الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 225/التشريع والقضاء في العهد الفرعوني

مجلة الرسالة/العدد 225/التشريع والقضاء في العهد الفرعوني

مجلة الرسالة - العدد 225
التشريع والقضاء في العهد الفرعوني
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 25 - 10 - 1937


للأستاذ عطية مصطفى مشرفة

- 1 -

قبل أن نتكلم عن تاريخ القضاء في مصر، ينبغي أن نمهد بكلمة عامة تتناول حالة المصريين في عصورهم الأولى قبل أن تنشأ فكرة القانون بينهم وقبل أن يخضع نظامهم لقواعد معينة مرتكزة على قوة الدولة تحدد سلوكهم وتنظم ما بينهم وبين غيرهم من علاقات

تدل الآثار المصرية على أن النوع الإنساني قطن مصر منذ أزمان عهيدة، وأثبت أكثر الباحثين في تاريخ الأجناس البشرية أن هذا النوع الإنساني عندما استوطن وادي النيل أخذ في استثمار أرضه، فظهرت الأسرة تبعاً لثبات المعيشة واستقرارها وأصبحت النواة الاجتماعية الأولى للمجتمع المصري. وكانت الأم في الزمن الغابر هي قطب دائرة الأسرة إذ لم يعرف الطفل إلا والدته؛ ثم ظهر الأب وأصبح له السلطة العليا عليها فخضع له جميع أفراد أسرته من زوج وولد ونزيل ورقيق

قامت إذن الحياة الاجتماعية الأولى عند قدماء المصريين كما قامت عند غيرهم من الأمم القديمة على جماعة الأسرة؛ ذلك بأن الإنسان مدني بطبعه ليس في قدرته أن يظل منعزلاً عمن حوله، فهو محتاج دائماً إلى مساعدة غيره له في كل أطوار حياته

فالأسرة إذن هي أول خلية اجتماعية وجدت في الجنس البشري؛ وهذه الوحدة الاجتماعية الأولى اشتملت على جمع من الأفراد ربطتهم عاطفة القرابة وجمعتهم صلة الدم، وكانوا يخضعون خضوعاً تاماً في أموالهم وأرواحهم لرجل فيهم هو أب الأسرة أو جدها؛ فكان هذا الرئيس هو الذي يوفي بعهودها ويطالب بحقوقها ويقضي بين أفرادها، وكانت كلمته فيهم بمثابة فرض يطيعه أفراد أسرته ولو كان ظالماً؛ وكان أفراد الأسرة متضامنين يحافظون على أموال أسرتهم وحقوقها ويحمون أفرادها ويتحملون أعمال كل فرد فيها، فعلى كل منهم تقع مسؤولية أخيه ونتيجة جرمه، لأنهم متضامنون في الشر والخير معاً، فلكل منهم أن يطالب بحق أخيه، وعلى كل منهم أن يأخذ بثأر أخيه

ثم اتسعت دائرة الأسرة على مر الأيام تبعاً لازدياد النسل حتى أصبحت عشيرة تتكون م عدة أسر ترجع إلى أصل واحد وتدين بعقيدة دينية واحدة؛ ثم اتسعت دائرة العشيرة فتحولت إلى قبيلة تتكون من مجموعة من العشائر تضم جمعاً من الأفراد تربطهم رابطة القرابة أو المصاهرة أو المصادقة أو الضرورة للتعاون على اتقاء الأخطار؛ ثم توطنت القبيلة في الإقليم، وكانت مصر مكونة من عدة أقاليم كثيراً ما كانت تتحارب، فيتغلب إقليم على آخر ويضمه إليه. وقد أدت هذه الحروب إلى تكوين مملكتين عظيمتين إحداهما في الشمال والأخرى في الجنوب، إلى أن وحدهما (مينا) أو (ميناوس) أو (مصرايم) أول ملوك مصر بجعلهما مملكة واحدة تخضع لسلطانه سنة 3400 ق. م فكان بذلك أول مؤسس لأسر الفراعنة. لذا قال (أرسطو) في الكتاب الأول من السياسة: إن الأسرة هي مصدر الدولة وأساسها الذي تقوم عليه

وإذ اتضح لنا أن الأسرة هي أول جماعة فطرية وجب علينا أن نبين كيف كانت تلك الخلية الأولى من الوجهة القانونية وعلى أي قاعدة حددت صلاتها وعلاقاتها بين أفرادها من جهة، وبين الجماعات الأخرى من جهة ثانية

كانت سلطة رب الأسرة أو رئيس العشيرة أو شيخ القبيلة مطلقة، يقضي بين أفرادها بما يشاء لا ينازعه في قضائه منازع؛ وتمتد سلطته إلى أموالهم امتدادها إلى أرواحهم. وكان يدير شؤونها الداخلية ويتولى أمورها الخارجية أمام الجماعات الأخرى وفقاً للتقاليد والعادات، فكانت كلمته قانون الأسرة بين أفرادها كما كانت القوة هي القانون الذي يحكم صلاتها مع الجماعات الأخرى؛ فهي التي كانت تفض كل نزاع مهما كان نوعه، سواء أكان هذا النزاع مدنياً أم جنائياً، فمن كتب له النصر وتمت له الغلبة كان الحق والعدل في جانبه. فكانت القوة تحمي الحق بل كانت تخلقه وتوجده؛ فمن كان قوياً استطاع أن يحصل على كل حقه، ومن كان ضعيفاً فات عليه من حقه على نسبة ضعفه؛ وكان الانتقام الفردي هو طريق عقاب الجاني أو الجناة، وكان للمجني عليه أو لأي فرد في أسرته أن يقضي رغبة الانتقام التي تجول في صدره فيختار من طريق العقاب ما يزيل به حقده على كل مرتكب للجريمة. وقد يقوم أفراد أسرة المجني عليه بمهاجمة أفراد أسرة الجاني لتضامنهم في الأخذ بالثأر، ولاعتقادهم بأن جرم الدم لا يمحوه إلا الدم إذ لم يكن هناك من قوانين وقواعد تنظم استعمال ذلك الحق كما لم يكن هناك من سلطات عليا تحدد العقوبة وتشرف على تنفيذها

كان الأخذ بالثأر إذاً حقاً وواجباً معاً؛ وكثيراً ما كان عبئاً ثقيلاً يقع على أفراد أسرة الجاني فتختار أهون الشرين وذلك بتسليم الجاني إلى أصحاب الدم، وبذلك تتخلى عن المعتدي إما خوفاً من الهزيمة وإما اجتناباً للحرب ورغبة في حقن الدماء. وقد تكتفي أسرة المجني عليه إذا وجدت نفسها أمام خصم قوي بالصلح تلقاء تعويض أو فدية تؤخذ من الجاني حتى تغض النظر عن طلب الثأر، وبذلك نشأت فكرة شراء الجريمة بالمال، وسمي ذلك بالدية أو بدل الصلح على الجريمة؛ فكان القاتل ينجو من العقاب إذا أفلح في الصلح مع أهل القتيل. ولم يكن المال الواجب دفعه ثمناً للصلح متساوياً في جميع الجرائم المتعددة من حيث الجسامة، بل اختلف كثرة وقلة بحسب مركز الجاني والمجني عليه معاً رفعة وضعة وبحسب مركز أسرتيهما وبحسب الإهانة التي لحقت الأسرة المعتدى عليها. بسبب الجريمة قامت العدالة إذن وتأسست على المصلحة المادية المؤيدة بالقوة والمعززة بها؛ وشاع نظام المبارزة الذي هو التجاء صريح إلى حكم القوة لفض نزاع مدني أو جنائي، فكان المنتصر هو صاحب الحق؛ وأصبحت المبارزة وسيلة قضائية أخرى لفض النزاع بين المتخاصمين

ثم خطا المجتمع المصري القديم خطوة أخرى إلى الأمام تبعد بعض الشيء عن حالة الوحشية السابقة، فركن إلى مهارة الخصمين لفض النزاع، فشرع مثلاً مساجلات غنائية بين الخصمين يكون المنتصر فيها صاحب الحق، أو ترك ذلك إلى المصادفة كإلقاء الخصمين مكتوفي اليدين أو الرجلين أو هما معاً في الماء، ومن أشرف منهما على الغرق كان هو مقترف الذنب؛ أو يكوى به اللسان أو أي عضو آخر في الجسم بحديد محمى، ومن يمتنع منهما كان امتناعه دليلاً على أنه المذنب، إلى غير ذلك. وكانوا يلجئون إلى هذه الوسائل وأشباهها في تعرف الحق لاعتقادهم أن الله لا يخذل صاحب الحق أبداً

ثم تدرجوا في الرقي فاختاروا (وسيطاً) يفصل في النزاع بحكمته بينهم، وانتهى التدرج إلى قبولهم (حكماً) يفصل في منازعاتهم، فحل (الحكم) محل (الوسيط) وبذلك أقبل الناس إلى شيوخ العشائر وإلى رؤسائها وإلى رئيس القبيلة وإلى كل شخص عرف بأصالة الرأي وصحة الحكم ليفصلوا فيما شجر بينهم من نزاع، فكان قضاء مضطرباً غير ثابت لأنه لم يصدر عن قانون مسنون يمده بقواعده، ولا يستند إلى سلطة عليا تتولاه وتؤيد أحكامه ولو بالقوة عند الاقتضاء، لأنهم كانوا غير ملزمين بالالتجاء إلى هذا (الحكم) ولا مجبرين على اتباع قراراته، بل لم يكن هو نفسه مجبراً على الفصل بين من يحتكمون إليه؛ وكانت القوة هي الملاذ الأخير يلجأ إليه من لم يرض بنتيجة التحكيم لفض النزاع. ثم خطت الأمة المصرية بعد ذلك خطوات سريعة إلى الرقي إذ أحلت النظام القضائي محل الطرق السابقة وحتمت الالتجاء إلى المحاكم لتفصل في النزاع وفق قانون معين مسنون

نشوء فكرة القانون عند قدماء المصريين

لما كان الإنسان محتاجاً إلى زاجر يزجره أو رادع يردعه فقد أحس منذ القدم وجوب وضع القواعد والقوانين التي تحدد له مدى سلوكه ونشاطه وتحفظ له حقوقه وتقي الناس اعتداءه؛ لهذا وجب أن نتكلم عن المظاهر الأولى التي برزت فيها فكرة القانون في المجتمع المصري القديم وكيف استقل وتباعد عن المصلحة المادية المعززة بالقوة

لما نشأت المدينة كوحدة سياسية وتكونت من جماعات هذبتها العقائد الدينية وثنية كانت أم سماوية، وخضعت تلك الجماعات لسلطة رئيس الإقليم أميراً كان أو ملكاً، نشأت عندئذ فكرة القانون مستقلة عن القوة

كان قدماء المصريين يعتقدون أن المعبودة (ما) أو (معت) هي إله العدل والحق؛ لذا وضعوا على تاجها ريشة نعامة، وكانت تدل عندهم على العدل. وكانوا يقولون إن (توت) أو (طهت) أو (تحوت) المعروف عند اليونان باسم (هرمس) نزل إلى الأرض ووضع لسكان وادي النيل القدماء القواعد الأساسية للقوانين المدنية والجنائية فاعتبروه رب القوانين وإله كل المعارف؛ وكانوا يقولون عنه إنه أول مشروع مصري يحتذي وينسج على منواله. ويزعمون أنه ترك كتباً قيمة في التشريع وفي نظم القضاء، ولكنا لم نهتد إلى شيء من تلك الكتب. وكانوا يعتقدون أن للعدالة إلهاً يوحي بالحكم لمن يرفع إليه النزاع من الكهنة أو السحرة. وكان من نتيجة اعتقادهم أن قوانينهم منزلة عليهم من السماء وأنها صادرة بوحي الآلهة ومشورتهم أن صبغ القضاء عندهم بالصبغة الدينية التي أكسبته الإجلال والوقار. ثم تكونت بمضي الزمن وتكرر الحوادث والمنازعات المتماثلة أو المتشابهة وصدور أحكام مصدرها الإلهام - عادات مرجعها الإلهام ليس لها صفة إلزامية، وإنما تستمد قوتها من صفتها الدينية ومصدرها الإلهي المنسوبة إليه؛ ثم تولى القضاء حفظ هذه العادات والتقاليد القانونية ومفسريها من زعماء الكهنة أو الأشراف (إما لضعف السلطة الملكية وإما لاتساع المملكة وعجز الملك عن القيام بالقضاء بين أفرادها) واحتكروا معرفتها وساعدهم على الاستئثار بمعرفة هذه القوانين جهل العامية من المصريين، فأصبحوا يفسرونها بحسب ما تمليه عليهم شهواتهم ويطبقونها بحسب ما يكون فيه منافعهم ويؤولونها بما يؤيد استمرار سلطتهم واتساع نفوذهم؛ ويسمى هذا العصر بعصر التقاليد غير المدونة. ولما كثر ظلمهم لعامة الشعب المصري وظهر للشعب سوء نيتهم قلبوا لهم ظهر المجن وطالبوا بتدوين هذه العادات وتلك التقاليد في نصوص تنشر على الناس جميعاً حتى يعرف كل شخص في الأمة حقوقه وواجباته؛ وبذلك بدأت مرحلة تدوين القانون. وقد جمعت تلك القواعد العرفية في نصوص كتبت في ألواح من الفخار أو الخشب أو البرنز وباشرت الحكومة إصدارها ونشرها في الناس

ولقد كانت القوانين المصرية في دورها الأول ذات صبغة دينية، وكانت تميل إلى الإنصاف والعدل كما كانت مشربة بمكارم الأخلاق فأصبحت بذلك قريبة إلى المثل الأعلى للحق؛ ثم تشبعت بعد ذلك بالمسحة المدنية وبخاصة عندما ضعف نفوذ الكهنة بمصر

ويرجع ظهور التشريع بمصر إلى القرن الخمسين ق. م إذ في هذا القرن تعلم المصريون الكتابة عندما وضع لهم (تحوت) إله القانون ما وضع من قوانين ثم جمعها لهم سنة 4241 ق. م وعلى مر السنين بعثرت تلك القوانين فجاء الملك (بوخوريس) مؤسس الأسرة الرابعة والعشرين (718 - 712 ق. م) وجمعها ثم عدلها ووضعها في مجموعة واحدة نظم بها المعاملات المدنية والأحوال الشخصية وبذلك سميت بمجموعة بوخوريس عند المصريين وبقانون العقود عند الإغريق فيما بعد ذلك

وقد عمل في مصر في مجموعة قوانين بوخوريس هذه بعد أن امتدت إليها يد التنقيح أكثر من مرة في العهد الفرعوني وطبقت على المصريين أيام حكم الإغريق والرومان لمصر حتى سنة 212م حيث أصدر الإمبراطور الروماني كراكلا (211 - 217م) قانوناً منح به الرعوية الرومانية لسكان الإمبراطورية الرومانية وكانت مصر جزءاً منها، وبذلك طبقت في مصر القوانين الرومانية

(يتبع) عطية مصطفى

مشرفة بكالوريوس في الآداب في التاريخ ودرجة ليسانس في

الحقوق