مجلة الرسالة/العدد 227/أبو الفرج الببغاء
→ الطريقة العلمية | مجلة الرسالة - العدد 227 أبو الفرج الببغاء [[مؤلف:|]] |
للأدب والتاريخ ← |
بتاريخ: 08 - 11 - 1937 |
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
- 2 -
قدمت طرفاً عن نشأة أبي الفرج وعن حياته الأدبية، فلأقدم طرفاً من شعره ونثره محاولاً أن أكشف في أثناء عرضي لها عن مكنون معانيها، وروائع أخيلتها، بما يقر عين الكاتب، وينقع غلة الشاعر، فأحيي شعراً كاد أن يندثر، وأذيع أدباً قد غمر، بينا صاحبهما كان في عصره غمر البديهة وفير النباهة. ولا أكاد أفهم لماذا ضن الزمان على أبي الفرج بما وهبه لمن هم أدنى منه مكانة وأقل قدراً، ممن ذاع في عصرنا أدبهم، وصارت ملء الأسماع والأبصار أسماؤهم؛ إلا إذا اعتقدت أن للأدب جَدّاً قد يكون لامعاً فينشر تاريخ صاحبه، وقد يكون خابياً فيأفل بأفوله صيت كاتبه؛ وهذا هو نصيب أبي الفرج من أدبه، ولكني أرجو أن أقضي حقوقاً نام قاضيها، وأوفي ذكر أيادٍ على اللغة لم تجد من يوفيها، فيتنبه علية الكتاب ورافعو ألوية الأدب في مصر إلى أمثال الببغاء ممن لفهم الدهر في طياته، وطواهم بين إمعاته ونكراته، وكانوا في إبان نهضة اللغة من النابهين، وفي عصور ازدهار الأدب من الفحول النوابغ، فيحيون تراثهم وينشرون للأدباء سيرهم، ويقرئوننا شعرهم ونثرهم
طرق أبو الفرج جميع أغراض الشعر المتداولة في عصره إلا ما يبعد صاحبه عن النبل والمروءة ويسمه بسمة الفحش والسفاهة أو ينظمه في سمط السلطاء، فلم يكن هجاء مقذعا بل كان يربأ بنفسه عن أن تكون في منزلة دنيا فيتناول الأحساب يعرضها أو الأعراض ينهشها، كما كان يفعل ذلك أكثر شعراء عصره. وإنه ليبدو لنا من دراسة شعره أنه كان رقيق الحاشية سجيح الخلق نبيل المروءة محبباً إلى علية القوم وعامتهم، يرى أن له مكانة ترفعه عن اللغو، وتسمو به عن الهجو. وإليك ما يشعرنا به من شعره قال:
أكُلُّ وميض بارقة كذوب؟ ... أما في الدهر شيء لا يريب؟
تشابهت الطباع فلا دنئ ... يحن إلى الثناء ولا حسيب
وشاع البخل في الأشياء حتى ... يكاد يشح بالريح الهبوب
وفيها يقول:
أبى لي أن أقول الهجر قدر ... بعيد أن تجاوره العي وإذن فاعتداده بنفسه، وعرفانه قدرها، هو الذي حدا به إلى الترفع عن الهجاء. ولقد كان أبياً عزيز النفس لا يتحمل منة ولا يستكين عن ذلة ويدعو إلى القناعة شأن شعراء الزهد في عصره:
ما الذل إلا تحمل المنن ... فكن عزيزاً إن شئت أو فهن
إذا اقتصرنا على اليسير فما ال ... عِلة في عتبنا على الزمن
ومع أن هذا الشعر قد يكون صادراً للحكمة وإرسال الأمثال فإنه يدلنا على صفاته ويشي إلينا ببعض خلاله. كذلك لم يكن من الرقعاء الماجنين أو الخلعاء المستهترين، وإن هو قد ألم في صدر شبابه بما تدعو إليه نزوات الشباب، وأتى في باكورة صباه ما يصبو إليه من لا يزال غض الإهاب، لكنه مع هذا كان عنيف اللسان شريف البيان، تقرأ حوادثه الكاعب الغانية والشمطاء الفانية فلا تجد الأولى ما يريق حياءها أو يبعث الخجل إلى وجهها، وإن وجدت الأخرى ما يهيج أشجانها ويتصباها، ويبعث فيها ذكريات أيام شبابها وصباها؛ وهذه قصة تريك حقيقة ما نقول:
تخلّف عن الغزو مع سيف الدولة بدمشق، وكانت سنه قرابة العشرين؛ ويظهر أنه أحس وخز الضمير وتأنيب الشهامة، فأخذ يتسلى عن تخلفه بارتياد الحدائق والرياض، ويتعزى عن اتهامه بالقعود بالقصف والمجون، فقصد إلى دير مران، واختار له من رهبانه سميراً هو أقلهم في الرهبنة حظاً، وأديرت بينهما الراح، وإذا راهب آخر يوحي إليه بطرفه يستقدمه إليه، فانتحيا ناحية، فسلمه رقعة فضها فإذا هي دعوة إلى زيارة أرسلها صاحبها في عبارة رقيقة وأبيات رشيقة ختمها بهذين البيتين:
فإن تقبلت ما أتاك به ... لم تشِن الظنَّ فيه بالكذب
وإن أتى الزهد دون رغبتنا ... فكن كمن لم يقل ولم يجب
فصحا من سكره، وتخيل الداعي في نثره وشعره ملكاً كريماً، أو عاشقاً نبيلا، فكان جوابه على دعوته ما ذكره في وصفه لتلك الحادثة إذ يقول:
وكان جوابي طاعة لا مقالة ... ومن ذا الذي لا يستجيب إلى اليسر
فلاقيت ملء العين نبلا وهمة ... مُحَلَّى السجايا بالطلاقة والبشر
فاستقبله غلام (كأن البدر ركب على إزاره) واقتعدا وغلاميهما غارب اللذة وتناهيا نوادر الأخبار وتناهبا روائع الأشعار على كؤوس المدام، فما شملتهم بالفرح الشمول حتى أمر المضيف غلامه بالغناء فغنى:
يا مالكي وهو ملكي ... وسالبي ثوب نسكي
نزه يقين الهوى في ... ك عن تعرض شك
لولاك ما كنت أبكي ... إلى الصباح وأبكي
فانتشيا من راحين، وطربا بمدامين، واستسلما للمرح، وأسلما زماميهما إلى النشوة والفرح، فاقترح المضيف على الضيف (أن يشي ليلتهما بشيء يكون لها طرازاً ولذكرها معلماً) ففعل وأنشد ارتجالاً:
وليلة أوسعتني ... حسناً، ولهوا، ً وأنساً
ما زلت ألثم بدراً ... بها، وأشرب شمساً
إذ أطلع الدير سعداً ... لم يبق مذبان نحساً
فصار للروح مني ... روحاً وللنفس نفساً
فطربوا وقصفوا ما طاب لهم الطرب والقصف، وقد وشى ليلتهما بقصيدة طويلة جميلة النسج سنية الخيال نورد منها قوله:
جَنينا جنيَّ الورد في غير وقته ... وزهر الرُّبا من روض خديه والثَّغر
وقابلنا من وجهه وشرابه ... بشمسين في جنحي دجى الليل والشَّعر
وغنى فصار السمع كالطرف آخذاً ... بأوفر حظ من محاسنه الزُّهر
وأمتعنا من وجنتيه بمثل ما ... تمزج كفاه من الماء والخمر
سرور شكرنا منة الصحو إذ دعا ... إليه، ولم نشكر به منة السكر
مضى وكأني كنت فيه مهوماً ... يحدث عن طيف الخيال الذي يسري
أليست أبياته كلها وهي في موقف ينسي الحياء سخية به كريمة بالاحتشام؛ ليس فيها هناة تأخذها عليه فتاة، ولا خيال تعافه الحييات أو تتنكر له الناسكات؟
ويذكرني وصف ليلته أبياتاً لشاعرنا العظيم محمود سامي باشا البارودي حذا فيها حذو أبي الفرج، فوصف ليلة قال:
وليلة من ليالي الأنس صافية ... بلغت بالراح فيها كل مقترحي قتلتها بعد أن نام الخلي بها ... بغادة لو رأتها الشمس لم تلح
فكيف لا تدرك الأفلاك منزلتي ... والبدر في مجلسي والشمس في قدحي
ولكن شتان بين الليلتين، فليلة البارودي إحدى ليالي أنسه الكثيرة، وهي لم تزد على أنها ليلة صافية، بلغ فيها مقترحه لا أمنيته؛ وما أسهل ما يبلغ الإنسان ما يقترح! أما ليلة الببغاء فليلة فريدة في حسنها حافلة بلهوها مفعمة بأنسها؛ وكيف لا تكون كذلك وهو يلثم بدراً ويرشف شمساً؛ أما صاحبه فإنه يجالس البدر أو يخالسه، وينظر إلى الشمس كما ينظر إليها عابر سبيل، وفرق بين من يلثم ويشرب، ومن يجالس وينظر، وأين هو من قول الببغاء؟
فصار للروح مني ... روحاً وللنفس نفساً
وكان على المحتذي أن يفوق المحتذى به، ويجلي في الميدان الذي اختاره لمنازلته فيه لا أن يجيء مصلياً بينا الأول مرتجل والثاني متئد، ولكن ذلك ما لم يستطع له شاعرنا بلوغاً. ولننتقل إلى الحديث عن شعره
تأثر أبو الفرج في شعره خطوات شاعرين ملأ ذكرهما الآفاق، وذاع صيتهما في الشام والعراق، هما أبو تمام والبحتري، فقد كان اسماهما في عصره لا يزالان أرفع أسماء الشعراء فتأثر بهما، فأولع بالبديع ولعاً شديداً، وأوغل فيه أعظم إيغال، فإنك لا تكاد تجد بيتاً ليس فيه نوع من أنواع البديع، وهذا هو ما أخذه عن أبي تمام، ولكنه لم يغرب في ألفاظه إغرابه ولا تعمد الكلمات الجزلة والعبارات الضخمة ذات الموسيقى الصاخبة والرنين القوي التي أوخذ عليها أبو تمام، حتى وجد في عصره من النقدة من ينكر عليه عبقريته بل شاعريته، فإن كلفه بالإغراب وشغفه بضخامة الألفاظ كان سبباً في غموض بعض معانيه. وأخذ عن البحتري الألفاظ العذبة والأخيلة الشائقة التي لا تصك الآذان، ولا تثقل على الأسماع، ولا تدفع بالقارئ إلى قطيعة الشعر جرياً وراء المعجمات تارة، وإمعاناً في تفهم المعميات من المعاني أخرى، فأخذ من طريقتيهما بالحسنيين، وكاد يجلي في الحلبتين. ولا أدعي أنه بذهما أو ساواهما ولكني أعتقد أنه عدا خلفهما فلم يتخلف، ونهج بعض نهجهما دون أن يتكلف، فشعره سهل معبد لا تكتنفه جنادل، ولا تحوطه مفاوز، بل هو مما يلذ الأديب العريق، ويفهمه المتأدب الرقيق. وسأورد من شعره غير ما أوردته في مناسباته ما يروق غير مدقق في الاختيار ولا متحر الجودة؛ لأني أرى شعره طبقة واحدة، ووحدة غير متنوعة، لأنه نبعة صادقة. فاسمعه يصف ولهه بحبه، وهيامه بمالك لبه، فهو يرى أن قربه وبعده يستويان عنده لأن الوصل لا يطفئ غلة ولا يبرئ علة، والبعد لا يزيد تأجج شوقه، ولا يؤرث نار وجده، فقد بلغ كلاهما النهاية وأوفيا على الغاية، وهي مبالغة طريفة ساقها في لفظ ساحر قال:
حصلت من الهوى بك في محل ... يساوي بين قربك والفراق
فلو واصلت ما نقص اشتياقي ... كما لو بنت ما زاد اشتياقي
وقد طُرق هذا المعنى من قبله، فلعله ألم به فسطا عليه، أو جاء من توافق الخواطر، وكلاهما جائز. وهذان بيتان في هذا المعنى لعليه بنت المهدي قالت:
إذا كان لا يسليك عمن تحبه ... تناء ولا يشفيك طول تلاقي
فما أنت إلا مستعير حشاشة ... لمهجة نفس آذنت بفراق
ولكنه تخلف عن علية فقد بلغت غرضها في بيت، أما هو فاحتاج بيته الأول إلى بيت ثان يوضح غرضه ويبين قصده. وهذا معنى آخر من المعاني المطروقة قبله لم يأخذه كما سبق إليه بل جود فيه وحسن حتى ليخاله القارئ معناه المبتكر، قال:
من ضر من بعد السرور ببعده ... لو كان يجمل في صيانة عبده
يبدو فأطرق هيبة ومخافة ... من أن يؤثر ناظري في خده
قد صرت أعجب أن علة طرفه ... ليست تؤثر علة في وده
أخذ هذا المعنى من قول أبي تمام:
ومضمخ بالمسك في وجناته ... حسن الشمائل ساحر الألفاظ
أبدا ترى الآثار في وجناته ... مما يجرحها من الألحاظ
وتراه سائر دهره متبسماً ... فإذا رآني مرّ كالمغتاظ
في القلب مني والجوانح والحشا ... من حبه حر كحر شواظ
وقد زاد الببغاء على معنى أبي تمام أن إغضاءه لسببين: أولهما هيبته وجلالته، وثانيهما خشيته أن يؤثر طرفه في وجنته. ولعله مما يشين المحبوب أن يرى دائماً مجرح الوجنات مخدد الخدود من تلك الألحاظ اللواحظ والعيون النواظر، وأحسب أنه أخذ معنى أبي تمام في قوله:
ومهفهف لما اكتست وجناته ... حلل الملاحة طرزت بعذاره
لما انتصرت على عظيم جفائه ... بالقلب كان القلب من أنصاره
كملت محاسن وجهه فكأنما اق ... تبس الهلال النور من أنواره
وإذا ألح القلب في هجرانه ... قال الهوى لا بد منه فداره
وإلى عدد تال وموعد قريب.
(المعادي)
عبد العظيم علي قناوي