مجلة الرسالة/العدد 226/القصص
→ ليتني | مجلة الرسالة - العدد 226 القصص [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 01 - 11 - 1937 |
من أساطير الإغريق
1 - خرافة جاسون
للأستاذ دريني خشبة
غلب بلياس الظالم أخاه إيسون على مُلك تساليا، فهام الملك على وجهه في أقصى الأرض، وهامت معه زوجته الملكة الصالحة آلسِميديه، وطفلهما الوحيد اليانع جاسون. . . وعرجا في تطوافهم بأستاذ أخيل العظيم شيرون، فدفعا إليه بالطفل يهذبه ويؤدبه، وينشّئه على الفروسية ومكارم الأخلاق؛ ورجواه أن يكتم سرهما عنه حتى يشب ويترعرع، ويبلغ أشده، فيثير في صدره الحمية، ويرسله ليثأر لأبويه، وليستخلص العرش من غاصبه. وأخلص شيرون في تربية جاسون الإخلاص كله، وكان يردفه خلفه ليعلمه الرماية، وهو شرف عظيم لم ينله من تلاميذه غير أخيل الخالد، وغير جاسون. . . ثم مرت الأيام، وشبّ الفتى على غرار أستاذه، فلم يكن في الدنيا بأسرها أحملُ منه لسيف، ولا أرمى لسهم، ولا أرجح في تفكير، ولا أوفر في حظ من جمال وكمال. ووقفه شيرون على سر أبويه، وما كان من اغتصاب عمه بلياس عرش والده؛ فثار ثائر الغلام، وازّلزل قلبه، وضرب برجله يود لو يخرق الأرض فيكون عند الظالم، فيذرو عظامه في الريح!
ووعظه شيرون، وأوصاه بالصبر وطول الأناة وإعمال الروية وحذره أن يعيث فساداً في الأرض، ونصحه أن يكون رحيماً بالضعفاء، وألا يألو جهداً في مساعدة من يطلب منه المساعدة، وألا يكون عداؤه لعمه سبباً في عدائه لجميع الناس. . . وأعطاه الفتى موثقه، ثم اخترط سيفه، وربط على قدميه وساقيه نعليه الذهبيتين، وودع أستاذه وحياه أحسن تحية، وانطلق يذرع الرحب إلى يولكوس، حاضرة تساليا
ولقي في طريقه سيلاً زاخر العباب، فوقف حياله ينظر ويفكر، ويدبر لنفسه خطة يعبره بها. وكان السيل جياشاً ينحدر من شعاف الجبل القريب، فيجرف في سبيله الجلاميد والنّؤى، وتظل تتدحرج ويضرب بعضها بعضاً فتنسحق وتتفتت، فراعه أن ينزلق وسطها، ويكون مصيره مصير جلمود منها. . . وفيما هو يعمل فكره، وفيما هو يتلفت يمنة ويسرة، إذا به يرى عجوزاً تابّةً تدب على عكاز غليظ، مقبلة نحوه، مادة ذراعها المعروقة مستغيثة لهفى: (بُني! بُني! انتظر أرجوك! انتظر يا ولدي!!) من هذه؟ لا يدري جاسون. بيد أنه انتظر حتى أقبلت العجوز وسألها عن شأنها، فتوسلت إليه أن يحملها على ظهره ليعبر بها مجرى السيل! ووجم جاسون قليلاً، ولكنه ذكر وصاة شيرون أستاذه، فتبسم، وانحنى للمرأة فاحتملها على كاهله القوي العتيد، ثم رجاها أن تدفع إليه بعكازها يتوكأ عليه ففعلت، وتقدم بخطى وئيدة، ولكنها أكيدة، إلى مجرى السيل لا يفكر في نؤيه وجلاميده، ولا جيشانه واصطخابه، بل يفكر في أنه يجب أن يؤدي يداً لهذه العجوز التي استغاثت به. . . وعبر مجرى السيل، وبلغ عُدْوته الأخرى بعد عناء وجهد، ووضع على الرمال اللينة المتطامنة حمله. . . ولكن. . . يا عجبا!! أين هي المرأة العجوز الحيزبون؟ أين الكومة من الجلد المتهافت، والعظام النخرة، التي كانت ترهق كاهله؟ لقد ذهبت، ووقف مكانها شباب رائع، وجمال فتان، وغادة حُسّان مفتان!!
- يا للآلهة! من أنت بحق السماء يا ربة؟
- أنا؟. . . ألا ترى إلى هذا الطاووس المزهو بذيله وألوانه أيها العبد الصالح؟
- أوه؟! أو أنت جونو؟
وسجد جاسون بين يدي الربة، سيدة الأولمب، ثم أذنت له أن ينهض، وأخذت برأسه فباركته، وسألها أن تهبه رعايتها في حله وترحاله فوعدت، ثم رفت في أثير السماء التي تفتحت لها أبواباً، وغابت عن بصر جاسون!
ووقف الفتى لحظة مسبوهاً مشدوهاً ثم انطلق في طريقه. . . وراعه بعد مرحلة طويلة أن يرى إلى قدميه فلا يجد إلا نعلاً واحداً في إحداهما. . . أما الأخرى، فقد ذكر أن السيل انتزعها من قدمه واحتملها، وهو لا يستطيع استعادتها، لأن حمله كان يرهقه!
ثم بلغ يولكوس
ورأى جمعاً حاشداً حول ملكها بلياس، الذي وقف ينحر الذبائح، ويقرب القرابين للآلهة، ويفرق حواياها في الفقراء! فدافع الناس، وشق طريقه إلى الهيكل حيث وقف الملك، ثم سار إلى عمه قُدُماً، حتى كان قبالة المذبح. . . وما كادت عين صاحب العرش - أو غاصبه - تقع على الفتى الذي يلبس نعلاً واحدة حتى شحب لونه، وغاضت الدماء الوردية من خديه، وأخذ قلبه يخفق ويضطرب اضطراباً شديداً. . . ذلك لأنه ذكر تلك النبوءة التي تنبأ له بها أحد سحرائه، والتي حذرته من الشاب الذي يقبل من بلاد بعيدة لابساً نعلاً ذهبيةً واحدةً في إحدى قدميه في حين يكون هو مشغولاً بتقريب القرابين للآلهة!! إن هذا الشاب يقتله!!
وأمر حراسه بالقبض على الفتى وإحضاره إلى غرفة العرش فجيء به إليها، ولم ينتظر جاسون حتى يبدأه عمه بالكلام، بل وقف أمامه جباراً يغلي الدم في عروقه، وطلب إليه أن يعتزل الملك، ويخلع التاج، ويعطي الصولجان صاحبه، وأن يعيد الحق إلى نصابه. . . (لأنك انتهزت ضعف أبي الذي أوهن منه عظامه، واشتعل رأسه شيباً. فعَتَوْتَ عليه، وألبت عليه الأوشاب من مرتزقة الجند، ورعاع الشحاذين والأفاقيين، فلبست تاجاً ليس لك، واستويت على عرش تزعزعه الجريمة من تحتك، ثم حاولت أن ترشو الآلهة وتخدع السناء بالأضحيات والقرابين، ولكنك لا تخدع إلا نفسك فالتمس لها السلامة من موت يبغتك، ومغبة وبال يحيط بك. . .)
وكان بلياس يسمع هذه الكلمات الثائرة كأنها سهام تملأ أذنيه، ومنايا تطير حول قلبه. . . بيد أنه استعد لها بالمكر، وتهيأ لصيدها بالخدعة، فتبسم لابن أخيه وقال: (ماذا تقول يا جاسون؟ أتحسبني يا بني قد سلبت أباك عرشه، وغلبته على صولجانه؟؟ كلا والله يا بني كلا. . . ولكن. . . ليسكن طائرك قبل كل شئ. . . فلقد دعوت نفراً من (رعاياك!) لوليمة إلهية، وقد أقبلوا من كل فج، وهم ينتظروننا الآن، وليس من حسن الرعاية ولا من مروءة الملوك أن يستأنوا عن مواعيدهم، فهلم تلقهم يا جاسون، وترحب بهم، فإذا فرغنا وفرغوا من طعامهم، عدنا سوية لنبحث هذا الأمر الذي أهمك وأقلقك، وملأ فؤادك بالوساوس والأراجيف؛ وسترى أن الذي أنبأك هذا النبأ زخرفه عليك، وشوه حقيقته في نفسك، بدليل هذه النيران التي تنقذف كلمات من فمك!! تعال. . . مرحباً بابن أخي جاسون! لشد ما أنا مشتاق إليك يا حبيبي!)
ثم قبله في جبينه قبلة صفراء قاتلة، أفتك من قبل التماسيح؛ وانطلقا إلى البهو الكبير، حيث صُفّت الأخاوين الحافلة بأشهى الآكال وأطيب الأشربات، وحيث جلس المدعوون إليها صفوفاً وصفوفاً وألوفاً وألوفاً. . .
وجلس جاسون فأكل وشرب، ثم أخذت الموسيقى تعزف فتشرح الصدور الحرجة، وتشفى النفوس من كل حرد؛ واعتلى المنصة التي أقيمت في صدر الحفل جماعة من المنشدين ورواة القصص، شرعوا يسردون قصصهم، ويتناشدون أشعارهم، ويروون من أنباء الأبطال ما يأسر القلوب ويسحر الألباب، حتى أن جاسون نفسه كان يصغي إليهم وكأنه يتلقى وحياً من السماء يتنزل على قلبه، ويدعوه إلى فعال الفتية الأبطال
قال أحد المنشدين (واسمعوا أيها الناس حكاية الملك الذي صبا قلبه إلى امرأة غلبت فؤاده وسحرته بجمالها عن زوجته وأم طفليه، فبنى عليها، ولم يبال أن ينقض ركن الأسرة وينهار عمادها. . . ذلك هو أتماس أحد ملوك تساليا في الزمان القديم. ولقد فزعت الملكة البائسة وخشيت أن يصيب طفليها مكر ضرتها فاعتزمت أن ترسلهما إلى ملك كولخيس ليكونا بنجوة من إينو الخبيثة. . . وفيما هي واجمة تفكر في ذلك إذا هرمز الأمين يتنزل من السماء فيسألها وتجيبه:
- نيفيل أيتها العزيزة؟ فيم تفكرين حزينة هكذا؟
- هرمز؟ تباركت يا رسول السماء! أفكر في ولدي هذين وما عسى أن يصيبهما من مكر إينو. . .
- لا عليك يا حبيبة الآلهة، إنني مساعدك، كفكفي دموعك!
- شكراً يا إله الرحمة، سأسبح لك ما حييت!
- وأين تحسبينهما يكونا في سلام وأمن يا نيفيل؟
- لا يكون ذلك إلا عند ملك كولخيس، ولا أدري كيف أرسلهما إليه؟!
- لا أهون من هذا، فانتظري طرفة عين!
ومضى الإله فغاب برهة، ثم رجع ومعه كبش عظيم ذو فروة ذهبية وقرنين وحوافر من خالص الإبريز، فقدمه إلى الملكة المحزونة ليركبه طفلاها، ولينقلهما إلى ملك كولخيس؛ وسجدت الملكة شكراً لهرمز، ثم ودعت طفلها فركسوس، وابنتها هِلّه، وطبعت فوق جبينهما وخدودهما ألف ألف قبلة، ودعت لهما؛ ثم انطلق الكبش في الأثير يطويه بين بكائها الطويل وآهاتها التي لا تنتهي. . . وطفق الكبش يعرج في السماء، ويخطف فوق الممالك، حتى كان فوق بحر صاخب مضطرب، تقلبت أمواجه، وتناوحت زوابعه، فنظرت الفتاة المسكينة هِلّه تحتها لترى ما هنالك، ولكنها فزعت فزعاً شديداً حينما رأت سراطين البحر وحلازينه تقتل وتحترب ويأكل بعضها بعضاً، فارتجفت رجفة هائلة، وانفلت صوف الفروة من قبضتها فسقطت من عَل وجعلت تهوي حتى تردّت في البحر وابتلعتها أمواجه. . . ومنذ ذلك الوقت، وهذا المكان يعرف من أجل ذلك باسم (الهلسينت) نسبة إلى الفتاة البائسة هِلّه! ومضى الكبش يستبق الريح، ويطوي العوالم، حتى وصل إلى مملكة كولخيس، فهبط قليلاً قليلاً، حتى إذا كان على الأرض نزل الفتى فركسوس فصلى للآلهة، وذرف الدمع على أخته، وسلم على الملك الذي هش له وبش، وأحسن لُقياه وأكرم مثواه، ثم شحذ سكينه وتلّ الكبش لجبينه، وكبر وسبح باسم جوف، وبأسماء آلهة السماء وجزر الحيوان قرباناً لهم جميعاً. . . وسلخ الجلدة الذهبية وقدمها هدية للملك الذي فرح بها فرحاً شديد، ولأنها كانت تعدل كل ما في كنوز الملوك من ذهب. . . وقد ربطها الملك في سنديانة باسقة، ووكل بها تنيناً هائلاً ليحرسها وليسهر عليها من كل سارق رجيم. . . ومنذ ذلك اليوم والفروة التي تعدل ألف كنز معلقة لا تمتد إليها يد، ولا يجسر أحد أن يقترب منها وإلا جازف بنفسه وأصبح لقمة سائغة للتنين. . .)
ولحظ بلياس كيف زاغت عينا جاسون عندما سكت المنشد، فانتهز الفرصة، وانطلق يغريه بالاستيلاء على الفروة الذهبية، ليكون بها أعز الملوك وأضخمهم غنى، وأوفرهم ثراء؛ ثم ليخلد اسمه بين أسماء الأبطال الذين دوخوا الممالك، وأتوا من الفعال ما جعلهم أنشودة المجد في فم الزمان. . . (ولم لا يا ابن أخي؟ لقد علمت أن أستاذك الذي نشأك، وهذبك وأدبك، هو شيرون السنتور الأكبر، أستاذ أخيل العظيم؛ وقد خلد أخيل اسمه على أسوار طروادة، وأعلى ذكره في جميع الأنام، فلم لا تذهب إلى كولخيس لتحصل على الفروة الذهبية إما سَلْماً وإما حرباً، وأنت من أنت في أبطال الوغى، وصناديد الحروب؟ ألست أرمى الناس لسهم، وأضربهم بسيف، وأحذقهم طعاناً برماح؟ إنها فرصة المجد لمن يبتغي المجد يا جاسون، فلا تضعها! لا تقل (بل حسبي أن أحكم الناس) فالناس يعشقون أشجع الناس. . .) وهكذا طفق بلياس المخادع يزخرف للفتى، حتى هاج في صدره الشاب نائم المنى وأبعد الآمال. . . فرضي جاسون بالاضطلاع بهذه المجازفة، وظن أنها من اليسر بحيث لا تستعصي على شجاعته. بيد أنه عندما خلا إلى نفسه، وراح يفكر في الوسيلة التي يبلغ بها مناه، بدت له حقائق أسقطت في يده، وجعلته يتخاذل، ويندم على الوعد الذي وعد عمه؛ غير أنه ذكر ما قال له أستاذه شيرون من ضرورة احترام الوعد، وربطه بالشرف، فصمم على السفر إلى كولخيس وجلس يفكر فوق عدوة النهر، وكانت سمادير اليأس تملأ بظلماتها عينيه، فلم يهتد إلى الوسيلة!!. . . وانطلق إلى غرفته فقضى فيها ليلة ليلاء مثقلة بالهم والفكر. . . ثم انبلج الصبح، فانطلق إلى هيكل جونو عند دودونا. . .
- جونو. . . جونو. . . لقد كدت أنسى جونو. . . يجب أن أصلي لجونو، فقد وعدتني أن تدركني بغوثها كلما حزبني أمر. . . لقد حملتها على كتفي هذين في صورة عجوز شمطاء! وهي ستحمل عني هذه المرة!)
ووقف بجانب المذبح يرجو ويتوسل ويصلي؛ وكانت سنديانة هائلة - هي الناطقة بنبوءات جونو - نامية وراء المذبح، فسمعها جاسون تهتف باسمه وتقول:
- لبيك أيها الفتى لبيك! لبيك وسَعْدَيك يا جاسون! يا حبيب جونو لبيك! كفكف غوارب دمعك فسترعاك الربة وتحفظك. . . تعال! اصعد فوقي! اقطع أحد أغصاني واصنع منه عصاً، واجعل لها رأساً على هيئة السفينة التي تحملك إلى كولخيس وسيبنيها آرْجس لك، وذلك بإشراف مينرفا. . . ولتكن العصا معك دائماً، ولكن لا تنقلها من السفينة فهي حارستها، وكلما ألم بك خطب أو حز بك أمر، فارجع إليها فهي تكلمك وتشير عليك. . .) وسكتت السنديانة، وصنع جاسون العصا، وذهب عند سيف البحر ليرى عمال آرجس، بإشراف مينرفا، قد فرغوا من السفينة الهائلة وأنزلوها الماء. ففرح واستبشر، وسماها (آرجو) نسبة إلى صانعها ثم أعلن عن حاجته إلى نفر من شجعان هيلاس، يقاسمونه مجازفته، فاجتمع إليه عدد غير قليل، منهم هرقل الجبار وكاستور وأدمتوس وتيزيوس وأرفيوس وبولكس ويليوس. . . وأعدوا ميرتهم، واستكثروا من ذخيرتهم، ثم همت الفلك، واحتواها الماء
(البقية في العدد الآتي)
دريني خشبة