لآض تأريخ القرون الطويلة صحفاً بيضاً لا شئ فيها، إذ لم يكن في هذه القرون بشر يدوّن التاريخ تاريخه سواهم. . . فمن هؤلاء الذين ترى؟ إنما هم أطفال أبناء أربعة قرون، ولكنّ أمتك بنت الدهر لما ولد الدهر كانت شابة، وحين يموت الدهر تكون شابة. . .
لا. لا أفخر بالعظام البالية، ولا أعتز بالأيام الخالية، ولا أذكر لك الماضي لتقنع به وتنام، ولكن أذكره لك لأهز فيك نفسك العربية المسلمة، لأستصرخ في دمك قوى الأجداد التي قتلت وأحيت، وهدمت وبنت وعلمت، واستاقت الدهر من زمامه فانقاد لها طيعاً. . . إن هذه القوى كامنة في عروقك، قائمة في دمك، فليفُر هذا الدم وليثر ويضطرم تظهر ثانية وتعمل عملها.
لا تقل: ماذا يصنع طالب مثلي ضعيف في أمة قوية، فإن الأندلس المسلمة كانت بالنسبة لعصرها أقوى، وكانت روادها من طلاب الفرنجة أضعف، ولكنهم استطاعوا على ضعفهم أن يضعوا (هذه القوة) التي تعجب بها أنت، ويذوب فيها دين غيرك وخلقه. . . إن الدهر يا أخي دولاب، والأيام دول. وإن في الشرق أدمغة، وفي الشرق سواعد، وفي الشرق مال، ولكن ينقص الشرق العلم فاحمله إليه أنت وأصحابك، وعودوا إلى الشرق شرقيين معتزين بشرقيتهم الخيرة العادلة، كما يعتز الغربيون بغربيتهم الظالمة الطاغية. واعلموا أن مهمتكم ليست ورقة تنالونها، قد تنال بالغش والاستجداء والسرقة. . . ولكن مهمتكم أمة تحيونها.
يا أخي!
إذا وجدت واسعاً من الوقت فادرس أحوال القوم وأوضاعهم في معايشهم وتجارتهم وصناعتهم ومدارسهم، وابحث عن أخلاقهم ومعتقداتهم، على أن تنظر بعين الناقد العاقل الذي يدّون الحسنة لنتعلمها، والسيئة لنتجنبها. ولا تكن كهؤلاء الذين كتبوا عن باريز من أبناء العرب، فلم يروا إلا المحاسن والمزايا، ولا كأولئك الذين كتبوا عن الشرق من أبناء الغرب، فلم يبصروا إلا المخازي والعيوب، ولكن كن عادلاً صادقاً أميناً.
وإياك وهذه الحماقة التي يرتكبها بعض الكتاب من الفرنجة حين يهرفون بما لا يعرفون، ويقولون ما لا يعلمون، كهذا الأخرق الصفيق الذي عمل أطروحة موضوعها (الحج) قدمها إلى جامعة كبرى وهو يجهل العربية، ولا يعرف أي كتاب من كتب المسلمين بحث في الحج، وإنما جمع الأخبار من الصحف ومن أفواه العامة؛ وكتب في نظام الريّ في الغوطة، وزعم أنه وفّى البحث وأتمّه، وهو لا يعرف منه إلا ما خبره به ثلاثة فلاحين لقيهم في قرية ذهب إليها، مع أن نظام الريّ في الغوطة لا يكاد يعرفه في دمشق إلا نفر قليل. . . وذاك الذي كان معلماً أولياً في بلده فصار عندنا مدير دار المعلمين العالية، فذهب مع طلابه إلى ظاهر دمشق، فمشى ينظر على جانبي طريق (الربوة) هناك وهناك. . . فوجد في الجبل أثراً للماء، فقال: من أين جاء هذا الماء؟ لا بدّ أن يكون جاء من بردى، إذ لا ماء في دمشق إلا من بردى. فماذا تكون نتيجة البحث (البحث العلمي) في هذه المسألة؟ هي أن بردى كان يصل إلى هنا. . . إذن فقد كان عرض بردى في الماضي أربعمائة متر. . . وانطلق يقرر دائماً هذه الحقيقة!
وبعد يا أخي، فأعلم أن أثمن نعمة أنعمها الله عليك هي نعمة الأيمان، فاعرف قدرها، واحمد الله عليها، وكن مع الله ترَ الله معك وراقب الله دائماً، وأذكر أنه مطلع عليك، يعصمْك من الناس ويُعذْك من الشيطان، ويوفقْك إلى الخير.
وفي اللحظة التي تشعر فيها أن دينك وأخلاقك في خطر، احزم أمتعتك وعد إلى بلدك، وخلّ (السوربون) تَنْعِ من بناها. . . وانفض يدك من العلم إن كان لا يجئ إلا بذهاب الدين والأخلاق. . .
أستودع الله نفسك ودينك وأخلاقك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
علي الطنطاوي