الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 231/أطراف من تاريخ الملابس عند المسلمين

مجلة الرسالة/العدد 231/أطراف من تاريخ الملابس عند المسلمين

مجلة الرسالة - العدد 231
أطراف من تاريخ الملابس عند المسلمين
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 06 - 12 - 1937


للعلامة المستشرق دوزي

للأديب محمد طه الحاجري

كاد فن صناعة الملابس أن يكون مجهولاً في العهود الإسلامية الأولى، يوم كان العرب كلهم بدواً إلا قليلاً، وكانت المدن صغيرة ضئيلة الخطر، فكانت الأردية البسيطة المفردة كافية في الوقاية من البرد والحر. وما كانوا يحسبون أن من الممكن أن تصنع الملابس على أسلوب رشيق، بل كان ناسج الثوب هو وحده الذي يقوم بالأمر. ولكن العرب حين فتحوا وشيكاً قسماً كبيراً من آسيا وأفريقية وأوربا، اتصلوا بالشعوب التي غلبوها، وكانت قد وصلت إلى درجة عالية من الحضارة، فلم يلبثوا أن تركوا شيئاً فشيئاً حياة البادية، وأخذوا يستقرون في المدن. وكذلك أدركوا أن في مكنتهم أن يصنعوا لأنفسهم ثياباً أرشق مما كانوا يلبسون، فأخذوا كثيراً من زي الشعوب التي غلبوها. ولما كانت مظاهر الترف قد تقدمت عند الفرس تقدماً عظيماً، فقد أحس بلاط بغداد إحساساً مطرداً بنفوذ جيرانه ورعاياه، كما أن تقدم الحضارة والتجارة أنشأ مصانع من كل نوع. وما أسرع ما ضمت بغداد عدداً عظيماً منها، كان مقدار ما فيها من الثياب الحريرية الفاخرة، والأقمشة المصفوفة بالذهب والفضة وما إليهما، يتضاعف مضاعفة مستمرة.

أما في المغرب فكان الأمر على العكس من ذلك، إذ اختلط العرب بالمراكشيين والبرابرة، وهم شعوب جافية، دون فاتحيهم في الحضارة، فكانت مظاهر الترف مجهولة لديهم، فأخذ العرب منهم إلى حد ما زيهم البسيط الغليظ.

أما في الأندلس فقد استخلص العرب لأنفسهم جزءاً كبيراً من زي الفرسان المسيحيين، ولا سيما في العهد الأخير من عهود ملكهم. ويصرح أبن سعيد بأن أقبية عرب الأندلس كانت تشبه أقبية المسيحيين. ويقول أبن الخطيب المؤرخ، وهو يتحدث عن محمد بن سعد بن محمد بن أحمد بن مردنيش المتوفى في النصف الثاني من القرن السادس الهجري: (وآثر زي النصارى من السلاح والملابس واللجم والسروج).

أما في مصر والشام فقد عانى الزي تغيرات عظيمة بسبب غارة الأتراك.

وقد أحدث امتزاج العرب بالأجانب أن وجد دائماً اختلاف كبير بين أزياء الشعوب المختلفة التي تكون الإمبراطورية العربية الشاسعة، حتى أنه ليستطاع لأول وهلة أن يميز عربي الشرق من عربي الغرب. ويقول أبن إياس، وهو يتحدث عن المؤرخ الشهير أبن خلدون: (واستقر لما تولى القضاء وهو بزي المغاربة فعد ذلك من النوادر) ويقول النويري وهو يروي وفاة الملك القاهر بهاء الدين أبي محمد عبد الملك بن الملك المعظم: (وكان يلبس ملابس العرب ويتزيا بزيهم ويركب كمركبهم ويتخلق بأخلاقهم في كثير من أفعاله) وحتى الذين يسكنون المدن القريب بعضها من بعض كانوا يختلفون في أزيائهم، فقد كتب أحد المغاربة - وسماه مارمول - يقول، حينما حرم فيليب الثاني على مغاربة الأندلس أن يلبسوا زيهم الوطني: (إن زي نسائنا ليس مغربياً بل هو زي مدني كما في قشتالة، وإن الشعوب الإسلامية في البلاد الأخرى لتختلف في أغطية الرأس وفي الثياب والأحذية. ومنذا الذي ينكر أن زي مراكشيات أفريقية والتركيات يختلف عما تلبسه نساؤنا في غرناطة؟ وكذلك تختلف أزياء الرجال، فليس زي فاس كزي تلمسان، وليس زي تونس كزي مراكش، وكذلك الأمر في تركيا والممالك الأخرى).

وهناك فوق ذلك اختلاف كبير في زي الطبقات المختلفة التي تتكون منها الجماعة الإسلامية حتى ليستطاع تمييز الرجل الخاصي من العامي والجندي من شكل العمامة على الأخص، وكذلك كانوا يعرفون بها المنصب الذي يشغله من يلقونه.

بيد أنه يجب ألا يؤخذ هذا القول بوجه عام إلا عند أهل المدن، أما البدو فقد احتفظوا تقريباً بالزي القديم، ولاحظوا تعاليم الدين أكثر من الحضريين.

ولقد حدث محمد (ص) أحاديث عديدة ليمنع مظاهر الترف في الثياب من أن تتغلغل في أمته، وقد استخلص فقهاء الإسلام من هذه الأحاديث نظاماً بالمبادئ والقوانين الخاصة بالزي، وسنعرضها هنا وفقاً لما جاءت به كتب الفقه الحنفي والمالكي.

إن وظيفة الملابس، على ما يقول كتاب ملتقى الأبحر، هي ستر العورة والوقاية من الحر والبرد؛ والأفضل أن تكون من القطن أو الكتان غير مغالى فيها ولا شديدة الرثاثة. وليس أخذ الزينة حراماً متى كان لإظهار نعم الله التي تفضل بها علينا. أما حين تصدر عن الكبرياء فانه ممنوع. وكثيراً ما أوصي عظماء العرب والفرس بالتواضع في هيئة اللباس، ويقول النويري، مثلاً، وهو يمدح صلاح الدين: (وكان لا يلبس إلا ما يحل كالكتان والقطن والصوف) ويقول في موضع آخر بمناسبة موت الأمير جمال الدين ايدغدي العزيز: (وكان مقتصداً على ملبسه يلبس الثياب القطن من الهندي والبعلبكي وغيره مما يباح ولا يكره لبسه) (راجع: , 56 , 58).

والحرير مباح للنساء محرم على الرجال إلا أن يتخذوا منه حاشية لثيابهم لا يتجاوز عرضها أربعة أصابع فذلك جائز لهم؛ ويرى البعض ألا تتجاوز إصبعيين؛ أما المالكية فيرون ألا يبلغ عرضها عرض إصبع واحد. وقد نهى النبي (ص) نهياً مشدداً عن الملابس الحريرية فقال: (من لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة) وقال: (إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة) ويجيز الحنفية للرجال أن يلبسوا ثياباً سداها من الحرير ولحمتها من غيره، وأما عكس هذا، أي أن تكون اللحمة من الحرير والسدى من غيره فلا يحل إلا في الحرب. ولا يتفق المالكية فيما بينهم في جواز لبس القماش المسمى بالخز، وهو ما سداه حرير ولحمته صوف، ولكن الأكثرين على منعه.

والأكثر استحباباً من الألوان الأبيض والأسود؛ أما الأبيض فلقول الرسول (ص): (إن الله يحب الثياب البيض وإنه خلق الجنة بيضاء).

ويقول مؤرخ أفريقي وهو يمدح عبد الرحمن الأول أول ملوك الأندلس: (كان يلبس البياض ويعتم به)، وأما الأسود فلأن محمداً (ص) كان يلبس يوم فتح مكة جبة سوداء وعمامة سوداء كذلك. أما الشيعة فعلى العكس من ذلك يحرمون السواد، إذ نقرأ في رحلات شردان ما يأتي:

(ولا يلبس الأسود في الشرق ولا سيما في فارس لأنه لون مشئوم بغيض لا يمكن النظر إليه، ويسمونه لون الشيطان) أما اللونان الأحمر والأصفر فمكروهان من غير أن نعرف سبب كراهيتهما؛ غير أني أفرض أن الأصفر مكروه لأنه لون البغض، والأحمر لأنه لون الدم. ومع هذا فكثيراً ما يلبس المسلمون ثياباً حمراء وصفراء. ويقول أبن جني والواحدي: إن الفتيات يلبسن عادة ملابس حمراء. أما الملابس الخضراء فلا يلبسها إلا أشراف سلالة الرسول (ص).

ويظهر أنه ليس بين الحنفية والمالكية والشافعية كبير خلاف في فصل الملابس، ولكن يظهر أن مذهب أبن حنبل، وهو أكثر المذاهب تشدداً، قد أبعد في التشدد في هذه المسألة.

وهو ذا ما جاء في تأريخ مصر للنويري (في حوادث سنة 716).

(وفي هذه السنة فوض قضاء قضاة الحنابلة بدمشق إلى شمس الدين أبي عبد الله محمد، ووصل إليه بتقليد القضاء من الأبواب السلطانية في يوم السبت ثامن صفر. وقريء بجامع دمشق بحضور القضاة والأعيان، وخرج القاضي شمس الدين المذكور من الجامع ماشياً إلى دار السعادة، فسلم على نائب السلطنة، ثم نزع الخلعة السلطانية وتوجه إلى جبل الصالحية وجلس للحكم في سابع عشر صفر، وما غير هيئته ولا عادته في مشيه وحمل حاجته، ويجلس للحكم على مئزر غير مبسوط، بل يضعه في يده ويجلس عليه، ويكتب في محبرة زجاج، ويحمل نعله بيده فيضعه على مكان؛ وإذا قام من مجلس الحكم حمله أيضاً حتى يصل إلى آخر الإيوان فيلقيه ويلبسه. هكذا أخبرني من أثق بأخباره؛ واستمر على ذلك، وهذه عادة السلف).

ولست أدري إن كان كل الحنابلة على هذا التواضع الشديد أم هم القضاة وحدهم؟ ويؤسفني أن ليس لدي من فقه الحنابلة ما أراجعه في هذه المسألة، بل يظهر أن هذا الفقه نادر جداً في أوربا.

ولكي نكوّن لأنفسنا فكرة عن التطورات التي طرأت على زي العرب نقارن ثوب محمد ﷺ بثوب رجل من الطبقة المتوسطة من أهل القاهرة في القرن السادس عشر بعد غارة الأتراك.

كان الرسول (ﷺ) يلبس قميصاً من القطن الأبيض تصل أكمامه إلى المعصم، وسروالاً من القماش؛ وما كان فوق القميص والسروال - فيما يظهر - إلا ثوب واحد هو الجبة؛ وهي ثوب طويل من الصوف، وحواشيه من الحرير، مفتوح من أمام، ضيق الأكمام؛ أو القباء، وهو ثوب طويل مهيأ بالأزرار من أمام. وكان يلبس في بعض الحالات - بدلاً من هذه الثياب - كساءً من القماش الغليظ، وهو عادة قطعة كبيرة من الصوف السميك رمادية اللون مخططة، ويلف بها الجسم، وهي (البردة). وكان محمد (ﷺ) يلبس العمامة البيضاء أو السوداء ويرخي طرفاً منه على ظهره. وأما حذاؤه فكان نعالاً مصنوعة من جلد الإبل، مربوطة بسيرين يمر أحدهما بوسط القدم والآخر بين الإبهام وما يليه.

فنحن نرى أن زي الرسول (ﷺ) كان في غاية البساطة، ولا يزال هو زي أهل الصحراء في أيامنا هذه.

فالبدو لا يلبسون - مثل الرسول - إلا قميصاً من القطن، وثوباً طويلاً، وقد يستعيضون عنه بكساء من الصوف.

أما زي الرجل القاهري في القرن السادس عشر، فيتألف من عدد عظيم من الملابس - فلا تزي بحال ما تلك البساطة التي كانت تميز زي الرسول، والتي لا تزال ترى في زي البدو - فكان يلبس فوق القميص والسراويل قفطاناً من الحرير في ألوان مختلفة قد خالط بعضها بعضاً، ولهذا الثوب أكمام فضفاضة؛ ثم يلبس فوق القفطان حزاماً من الحرير أو الوبر أو الصوف، ثم جبة طويلة مفتوحة من الأمام، ذات كمين قصيرين لا يصلان إلى المعصم حتى يظهر طرفا كمي القفطان وقد تجاوز الأصابع؛ وهذا الثوب أقصر قليلاً من الأمام عنه من الخلف، وهو مصنوع من القماش الأحمر أو الأزرق أو الرمادي؛ ثم يلبس فوق الجبة ثوب فضفاض يصنع عادة من الوبر، ويزين أحياناً بالفراء، وهو الفراجية. أما غطاء الرأس فيتكون من طاقية صغيرة من القطن وطربوش أحمر وقطعة طويلة من الشاش (الموسلين) تستدير حول الرأس. وأما الحذاء فمن الجلد المراكشي الأحمر.

وجمال الثياب وعددها يخلعُ على لابسها في الشرق العظمة ويبعث على احترامه ويقول المثل الفارسي (قربت بلباس) ويفسره تافرينيه بقوله: بمقدار ما تتجمل في ثيابك، تقابل بالإجلال، وتنال الحظوة في القصر والقربى لدى العظماء. أما في مصر فهناك ما جاء من ذلك في كتاب (وصف مصر)، ' كلما كدس الناس من الثياب على أجسامهم ضاعفوا الاحترام والتقدير الذي يبغونه لأنفسهم)؛ فليس يبدو غريباً إذن أن يعنى الشرقيون بأن تكون ثيابهم نظيفة طيبة الرائحة، وقد جاء في الأغاني عبارة: (ملائمة طيبة) كما نقرأ في تاريخ مصر للنويري أنه وجد في ذخائر أحد العظماء لعبة من العنبر على قدر جسده، برسم ثيابه، توضع ثيابه عليها لتكتسب رائحتها. وورد في (ألف ليلة وليلة) هذا البيت من الشعر:

وتميس بين مزعفر ومعصفر ... ومعنبر وممسّك ومصندل

كما وردت فيه أيضاً هذه الفقرة: (لبست تلك البذلة الفاخرة وكانت مطيبة) وفي موضع آخر منه: (فقعدت تبخره فطارت شرارة فأحرقت طرفه). ويقول بوركهارت عن وهابيي نجد أنهم يعنون بتطييب الكوفية بأنواع من الطيوب

وتخص الأرادن بالتطييب، ففي قصيدة للمتنبي يقول:

أتت زائراً ما خامر الطيب ثوبها ... وكالمسك من أرادنها يتضوع

أما عادة منح الثياب للدلالة على التقدير فعادة شرقية قديمة؛ ومع ذلك يقول المقريزي: إن أول من استعملها هو هرون الرشيد حينما خلع على نديمه جعفر بن يحيى البرمكي. ويسمى ثوب الشرف هذا خلعة، ثم سمى بعد هذا تشريقا. ثم لما تغلغلت هذه العادة أصبحت من القوة بحيث كان الأمير يخلع الرداء الذي يرتديه، فيلبسه الشخص الذي هو موضع تكريمه أو أجازته. ولكن يظهر أن الأمراء لم يكونوا بعد ذلك يهبون من الثياب إلا مما هو مودع في خزائن ثيابهم، أو ما كان جديداً كل الجدة؛ ولكنه كان من دلائل الشرف دائماً أن يلبس الرجل ثياباً كان الأمير يلبسها من قبل؛ ولم يفت المؤرخين أن يشيروا إلى ذلك، فمما يحكي النويري هذه العبارة: (أنعم على الأمير سيف الدين بوشربوش كان قد لبسه).

أما حين يراد معرفة أنواع الثياب التي تتألف منها الخلعة أو التشريف، فقد أشرفنا على مسألة شديدة الصعوبة؛ وإن يكن يخيل إلى أن الأمر كان يرجع، في حكم بعض الأسر، إلى اختيار الأمير المطلق؛ ومع هذا، فإذا كان فييرس يحسب أن الخلعة كانت تتكون غالباً، أو مطلقاً، من القباء وحده، فإني أرى لزاماً على أن أدل هنا على أن هذا رأي خاطئ الأساس. وإذا كان صحيحاً أن ثوب الشرف كان يتكون، في حكم حسن باشا لليمن، من القباء، فأن الأمر لم يكن كذلك في بغداد ومصر مثلاً، فقد كانت الخلعة أو التشريف تتكون من ثياب مختلفة غير ذلك. فالنويري يذكر لنا أن الخلعة التي وهبها خليفة بغداد للملك الناصر داود كانت تتكون من قباء حريري وشربوش، كما يحكى في موضع آخر أن الخلعة التي أعطاها الخليفة العباسي المعتصم بالله كانت تتكون من عمامة سوداء وفراجية موشاة بالذهب. وتقرأ فيما بعد ذلك أن ثوب الشرف الذي منحه الخليفة كان يتألف من عمامة من الحرير الأسود المطرز بالذهب ودراعة. أما الخلعة كانت تعطى للوزير في مصر فكانت تألف من جبة وفراجية وطرحة. وكذلك كان التشريف يتكون من ثياب مختلفة. وأخيراً تدلنا عبارة أخرى للنويري على أن ثياب الشرف كانت تختلف في القماش الذي صنعت منه، والقطع التي تتألف منها حسب مرتبة من تقدم إليه، أو حسب الخدمات التي أداها للأمير.

وكان الأمير في كثير من الأحوال، يقدم إلى جانب الخلعة خنجراً وحصاناً وأشياء أخرى. كما أنا كثيراً ما تقرأ عن خلعة كاملة وتشريف كامل.

وكانت ثياب الشرف التي يهبها الخلفاء العباسيون تكاد تكون دائماً سوداء.

ولم تكن الغاية من الثياب منحصرة لسوء الحظ، في الزينة بل كان شيطان البغض والانتقام يستعملها في انتزاع الحياة بطريقة دنيئة. ومن المعروف عند الغربيين أن الثياب كانت تستعمل في القرون الوسطى لهذه الغاية. ويكفي قليل من الأمثلة المأخوذة من التاريخ الإسلامي لإثبات أن هذا الأسلوب من الانتقام الدنيء لم يكن مجهولاً في الشرق. والنويري يقص علينا أن السلطان الأيوبي، الملك المعظم، أضمر سخطاً شديداً على قاضي القضاة لأنه أقنع أخت صلاح الدين والملك العادل ست الشام بنت أيوب أن توقف أموالها على بعض المؤسسات الدينية، فخيبت حماسة القاضي الدينية آماله. ولقد حاول الأمير عبثاً أن يجد حجة يستطيع أن ينتقم بها من القاضي، ثم لما وجد أخيراً هذه التعلّة أرسل إليه وهو في مجلس حكمه، وحوله جماعة كثيرة من العدول والمتحاكمين، فلما جاءه الرسول قال له: السلطان يسلم عليك ويقول لك: الخليفة، سلم الله عليه، إذا أراد أن يشرف أحداً من أصحابه خلع عليه من ملابسه، ونحن نسلك طريقه؛ وقد أرسل إليك من ملابسه، وأمر أن تلبسه في مجلسك هذا وأنت تحكم بين الناس؛ وكان الملك المعظم أكثر ما يلبس قباءاً أبيض وكلوتة صفراء. وفتح الرسول البقجة، فلما نظر القاضي إلى ما فيها وجم. قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة فأخبرني الرسول الذي أحضر هذه الخلعة والرسالة بذلك. قال وكان السلطان أمرني أن ألبسه إياها بيدي إن امتنع أو توقف، فأشرت عليه بلبسها وأعدت الرسالة عليه، فأخذ القباء ووضعه على كتفه، ووضع عمامته على الأرض ولبس الكلوتة الصفراء على رأسه، ثم قام ودخل بيته، ومرض إثر هذه الحادثة ورمى كيده ومات؛ ويقال أن ذلك كان في يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة تسع عشرة وسبعمائة).

ويذكر بعض المؤرخين الأسبان أن ملك قشتالة الدون انريك مات مسموماً لأن ملك غرناطة محمداً أهدى إليه حذاءين غمرا في السم.

وكانت الثياب السوداء تلبس قديماً للدلالة على الحداد، سواء في لبسها لذلك الرجال والنساء. ومن المعلوم أن زي العباسيين الأسود إنما أنتحل حداداً لموت الأمام إبراهيم بن محمد وكذلك جاءت هذه العبارة في تأريخ مصر للنويري: (شق القاهرة وهو لابس السوداء، وأعلامه كذلك، حزناً على الظاهر).

ولكن الرجال في الأزمنة المتأخرة صاروا لا يلبسون ثياب الحداد، إذ كانت تيدو كأنها دليل على عدم الصبر على ما قدر الله أما النساء فلا يزالون يلبسونها في الشرق، ولكن عند موت الزوج أو القريب الأدنى، ولا يلبسونها في موت من تقدم به العمر؛ وقد جاء في معجم الأعلام الذي وضعه ابن الخطيب أن الشاعرة الشهيرة حفصة، عشيقة أبي جعفر أحمد بن سعيد، الشاعر الشهير ووزير صاحب غرناطة، لبست الحداد حين بلغها أن حبيبها قد قتل، ولكن هذا من غير شك شذوذ من العادة العامة.

ويكون الحداد بأن تصبغ المرأة بالنيلة قميصها وقناعها الذي تغطي به رأسها وتستر به وجهها ومنديلها صبغة زرقاء قاتمة أو قريبة من السواد. وتلبس النساء ثياب الحداد فترة الأيام السبعة أو الخمسة عشر أو الأربعين في بعض الأحيان.

أما في الأندلس، أثناء حكم الخلفاء الأمويين فكانت ثياب الحداد بيضاء. إذ نقرأ في تأريخ الأندلس للمقري هذه العبارة: (عليهم الظهائر البيض شعار الحزن).

ويلبس العرب ثياباً حمراء أو صفراء حينما يريدون الدلالة على الغضب. وقد جاء في كتاب ألف ليلة وليلة هذه العبارة: (لبس بدلة الغضب وهي بدلة حمراء) ولكن هذه العادة ربما كانت عادة تركية

أما في الغرب فكان اللون الأصفر هو الذي يدل على الغضب فقد لاحظ بيدودي سن أولون وويندوس أن ملوك مراكش كانوا إذا اعتزموا أن يسفكوا دماً لبسوا في الغالب ثياباً صفراء.

محمد طه الحاجري