مجلة الرسالة/العدد 227/الطريقة العلمية
→ التشريع والقضاء في العهد الفرعوني | مجلة الرسالة - العدد 227 الطريقة العلمية [[مؤلف:|]] |
أبو الفرج الببغاء ← |
بتاريخ: 08 - 11 - 1937 |
في الحضارة والحياة
للأستاذ محمد أديب العامري
كيف ذهب العمر؟
يرى بعض علماء الحياة أنه قد مر الآن ما يقارب مليون سنة على وجود الإنسان على وجه الأرض. ويرى بعضهم أن هذا كثير فينزل العدد إلى نصف من ملايين السنين. ومهما يكن من أمر الخلاف بين العلماء في ذلك فالمؤكد عندهم على كل حال أن عمر الإنسان على الأرض لا يقل عن ربع مليون
ومن المعلوم أنه قد مضى الجزء الأكبر من هذه الحقب الطويلة دون أن يكون للإنسان في المدنية طَوْل يذكر، ولكن عشرة آلاف السنة الأخيرة شاهدت من تفجر عقل الإنسان ما تقر به الآثار إلى اليوم، كما أن النصف الأخير فقط من هذه الآلاف العشرة هو الذي يعرفه إنسان التاريخ في حضارة الدنيا
فحضارات العصور الحجرية والفلزية وحضارات الآشوريين والمصريين واليونان والرومان والهنود والصينيين والفرس والعرب والحضارة الحاضرة، هي النتاج البشري المهم الذي نذكره حين ندرس التاريخ
ومن الواضح أن المدنية الحاضرة أزهى هذه المدنيات وأعلاها وأكثرها ديموقراطية وتمهيداً لرفاهية الإنسان وسعادته وأن هذه المدنية الزاهية العظيمة قد ظهرت ونمت، ولا تزال تنبئ بنمو أعظم، فيما لا يزيد على الـ250 سنة الأخيرة. ومع ذلك كله فما يزال مفكر مثل ويلز يقول: (إننا لم نشهد بعد الفجر الأول الباكر للتاريخ الإنساني)
وليس من غرضنا أن نبحث هذا الآن، ولكن ويلز محق، فليس تاريخ البشر في طابعه الأكبر إلى اليوم إلا سلسلة من المجازر الوحشية والمجاعات والتدمير والغارات والسطو. فإن يكن هذا جديراً بعقل الإنسان وفكره فإن فجر الحضارة قد طلع منذ أيام رجل جاوي القردي. ولعل النوع الإنساني إذ ذاك كان أشد حضارة فقد كان أشد ضراوة وأشد فتكاً؛ وإلا فإن تاريخ النوع البشري لم يخط منه إلى الآن شيء يستحق ألا يمحى ومع أن الواقع يؤيد ما يقول ويلز فإننا نحب أن نحسب للمائتين والخمسين سنة الأخيرة حساباً خاصاً؛ فقد خطت فيها الحضارة البشرية خطوات إن تكن راجفة فإنها واعية؛ وإن تكن في بعض صفحاتها مخزية، فإنها في بعضها لامعة مشرقة. فقد رافق هذه المدنية متاعب وآثام نحن نعاني اليوم أشد أدوارها مرارة، ولكن المؤكد لدى التدقيق هو أن هذه المتاعب ستزول إذ تمحوها الأفكار البشرية العالية يوم تصفو المدنية نفسها للنوع الإنساني خالصة من كدرها وويلها. والنظر في هذه المتاعب لا يهمنا في بحثنا الحاضر كذلك، وإنما يهمنا هنا إزالة الريب الذي يحدثه بعض الكتاب إذ يقولون إن المدنية الحاضرة لم تكن أشمل المدنيات وأرقاها وأبعدها تمثيلاً لاتجاه التطور الإنساني في معارج التقدم
فحساب الـ250 سنة التي نمت فيها هذه المدنية بالنسبة إلى ربع المليون كحساب سنة في الألف. فما الذي ضيع على تاريخ البشر هذه السنين كلها فجعلها هباء أو كالهباء؟
إن السر في ذلك هو (الطريقة العلمية) فهي طابع المدنية الحاضرة والعامل الأساسي في سرعة خطاها وسعتها
فما هي هذه (الطريقة العلمية)، وكيف أدت إلى إسراع خطوات النهضة الحاضرة، وكيف يمكن أن نفيد منها في حياتنا الاجتماعية والسياسية اليومية؟
كيف كان الناس يفكرون؟
كان الناس من قبل يؤمنون بالأرواح يصورونها لأنفسهم، ويثقون بالأذكياء منهم (العلماء) ثقة عمياء. فقد كفى أن يقول أرسطو أن الهواء عديم الوزن حتى مضى قوله هذا صحيحاً دون ريب قروناً عديدة. وقد كان يكفي هوميروس أن يقول إن الأرض مستوى مستدير حتى يؤمن الناس بقوله دون تحقيق أو يعارضوه دون تحقيق. لم تكن نظرة الناس قائمة على التجربة والاختبار؛ ومع أن النهضة العربية كانت أحدث النهضات ومن أبعدها قياماً على البحث والتحقيق، فقد تخللها جدل غيبي عابث كثير وإيمان أعمى كثير. فإذا قال القزويني إن الهواء ينقلب ماء إذا برد كان على الناس أن يصدقوه، لأنه يؤكد أنه ما افترى شيئاً مما أورد في (عجائب المخلوقات)
فإذا كان الذي يقرر الحقائق العلمية لا يسأل عن براهين وأدلة، راده الغرور أكثر الأمر، وجال ذهنه في المغيبات والمعميات يخترع للناس ويضع. وإذا كان من حق كل متكلم أن يتكلم في رأيه عن أمر لم يخبره بالتجربة كان كل روائي الذهن عالماً مدهشاً، وساد في الناس سفسطائيوهم وكذابوهم والمتجرئون منهم على الحق والعلم
وهكذا بطأت خطوات العلم في التاريخ منذ عرف الإنسان إلى ما قبل القرون الثلاثة الأخيرة، حتى وصل الناس إلى مفتاح هذه السرعة الهائلة في الوصول إلى النتائج العملية والآراء النظرية في مدنيتنا الحاضرة. هذا المفتاح هو الطريقة العلمية، فكيف بدأت (الطريقة العلمية) بدءها الواضح في تاريخ الناس؟
كيف يفكر العلماء؟
يروى لأرسطو قوله: (لو استطعت أن أجد نقطة في الكون تصلح محور ارتكاز لرفعت الأرض كلها على رافعة). وقال ديكارت شيئاً مثل ذلك، ولكنه كان أبعد أثراً في تاريخ الفكر البشري. قال: (لو كنت أستطيع أن أجد حقيقة لا ريب فيها لبنيت عليها كل العلوم) - حقيقة واحدة فقط! هذا يدلك على مبلغ شك الرجل (العلمي) وحذره في كل ما يرى ويسمع. فليس شيء عنده حقاً حتى يتضح بالوسائل التي تدفع كل شك؛ وليس شيء ينفى إلا بعد براهين النفي كاملة. فموقف الرجل العلمي تجاه المسائل هو موقف الحياد التام
وإذا لم يعتبر ديكارت (1596 - 1650) نفسه أول واضع لأساس الطريقة العلمية في التفكير البشري الفلسفي، فلا ريب أنه من أول الواضعين، كما يعتبر جاليلو (1564 - 1642) مؤسس الطريقة العلمية التجريبية في العلوم
ويمثل كل من الرجلين في ميدانين من ميادين التفكير البشري (الرجل العلمي) الذي امتلأت جوانحه بملازمة الصفات التي يتصف بها أمثالهما من العلماء
فالرجل العلمي يعشق الحقيقة ويصبر على الوصول إليها. هو ذو عين يقظة حذرة ترى الدقائق في الأشياء المعرضة للبحث والدراسة. وما أشد هذه الخاصة ندرة! فإن عدداً من الناس يشهد حفلا فإذا سئلوا بعد انفضاضه عن عدده تشعبت أقوالهم عجباً، وتداخلت عواطفهم إلى حد يفسد الوصف ويشوه الواقع. فالرجل العلمي قوي الملاحظة صحيحها، دقيق الوصف لها. قال السير ميخائيل فوستر في خطاب له في رياسة المجمع البريطاني: (يكتفي الرجل - الرجل غير العلمي - بقوله (تقريباً) و (حوالي)، أما الطبيعة فليس عندها من ذلك شيء. ليس من طريقها التوحيد بين شيئين مختلفين مهما دقت شقة الخلاف بينهما، حتى ولو كان الخلاف يقاس بأقل من جزء من الألف من الميليغرام أو الميليمتر) فكلما أغفل المرء دقائق هذه الفروق بين الأشياء في العلم ضل؛ ومهما يكن من أمر صراعه واجتهاده في الوصول إلى الحقيقة على أساس هذا الإغفال فإنه مخفق في النهاية. لا محالة أن العلم لا يعرف إلا الدقة المطلقة؛ والذي لا يصبر على هذه الدقة لا يستطيع أن يكون عالماً. ولم يخلق كل الناس ليكونوا علماء. على إن التمرس بالدقة في الوصول إلى الحقائق أمر لازم في التربية
والرجل العلمي متأن متحفظ، فهو لا يسرع في إبرام حكمه على شيء حتى تتوفر لديه الأدلة كافية عليه. وإن من أكثر ما يصم الباحث هو الوصول إلى استنباطات فجة قائمة على عدد قليل من الحقائق. لا يتعجل الوصول إلى فرض جديد أو نظرية حديثة ليتعجل شيئاً لنفسه، فإن الفرض أو النظرية إذ تنهار فيما بعد تنهار على صاحبها. وهو لا يتحيز إلى نفسه ولا إلى أي فرض أو نظرية. إنه ينظر إلى الحقائق مجردة
والرجل العلمي إنسان واضح صافي الذهن صافي الفكرة. وهو يعي أنه يدرك الأمور على حقائقها. فأنت تعرف أن بعض الناس يؤكدون أنهم يعرفون أشياء على وجه ما، فإذا الحقيقة أنها على وجه آخر. إنهم لا يعرفون متى يعرفون شيئاً ومتى لا يعرفونه. وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا علماء أو تتم لهم ثقافة. وكما أن الرجل العلمي واضح الفكرة فهو صافي العبارة كذلك. إنه حين يعبر عن شيء يعبر عنه بأبسط الكلمات وأوجز العبارات؛ ومن هنا كانت لغة العلم الصحيحة سهلة. وأثر الأسلوب العلمي في أدب العصر فانتحى السهولة الممتنعة. فالرجل العلمي لا يستعمل لفظة تحتمل معنيين أو جملة تشير إلى مفهومين، بل تكون عبارته قاصدة واضحة
وبالجملة يكون الرجل العلمي رجل ثقافة وعقلية علمية. فهو بطبعه يحب الصدق والوضوح والإيجاز والتدقيق في قبول ما يعرض على عقله من حقائق وأقوال
ونجمل فنقول: إن الطريقة العلمية في بحث مسألة من المسائل تقتضي:
1 - أن يجمع العالم من الحقائق والمشاهدات على المسألة التي يبحث فيها جهد ما يستطيع. ويجب أن يتأكد من صحة الحقائق والمشاهدات بالقياس الدقيق
2 - أن ينسق ما يصل إليه من الحقائق 3 - أن يكوّن بناء على الحقائق فرضاً يؤول هذه الحقائق جملة
4 - أن يجرب صحة الفرض بحقائق أخرى. فإذا قوي الفرض أدرك مرتبة النظرية
5 - ويمكن أن تحيط النظرية بجميع الحقائق التي تبحث عنها بعد تجربة واختبار طويلين فتصبح قانوناً، وهو أقوى تعبير يجمل الحقائق العلمية
ولنضرب مثلاً يوضح الطريقة العلمية:
فالناس يعرفون الآن أن المادة ليست متلاحمة الأجزاء. فبين أجزاء قطعة من الحديد وإن ظهرت مصمتة فراغ كبير. واضح مثلاً أن بين أجزاء الفلين فراغ يملؤه الهواء أو فراغ مطلق لا شيء يملؤه. فالذي يشاهد أن الفلين يمتص الماء يفكر في الفراغ الذي ملأه الماء، فيخطر بباله أن لا بد وأن يكون بين أجزاء الفلين فراغ. فإذا ما لاحظ أن قطعة السكر تمتص الماء كذلك اشتد خاطره بأن هنالك مادة غير الفلين يتخلل الفراغ أجزاءها. فإذا ما لاحظ أن قطعة السكر تذوب في الشاي ترجح لديه أن بين أجزاء الماء نفسه فراغ تملؤه دقائق السكر الذائب. ذلك نمط من الحقائق يجمعها العالم، ويرافق جمعها في ذهنه فكرة توحد بين المشاهدات التي يقصدها منها. فهذه الفكرة هي الفرض
فإذا ما انطلق العالم يفتش عن مواد أخرى ويلاحظ ما إذا كان يفصل بين دقائق أجزائها فراغ، ويرى أن هنالك كثيراً جداً من المواد يصدق عليه ما خطر له في الفرض أكد فرضه فجعله نظرية
والنظرية التي يمكن أن تستنبط من مثالنا هذا هي أن بين جزئيات المادة فراغ. فإذا صادف العالم المحقق أثناء بحثه مادة كالبلاتين شديدة التماسك لا يبدو للمرء أول وهلة أن بين أجزائها فراغا حاول بكل وسائله الممكنة أن يعرف ما إذا كان هذا المثل يرد النظرية أو يؤيدها. فإذا ردها عاد العالم إلى حقائق أخرى، فإذا كانت المشاهدات الجديدة غير ممكنة التأويل على أساس النظرية المقترحة سقطت وبحث عن غيرها، وإلا فإنها تتأيد وتصبح بمنزلة القانون العام.
فأسلوب البحث العلمي واضح المعالم بيّن الطريق. وهو يقتضي كما مر عقلية خاصة وإرادة خاصة وشمولاً خاصاً في النظر لا يتاح لكثيرين. واتباع هذا الأسلوب الواضح هو الذي خطا بالعلم هذه الخطوات الواسعة، وفسح للعقل البشري هذه الآفاق العجيبة الطريقة العلمية والحياة
إن أسلوب التفكير العلمي نافع جداً في العلاقات بين الناس. والتفصيل في ضرب الأمثلة على ذلك يحمل على الإطالة أكثر مما أطلنا
فنحن نشاهد ضعف قوة الملاحظة في التلاميذ والناس. والشرق لا يختلف عن الغرب، ولكن الغربيين أخذوا بأساليب البحث العلمي زمناً فقويت عندهم ملكة المشاهدة واتزنت عقول كثيرين منهم وترفعت عن الأوهام والأخذ بالظواهر؛ وكان لهذا أثر كبير في حياتهم السياسية والاجتماعية. ولا ريب أن أخذنا بأسباب المدنية الحاضرة سيؤدي بنا ما أسرعنا باتخاذنا هذه الأسباب إلى الغاية نفسها؛ وفي هذا الخير كل الخير
فكثيرون منا ما يزالون يأخذون بظاهر الأقوال سواء أجرت هذه مجرى حقائق العلم أو حقائق الحياة. ويعزى كثير من الركود والسوء في مجتمعنا إلى هذا الأخذ البسيط. يقال لنا مثلاً إن مرافق الحياة والإنتاج في بلادنا ضعيفة، فنأخذ بظاهر هذا القول ونتقاعس عن وسائل الإنتاج العلمي فيشتد بنا الخوف والتزاحم
ومن مظاهر حياتنا اتهامنا الشديد للذين يصيبون منا شيئاً من النباهة. وهذا خلق عام في الناس، ولكن شدته عندنا ظاهرة. فما أن ينبغ نابغ حتى تدور الألسنة فيه بالكذب والافتراء. ومما يدل على ضعف الروح العلمية في الناس تصديقهم بمفتريات وادعاءات لا تنطبق على الواقع ولا يصدقها العقل. وهم يأخذون بهذه المفتريات بضعف النظرة العلمية فيهم. فالذي يحملك على رأي في إنسان لم تعرفه أنت بنفسك كالذي يحملك على القول بأن الهواء غير ذي وزن دون أن تزنه - كلا الأمرين يدل على فقدان النظرة العلمية
(السلط)
محمد أديب العامري