الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 225/القصص

مجلة الرسالة/العدد 225/القصص

بتاريخ: 25 - 10 - 1937


من أساطير الإغريق

بومونا

للأستاذ دريني خشبة

عروس من عرائس الغاب يترقرق الجمال في إهابها الوردي وتلتمع في فمها الرقيق الخمري ثنايا من اللؤلؤ الرطب، وتبسم. . . فتثور من عينيها وشفتيها أسراب من النحل في قلوب العاشقين، تلسعهم، وتسقيهم رحيقاً!!

هي بدع من عرائس الغاب؛ فهي لا تغشى الأنهار تتلاعب في طيات أمواجها؛ وهي لا تحب البحر لا هادئاً ولا متمرداً؛ وهي تكره الغابة لأنها تعج بالأفاعي والوحوش، ومنظر هذه حين يساور أحدها الآخر يبعث في نفسها اشمئزازاً، ويثير فيها غضباً على الطبيعة الظالمة التي جعلت الضعيف فريسة للقوي يذله ويقتله. . . ثم يأكله

لذلك أولعت بومونا بالحقول الساكنة الهادئة، إلا من نشاط الحياة يسري فيها فتهتز وتربو، ثم تكتسي بالسندس، وتنضر بالزهر، وتطن بموسيقى اليعاسيب. . . وأولعت كذلك بالحدائق. . وقد غرست حديقتها على عُدْوَة النهر، وسوّجت عليها بسياج من شوك، ثم جعلت لها بوابة جميلة عرشت فوقها عساليج الشّبر والياسمين. . . وكانت تقضي في جُنينتها أكثر وقتها، ولو استطاعت لم تبرحها قط، لأن الزنبق الغض، والنسرين الجميل، وأكمام الورد، وهالات البنفسج، ونضرة الشقائق، وأرج التفاح، وعبق الرياحين، وشذى أزهار الخوخ العقيقية، وابتسامات الأقاح، ولآلئ الندى المبعثرة فوق العشب. . . كل هذا كان أحب إلى قلبها الخلي، ونفسها العزوف، من هؤلاء الناس، والآلهة، وأنصاف الآلهة، الذين كانوا ينتظرون أوبتها في المساء إلى دارها، فيقفون في طريقها، ليفوز من يفوز منهم بنظرة أو خطفة أو لمحة، يعود بعدها إلى منزله مصدع القلب، حائر الروح، خفق الأحشاء موهون القوى!

وكأيّن من قائل لآخر:

- أرأيت بومونا هذا المساء يا صاح؟ - الحُسّان المفتان! أجل والله. . . رأيتها، وأورثتني ألف حسرة يا صديقي!

- أوَ مشغوف أنت بها حباً؟

- ومنذ الذي لم تشغفه بومونا حباً، وقد تبلت قلوب الآلهة؟

- إني أغار من كلماتك أيها الصديق. . . فاقصر!

- وأنا أغار من غيرتك، فاذهب لطيتك!!

ويكاد أحدهما يحرق صاحبه بالشرر الذي ينقدح من أغوار قلبه. . . عن طريق عينيه. . . ثم يمضي كل في سبيله. وهكذا تعادى الناس في بومونا، وهكذا تنافس الجميع في حبها حتى الآلهة فلقد رآها أبوللو وجن بها جنوناً، ولقيها مارس وفتن بها فتوناً. . . ولكن العروس كانت لاهية عن الجميع، لا يتفتح قلبها لحب ولا يرق قلبها لشكاة القلب المغرم الصب؛ وكل ما كان يصبيها، ويشغل بالها، هو هذا الفردوس الحبيب، الذي لا يضايقها بكلمات الغزل، ولا يضجرها بالأنظار الجائعة؛ بل يحييها دائماً بالابتسامات البريئة وبالرّوْح والشذى

غير أن واحداً من عشاق بومونا كان يعدل لا حبه لها حب، ولا يسمو إلى افتتانه بها افتتان. . . فتى لمحها مرة تطوي الطريق قبيل الشروق إلى حديقتها، فوجده منجذباً إليها، مجنوناً بها، فتبعها، وجعل يقلب عينيه في مفاتن شعرها المتهدل فوق ظهرها وكتفيها، حتى ليكاد يقبل العقبين الرائعتين، اللتين أخذتا تعلوان وتهبطان على ثرى الطريق، كأنهما ختم الطبيعة في صك البكور أو زهرتان من اللوتس، ترشفان سلافة الندى. . . وكان جسمها الرخص يتأود كالخيزران، وساقاها الناصعتان المرمريتان تضيئان في غبشة الصبح، فتضرمان في قلب فرتمنوس نيران الحب، وتزلزلانه زلزالاً عظيماً

وعرف الفتى ميعادها، فكان يصحو مع الفجر، ويهرع إلى الطريق، ويلبث يعد الدقائق والثواني كأنها ساعات بل أيام بل دهور وآباد. . . حتى إذا أقبلت، شعر بقلبه يخفق، وأعصابه تذوب، وأحس كأنه خفّ على الأرض، وغدا طيفاً يوشك أن يسري مع نسيم الصباح الذي تنشقه بومونا. . . له الله! لكم منّى نفسه بقبلةٍ يطبعها على هذا الفم الشتيت تُذهِب حرّ قلبه وتشفي صدى روحه الظامئة المتعطشة، ولكنه كان يعود أدراجه كل صباح بعد أن يتأثر سالبة لبه، ولا لب له، ولا قلب معه، ولا مداوي لجراحات فؤاده إلا دموعه يسكبها عبرة في إثر عبرة، وإلا آهاته يرسلها من أعماقه فتزيد فؤاده جراحاً!

وذوى فرتمنوس وذبل شبابه، وشَفّه الهم وأضوى جسمه الفكر، واستسلم لبكاء طويل يتعلل به، وغناء يشبه العويل، يرسله في نبرات تشبه الأنين، يضمنه بثه، وينظمه شكواه، ويلف فيها بقايا فؤاده المعذب، ويودعه النُّطَف الأخيرة من روحه الحيرانة، ويذهب به في الليلة المقمرة فتجتمع حوله الوحوش، وتسكر بموجع أنغامه الهوام، ويرقص من فوقه الشجر. . . ثم يبكي كل هؤلاء له. . . ويعود من حيث أتى!

ولقيته مرة فينوس فرقت له، ورثت لحاله، وراعها أن يلقى محب كل هذا العذاب، في هوى عروس غاب، فجلست إليه تسامره وترفه عنه

- أهكذا يقتل الناس الحب يا فرتمنوس؟

- إي وحقك يا ربة! لقد نال مني هواها، ولم أعد أفكر في أحد سواها!

- مسكين! وهل كلمتها قط؟

- مرة واحدة اجترأت أن أهتف باسمها، ولكنها أشاحت وأعرضت عني

- وفيم تطمع إذن؟

- أطمع في رضائها، وأطمع بعد ذلك في العيش في ظل حبها

- وإذا لم ترض؟

- سأعيش لحبها وآلامي! ولكن؟

- ولكن ماذا يا فرتمنوس؟

- ألا تساعدينني يا ربة الجمال؟ ألا تتفضلين فترققي قلبها عليّ؟

- عندي فكرة!

- أضرع إليك يا ربة!

- سأمنحك قدرة التشكل، وتستطيع أن تبدو في أي صورة شئت

وانحنت ربة الحب والجمال فتناولت من ماء الغدير قطرات، ثم نفثت فيهن وتمتمت بكلمات سحرية، ونظرت إلى الفتى في ظرف ودل، ونثرت الماء في وجهه

- والآن، فكر في أي صورة تنقلب إليها

وأخذ فرتمنوس يتقلب في صور شتى. . . وكلما حاول أن يرتد إلى صورته الأولى لم يستطع، فتضاحكت فينوس وقالت له:

- فكر أيضاً في صورتك الأصلية قليلاً. . .

وسرعان أن عاد إليها. . . ثم ودعته ربة الجمال والحب وهي تقول له:

- تستطيع الآن أن تلقى بومونا، وسأرى ما يسوقك إليه ذكاؤك! ورفت فينوس فكانت في سماء الأولمب!

واستطاع فرتمنوس أن يدخل حديقة حبيبته في أي لحظة شاء. وكان يدخلها في صورة بلبل غرد، ما يزال يغني ويهتف حتى يلفت إليه أنظار بومونا وأسماعها؛ وكان يتبعها أينما ذهبت فيقف على أقرب شجرة، ثم يرسل أغاني الحب وأغاريد الغرام، فتنسكب في أذني عروس الغاب، فتقف لتسمع لحظة، ثم تأخذ في عملها كأنها لم تسمع شيئاً. . . فيتضايق الفتى، ويطير أسوان أسفاً. . .

واستمر على هذه الحال أشهراً، وكل يوم يمر يزداد بالعروس هياماً، ويفنى فيها حباً، حتى خيف عليه من المرض؛ وأحس هو أن ريب المنون يسري في عظامه، وبرد اليأس يوشك أن يوقف نبضات قلبه؛ ثم بدا له آخر الأمر أن يزور حبيبته في صورة أخرى تختلف عن تلك الصور البلبلية التي اعتاد أن تراه فيها، ثم عول هذه المرة - إذا لم يفز بحبيبته بومونا - على أن ينتحر تحت قدميها في صورة البلبل الحزين!

رأى أن يزورها في صورة عجوز شمطاء! ولم لا؟ أليس عجائز النساء أقدر على إيلاف قلوب العذارى من كل أحد غيرهن؟ أليس لهن حديث طلي يتصل من حيث ينقطع، ويتشقق عن كل خرافة حلوة وكلمة طيبة، وبأسلوب ظريف يشبه (تنميل) الخمر في أطراف السكارى؟!

وقف فرتمنوس في ظل أيكة باسقة نامية في منعرج قريب من حديقة بومونا، ثم طفق يفكر في صورة عجوز طيبة القلب، سمحة الملامح، وراح يتخيل شعرها الأشمط وذوائبها الخلس وغدائرها الزُّعر، ويديها عريَتي الأشاجع، وعينيها الغائرتين، وجبينها المجعد، ووجهها المعروق. . . فكان له كل ذلك، ثم كانت له هيبة ووقار وأسْر، في سكينة ودعةٍ وحسن سمت. . . وأضفى عليه حِبَرة سوداء فضفاضة، وجعل في قدميه خفين هرمتين، وفي يده عكازاً مقوساً ما أشبهه بصولجان الموت! ثم جعل يدب في هيئته تلك، حتى كان لدى باب الحديقة فطرقه؛ وكانت بومونا تقطف الزهر وتضع منه باقات تقدمها لصويحباتها عرائس الغاب في مثل ذلك اليوم من كل أسبوع. . . فلما لمحت العجوز تتهالك على نفسها بباب حديقتها، أسرعت إليها وحيتها أحسن تحية وألطفها، ثم فتحت لها وأدخلتها، وكانت الخبيثة - أو كان الخبيث - تبالغ في إظهار الضعف وتعمُّل الإعياء، فكانت بومونا تسندها من هنا، وتشد أزرها من هناك. . . حتى وصلتا آخر الأمر إلى ضُلّة وارفة ذات أفياء، يعرش فوقها كرم نضير تدلى جناه الحلو الناضج، يغازل العيون والأحشاء؛ وأشارت العروس إلى العجوز كي تجلس على إحدى الأرائك التي صُفت عليها الوسائد والحُسْبانات ففعلت، ولكن. . .؟ بعد أن أخذت بفَوْدَي بومونا. . . وطبعت على ثغرها القبلة الأولى الحارة. . . قبلة الأماني والأحلام!!

لقد شُدهت بومونا من أسر هذه القبلة، لأنها من تلك القُبَل الفاترة الباردة التي تخرج من شفاه العجائز كزمهرير الشتاء، بل كانت قبلةً ناعمةً فيها خمر ولها حُمَيّا، وفيها شعر وموسيقى، وفيها روح وامقة صادية كانت تتردد على شفتي العجوز كأنما حاولت أن تلقي في صدر الفتاة بكل أسرارها!!

ولولا أنها كانت عجوزاً حَيْزَبوناً لعشقتها بومونا. . .

ووثبت الفتاة فقطفت عِزقاً من العنب وقدمته للضيفة العجوز. . . ولكنها بدلاً من أن تجدها تهش للثمر الجني الشهي وجدتها غائبة عن رشدها. . . أو. . . كالمغشي عليها! ترى! ماذا أصاب أخانا فرتمنوس المختبئ في جلد هذه العجوز؟! آه! مسكين! إنه لم يكد يفيق من سحر القبلة، حتى رفع بصره إلى بومونا، فشهد العجب العاجب، والجمال النادر، والحسن الباهر، والرونق والبهاء والرواء!! لقد شهد الساقين الجميلتين والقدمين الصغيرتين وشهد الركبتين الرائعتين الملتفتين. . . وقليلاً من الفخذين اللجينيتين. . . فاستطير لبه، وصبا قلبه، وشردت أفكاره، وغشي عليه؟!

ولما أفاق - أو أفاقت العجوز - سألتها ماذا أصابها، فشكت وطأة السنين وضعف البدن، وتهافت أعضائها من الكبر؛ ثم شكرت لها عِزق العنب، وأخذت في أكل حباته، وهي تخالس العروس النظرات. . . ثم نظرت إلى الكرم العارش فوقهما، وأرسلت من أعماقها آهة طويلة حامية، ثم قالت تحدث الفتاة: - أرأيت يا حبيبتي (!) لو نما هذا الكرم على الأرض من غير أن يحمله هذا العريش، هل كان يُؤتي أُكله، ويحلو عنبه كما هو حلو هكذا؟

- كلا يا أماه! هذا شيء بدهي!

- تعنين أن الكرم لا يستغني عن هذا العريش!؟

- طبعاً!

- ولا غناء للعريش من غير كرم!

- لا يكون منظره جميلاً رائعاً كما يكون ومن فوقه الكرم!

- عجباً لكن والله يا عذارى!! تعرفن ذلك، ولا تفكرن في عطلكن!!

- أوَ عاطل أنا يا أماه؟ ماذا تقولين!

- عفواً يا ابنتي. . . فإن لك ألف حلية من جمالك الذي لا جمال مثله. . . إنما قصدت أنكن تزهدن دائماً في أن يكون لكُن أزواج كما لهذا الكرم عريش. . . لاسيما أنت يا صغيرتي بومونا إني أعرف أن كل شباب المدينة مولعون بك، وكل أمراء النواحي متيمون في هواك؛ وأعرف أيضاً أن منهم من يتعذب بالليل، ويذل بالنهار، لأنك ترفضين أن تمنحيه نظرة حين يلقاك في الطريق، وقد وقف لهذا اللقاء ساعات وساعات. . . بل أعلم يا أجمل عرائس الغاب أنك قد برزت هيلين الهيفاء، وبنلوب اللعوب في كثرة العشاق الذين يعبدون جمالك، وتخبت قلوبهم لحسنك، وتتصدع صدورهم من هول ما تهجرين وتصدين. ماذا؟ لم يا بُنيَّتي لا تختارين لنفسك من بينهم كفءً يقاسمك هذه الحياة وتقاسمينه، ويشركك في هذه الحديقة الفيحاء وتشركينه، ويبسم لك وتبسمين، ويواسيك وتواسين؟ ما غايتك من هذه الوحدة، وأنت بها في منفى، ولو أينعت حولك ألف ألف بنفسجة، ومثلها من الورود والرياحين؟ وهذا الفتى المسكين الذي اسمه. . . اسمه. . . اسمه ماذا؟ آه! فرتمنوس! ذكرت أني سمعت أنه يحبك حباً أورثه السهد، وأولاه الضنى، حتى لم يبق منه هواك إلا حشاشة تترقرق دموعاً في عينيه، وتتأجج نيراناً في صدره. . . لم لا ترحمينه يا بومونا؟ لم لا ترثين له يا أجمل عرائس الغاب؟ إنه ليس إلهاً ولا نصف إله، ولكنه خليق بحبك جدير بأن تكوني له من دون العالمين، لأنه مغرم بك أكثر من كل عشاقك؛ وهو ليس كجميع العشاق، لأنه لم يحببك إلا عن بصر بك، وتقدير لحسنك، ولأن عشاق هذا الزمان مفاليك لا ألباب لهم، فهم ينظرون النظرة فتهيج شياطين الهوى في صدورهم، ثم ينظرون النظرة إلى حسناء أخرى فتنجذب شياطينهم إليها، فإذا لقيتهم ثالثة لم تأب تلك الشياطين أن تتصرع تحت قدميها. . . أما فرتمنوس، فقد أحبك ولم يشرك حسناء في هواك، لأنه لا يرى لك في قلبه شريكة تسمو إلى إخمصيك. . . ارحميه يا بومونا، اعطفي عليه، وانظريه كأنه يتوسل إليك بلساني، ويشكو لك بثه بعيني (!). . . ألا تخافين أن تقتص له فينوس منك؟ ألا تعلمين أنها تتأثر للعشاق من كل حبيبة قاسية القلب؟ ألم تعرفي ما صنعت بالقاسية أنَاْجزَرْتيه؟

- ومن أناجزرتيه يا أماه؟ وما قصتها؟

- ألا تعرفينها؟ ولا تعرفين مأساة الفتى إيفيس؟

- وما مأساة إيفيس؟ قصيها عليّ بالله عليك!

(لقد كان إيفيس فتى جميل المحيا وضاء الجبين، ولكنه كان من صميم الشعب؛ وكانت أناجزرتيه من بنات الأعيان الموسرين. . . وكانت بينهما من أجل ذلك هوة سحيقة لم تمنع إيفيس من حب الفتاة لدرجة الجنون. وكان كلما لقيها غشيه من الغرام ما لو حمله جبل لناء به، ولكن الفتاة كانت تعرض عنه ونزْوَرّ، وتطوي الطريق عجلاته إلى قصرها الباذخ المنيف ذي الشرفات. . . وكان الفتى يتبعها بقلب وامق متصدع ولكنها كانت تدخل من باب الحديقة الحديدي ثم توصده من دونه، فيقف ثمة يتزود منها نظرات الموجع اللهفان من خلل القضبان، ثم يذرف دموعه، وينثني إلى داره، وليس في قلبه إلا حبها مع ذاك، ولا في عينيه الباكيتين إلا صورتها! وطالما كان يهب من نومه في جنح الليل فيطوي الطريق مُفَزَّعاً، حتى إذا كان لدى البوابة الحديدية وقف عندها، وعانق قضبانها، وبكى ما شاءت الآلهة، وتغنى آلامه وغرامه، ثم ارتد وقد تضاعف وجده، وازدادت صبوته. . . وكم ذا رأته أناجزرتيه فكانت تحقره وتسخر منه، بل كانت لا تعفيه من كلمة قارصة، أو غمزة تهكم واستهزاء، ولم يشفع لديها ما قاله مرة لمرضعها العجوز وما بث من شكاة، بل زادها ذلك قسوة وعناداً. . . ولما جد به الجد، ولم يكن بد مما ليس منه بد، ذهب إليها في ضحوة ضاحكة من ضحوات الربيع، ثم تعلق بالبوابة، وكانت حبيبته ترتع وتلعب في حديقة القصر، فهتف بها وقال: (أيتها القاسية أناجزرتيه اسمعي! لقد قهرت قلبي وغزوت نفسي وتم لك النصر! فهنيئاً لك! تَغَنّي أناشيد الفرح واللذة الصارمة لأنك قتلت إيفيس! اعقدي فوق هامتك إكليل الغار لأنك أذللت قلبه العزيز، ومرغت في التراب روحه العالية. . . ولكن أصغي إليّ يا متحجرة القلب. . . لقد عولت على أن أشرب كأس المنون، ولكني آثرت أن أشربها أمامك إن لم يكن بين يديك، لتتلذذ عيناك بهذا المنظر الموجع الأخير، وليبتهج قلبك بآخر صورة من صور انتصاراتك عليّ. . . بيد أني أهتف بك يا آلهة السموات أن تثأري لي، وأن تجعلي لي ذكراً في قصص المحبين يتناقله الخلف عن السلف، ويتذاكره الناس في طويل العصور والآباد. . .) وكانت السماء كلها تصغي لما يقول إفيس فلبّت واستجابت. . . وكان قد ربط حبل مشنقته في قضبان البوابة، وجعل أنشوطتها في عنقه، فلما انتهى من مقالته ألقى بنفسه. . . وقبضت روحه! ولم تتحرك أناجزرتيه مع ذاك، بل أرسلت خدمها الذين نقلوا الجثة إلى أم الفتى وهم يبكون ويضجون. . . وصرخت الأم المفجوعة وولولت على وحيدها، ثم حمل الجثمان في إران إلى المقابر، ومر الموكب الحزين من الشارع الذي فيه قصر الفتاة القاسية، فصعدت لتنظر إليه، ولكنها ما كادت ترى إلى الجثة مسجاة في النعش حتى تثلجت عيناها، ثم استحالتا إلى رخام بارد. . . وروعت لما أصابها، وأرادت أن ترجع قليلاً، ولكنها لم تستطع لأن الرخام سرى في قدميها أيضاً. . . ثم في ساقيها. . . ثم في ذراعيها. . . ثم في جميع جسمها. . . أما قلبها، فقد كان رخاماً منذ زمن بعيد. . . وكذلك تحولت أناجزرتيه إلى تمثال ما يزال محفوظاً في متحف فينوس بسلاميس. . . عظة وذكرى. . .)

وكأنما عملت القصة عملها في نفس بومونا. . . فانذرفت من عينيها الحزينتين عبرتان حارّتان. . . ونظرت لترى إلى العجوز. . . ولكن. . . لقد كان فرتمنوس العاشق الحزين الجميل القوي يجلس مكانها، ويأخذ برأس الفتاة على صدره. . . فقالت له:

- من أنت أيها الفتى؟

- أنا. . .

وانفجر في بكاء شديد وقال:

- حبيبك فرتمنوس يا بومونا. . .

فقالت: أهو أنت؟ وتبادلا قبلات أشهى من الشهد، وأشد أسراً من الخمر. . .

دريني خشبة