مجلة الرسالة/العدد 225/الاجتهاد لا يزكو مع الفوضى
→ التشريع والقضاء في العهد الفرعوني | مجلة الرسالة - العدد 225 الاجتهاد لا يزكو مع الفوضى [[مؤلف:|]] |
مصطفى صادق الرافعي ← |
بتاريخ: 25 - 10 - 1937 |
للأستاذ علي الزين
- 1 -
لقد اتفق لي منذ سنين خلت أن ضمني مجلس في إحدى القرى مع بعض العلماء المجتهدين - بعرف أنفسهم - وكان فيمن حضر هذا المجلس ضابط فلسطيني من إخواننا أهل السنة. وما أن استقر المقام بالجميع حتى تنحنح فضيلة العالم وانطلق يتحدى في كلامه مواضع الخلاف بين أهل السنة والشيعة بكل ما في نبراته من اعتداد بأحقية الشيعة، وبكل ما في قلبه من حرص على توجيه الأنظار نحوه، وبكل ما في لهجته من عنجهية ونبو عما تقتضيه اللياقة من الاحتفاء بالضيف الفلسطيني ومراعاة عواطفه كمسلم سني أو كرجل قانون لا رجل دين يحسن الجدل ويستسيغه في مثل هذه الموضوعات: وكان بيت القصيد في حديث مولانا الاجتهاد وخطره - من حيث الإباحة والحظر، وأثر ذلك إيجاباً وسلباً في الدين والعلم والعقل أيضاً، ثم كيف أن الشيعة - دون غيرهم من الفرق الإسلامية - استقلوا بهذا الفضل وفاقاً للأحاديث النبوية، وطبقاً للمأثور من أقوال العلماء والحكماء والمؤرخين، وما إلى ذلك من شواهد على فضل الاجتهاد وفوائده. كل ذلك جرى والضابط الفلسطيني واجم تحاشياً لهذا المجتمع الشيعي وتهيباً من هذا العالم الأرستقراطي الذي لم يترك مجالاً لغيره في الكلام، أو جهلاً بالموضوع، أو استخفافاً بالتحدث عنه لغير مناسبة لا أدري؛ غير أن هذا الحديث أثار حفيظتي من العالم لا لشيء سوى أن يتملق العامة بالانتصار لمذهبهم أمام رجل سني، كما استفز عواطفي هذا الوجوم من رجل غريب بروحه وميوله عن المجلس قد فوجئ بما لم يكن يترقبه ويألفه من حديث، فاندفعت للاعتراض بما أوحته إليّ هذه الحال من خواطر وأفكار يمكن أن يفترضها ويقدرها الشيعي وغير الشيعي من المسلمين إذا اضطره الأمر إلى أن يتجرد من عصبيته، وأهاب به المقام للتمسك بكل ما يمكن أن يقال في تحرير موضع النزاع. ولكن مكان مثل هذا العالم في مثل هذا المجلس من العامة لم يدع سبيلاً إلى إتمام كلامي وتوضيح مرادي، بل اضطرني كما اضطر غيري إلى السكوت والإصغاء لو كان في الإمكان أن يسكت الفكر العنيد، أو يرتاح الضمير الحر بدون أن يفضي بمكنونه ويفرغ سورته في قالب من اللفظ وسمط من البيان، فرحت أرفه عن النفس بعد الانصراف عن هذا المجلس بتسجيل تلك الخواطر وكتابة هذا المقال؛ بيد أنه لم يكن لي من الشجاعة الأدبية أو من الاعتداد بما كنت أكتبه آنئذٍ ما يجرئني على النشر، فطويت المقال فيما طويت من الأبحاث وجعلت مع الأيام أترقب المناسبات والفرص التي تهيئ لي نشره إلى أن أقامت الرسالة الغراء تعالج هذا الموضوع - موضوع الاجتهاد - وتشجيع الأقلام على تمحيصه بحثاً وتفكيراً، فحولت وجهي نحوها معتداً بإنصاف الأستاذ الكبير - صاحب الرسالة - وعطفه على مثل هذه الموضوعات التي تتوالى على صفحات مجلته، وإن كنت قد خالفت أولئك الباحثين في لهجتي ومنحاي، اعتقاداً مني بأن المجاملة والمداورة والتملق في مثل هذا المقام لا تسمن ولا تغني، بل هي إلا إغراء المتعنتين بتعنتهم وجمودهم أقرب منها إلى تأييد المخلصين والأخذ بيدهم إلى مكامن الداء ومواضع العلة، وهي كذلك إلى التلبيس والإبهام أقرب منها إلى الصراحة والجهر بالحق الذي يجب أن يقال في محاربة العرف الزائف ومعالجة الأهواء المريضة، وتقويم الأفكار المستعبدة، من حيث لا يغني التردد والخوف عن الثقة بالنفس والإقدام بالقول والعمل شيئاً
- 2 -
لا جرم أنه كان في إقفال باب الاجتهاد بعض التقييد للحرية والاستقلال في الرأي، وبعض الحجر على العقل والفكر والمنطق أن تجري مجراها الطبيعي الذي أعدته الشريعة السمحاء وهيأته طبيعة الحياة الحرة: ولا جرم أنه كان في فتحه على مصراعيه تعزيز للعلم وتحرير للفكر والمنطق، وتنزيه للإسلام - دين الفطرة - عن الجمود والضيق لو قد انتهى بنا الأمر إلى ما كان يجب من الانطلاق مع نتائج التحرير العلمي والفكري، وجعل الدين - بذلك - مآلاً للمحبة وغاية للاتحاد وتفسيراً للحياة من سائر الوجوه والنواحي تفسيراً يقره منطق الحياة الحكيم، وتكبره الفطرة الإنسانية الحرة
أما والنتيجة ليست - بجميع ذيولها - كما يظن ويفترض لا أحسب أنه كان في فتح باب الاجتهاد على هذا النحو من الاضطراب والفوضى التي نجدها عند علمائنا اليوم - خدمة للعقل والدين أكثر مما كان في سده وإقفاله عند غيرهم
. . . فها نحن أولاء معشر الشيعة الإمامية ممن استمروا على القول بالاجتهاد وخطوا على ضوئه خطوات واسعة في العلوم الدينية والإسلامية وتأنقوا ما شاء لهم التأنق في علوم الكلام، والحديث، والتفسير، والفقه، والأصول، وإنهم لتأنقهم وتوسعهم في هذا الأخير قد أحالوه إلى مزيج من الفلسفة والنظريات الغريبة وأوشكوا أن يخرجوا ببعض مباحثه عن حدود المعتقدات الشيعية كما هو الشأن في بحث (اتحاد الطلب والإرادة) على ما قرره صاحب الكفاية - ها نحن أولاء قد استحال عندنا الاجتهاد أو كاد أن يستحيل - بتشعب أفكار الباحثين وتعسفهم في التفكير والتخييل وتسامحهم في النتائج إلى نوع من الافتراضات والوساوس والشكوك، يستطيع معها ضعاف الوجدان والعقيدة من ذوي الأهواء والمآرب الشخصية أن يستنبطوا لكل مأرب حكما، وأن يخلقوا لكل عسف عذراً، وأن يمهدوا لكل شذوذ في القول والفعل قياساً وشكلا، يدرأ عنهم التهم، ويحتفظ لهم بثقة الجمهور، ويشحذ لهم من منطق الدين شركاً للصيد وسلاحاً للنقمة، من حيث لا يستطيع - مع هذه الوساوس والشكوك - من يحتاط لدينه ووجدانه أن يجزم بحكم من الأحكام الفرعية إلا فيما شذ وندر من الأحكام التي لا تتسع للتأويل والافتراض والجدل
ذلك إذا كان الذين يتخصصون بتلكم العلوم الدينية من ذوي الكفايات والمواهب السامية، فكيف بنا إذا كانوا من البله والحمقى الذين من شأنهم أن يكونوا عرضة للتلبيس ومظنة للأوهام وأرجوحة للأهواء السياسية والمنبهات العصبية، أو الذين لا يتعلمون هذه العلوم في الغالب إلا احتفاظاً بتقاليد آبائهم وإلا ذريعة للرزق والاكتساب؟
أفترى أن الأمة أو أن الدين - بمثل ذلك - يمكن أن ينتهي إلى غاية أو يستقر على رأي؟ أم هل يمكن مع هذه الحال أن تكون النتيجة إلى غير ما نحن عليه اليوم من فوضى الاجتهاد وإطلاق العنان لكل طامح ولكل معتوه يسول له غروره وجشعه أن يستغل هذا الاسم ويدنس روحانيته بما يوسوسه له الهوى وحب الذات من فتاوى وأحكام وبدع يرسلها إرسال المسلّمات، ويصرفها تصريف المطمئن إلى صوابه، وكفايته، وإخلاصه؟ أم هل يمكن أن تؤول بنا الحال إلى غير ما منينا به في جبل عامل من تنابذ العلماء وتجريح بعضهم بعضاً ومحاولة كل منهم أن يذهب إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر في تحريمه وتحليله وتقريبه وتبعيده؟
أم هل لنا مع كل هذا - ومع تيقننا من أن الدين الإسلامي إنما وجد لخير الإنسان وصالحه وتوجيهه نحو المثل العليا التي توحد بين أفراده وشعوبه وتجعلهم إخواناً في السراء والضراء - أن نقول إن فتح باب الاجتهاد عندنا كان أجدى على الدين من سده وإقفاله عند إخواننا السنية؟ هيهات هيهات! ولو أن الذين أوصدوا باب الاجتهاد لم يتأثروا بعوامل زمنية واعتبارات سياسية بأن انقطعوا فيما وقفوا عنده واختاروه من المذاهب، لما كان أكثر انطباقاً على جوهر الكتاب والسنة وأقرب ملائمة لمنطق الحياة الاجتماعية والعقلية، وأشد اتساقاً مع دواعي الاحتياط والحزم واختلاف الأيام والظروف، وتطور الحاجات. . . لكان إقفاله على ذلك النحو من الإحكام والاعتدال - في تلك الأيام العصيبة والظروف الحرجة - أجدى على الإسلام من فتحه على هذا الشكل من الفوضى والتسامح والاسترسال مع كل شذوذ وتعسف وادعاء شخصي، وأضمن لمنعته واتحاد كلمته، واتساق سلطانه
هذا وإن الأمر الذي ما انفك يقلق بال كل أريب ويريب خاطر كل مفكر - وللاجتهاد حكمته البالغة ومزيته العظمى في ترويض الأصول العلمية وتصريف الأحكام على ما توجبه ضرورات الحياة ويقتضيه تطور أحوالها واختلاف دواعيها وجعل الدين (بذلك) يتسع لأبعد مدى في تطورها وتقدمها - خمولنا نحن الشيعة حملة لواء الاجتهاد وتخلفنا في ميادين الحياة على اختلاف أنواعها وفروعها، دون بقية الفرق الإسلامية التي حُلئت عن نعمة الاجتهاد ولم ترزق مرونة منطقه ورحابة صدره تخلفاً لم ينفع معه استقلال إيران الشيعية في السلطان ونزولها على آراء المجتهدين وامتثالها لإرادتهم في كل شأن من شؤونها وفي كل طور من أطوارها، طول هذه الحقبة الغابرة من الدهر
ثم جمود أكثر أولئك المجتهدين منا وتحرجهم تحرجاً يغري الناس بالجمود والتقليد، ويميت فيهم حياة العزة والطموح، كأنما أوتوا منطق الاجتهاد ليحاربوا كل جديد في الحياة، ويطاردوا كل مصلح، ويفرضوا على الناس حياة الاتكال الراتبة، وعيش الاعتزال المبتور، أو ليختصروا هذه الشريعة الكونية ويضيقوا هذه السهلة السمحاء، ولا يوجهوا كبير عنايتهم وجهودهم لغير هذه الفوارق والتقاليد المذهبية التي أوشكت أن تكون - بحكم ذلك الخلاف والتعصب الإسلامي العام - بمنزلة الأصل للكتاب والسنة، يؤول ما التبس منهما واختلف على حسب المألوف والمعتبر من ذلك لدى كل فرقة من فرق الإسلام
- 3 - ثم ما الاجتهاد إن لم يكن في جملته ومآله عبارة عن استقلال الفقيه في تفسير الكتاب والسنة، واستنباط الأحكام الشرعية من ذلك لكل واقعة من وقائع الحياة قديمها وحديثها على حسب المنطوق والمفهوم، وعلى مقتضى العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، وما إلى ذلك مما توضحه القرائن ويقره الذوق والمنطق؟
وهو بهذا المعنى محدود النطاق ليس لعقل المجتهد باصطلاحنا ولا لخياله أن يتجاوز به ما وراء الجمل والألفاظ في الكتاب والسنة، فإنه على فرض أن تنص القرائن الحالية والمقالية - وفرض المحال - ليس بمحال - على معنى من معاني الكتاب والسنة لا يساعد على استخراج الحكم الذي يقتنع به العقل ويستسيغه الذوق ويتفق مع ماجريات الحياة، لا يستطيع المجتهد أن يتجاوز النص في حكمه ويراعي مقتضى العقل المجرد، والذوق السليم، لنتحلل من إطلاق القول: (أنه كان في سد باب الاجتهاد حجراً عاماً على العقل)
ثم ما يدرينا من أن يكون هم من أوصدوا هذا الباب آن ذلك بعد أن اتضحت عندهم أكثر أحكام الفقه وقضاياه واطمئنوا إلى تحرير نصوصه وأدلته:
أولاً - الاحتياط من أن تتعدد المذاهب الإسلامية إلى غير نهاية وأن يكثر الخلاف ويستحكم حتى تتفرق الكلمة ويتمكن الدخلاء والدساسون من الكيد للإسلام، فتنحل قواه، وتلتبس حكمته، ويضطرب قصده، وتنعكس الآية (إنما المؤمنون إخوة)
ثانيا ً - تحرير الفكر وتوجيهه إلى باقي النواحي العلمية والفكرية التي استقبلها الإسلام في أوج نهضته وازدهار مدنيته وحضارته - باعتقاد أن مجاهل الحياة المتشعبة وحاجات الإنسان المتعددة المتنوعة أبعد مدىً وأوسع نطاقاً من أن تنحصر أو تتضح أو تحد بما ينطوي عليه الفقه والأصول من أحكام وقواعد ليقتصر البحث عليها كما كانت الحال إذ ذاك
هذا وإذا كان الاجتهاد في الفقه لا يعدو في جملته ومآله أن يكون من قبيل الاجتهاد في تفسير الجمل والمفردات اللغوية والتمييز بين الحقيقي وبين المجاز، والمنقول، والمشترك منها، بعد البحث عن تاريخ نشأتها، وعما كان يلابسها آن ذلك من قرائن حالية ومقالية وما كان يتصل بها ويكتنفها من عوامل الاجتماع والسياسة ومن خصائص الزمان والمكان، ثم عما رافق تطورها وتنقلها في الأيام، والجماعات، والأشخاص، من تحوير وتغيير. وكما أنهم هنا قد اختلفوا بين القول بإباحة التفسير بالرأي وبين القول بعدمه، وترددوا بين القول بجواز الاشتقاق والتصريف، والوضع للمستحدثات من المعاني وبين القول بعدمه. ثم انتهى بهم الخلاف والتردد إلى عدم الاطمئنان للفرد مهما كان شأنه، وإلى الاتفاق على تأليف مجمع من العلماء الاختصاصيين يوكل إلى مجموعه التصرف فيما يتفقون عليه من رأي
فلماذا لا يكون واقع الأمر هناك - في الفقه - كذلك؟ ولماذا لا ننتهي بعد هذا النزاع الطويل العريض الذي أحكمه ووسعه استئثار الفرد وتمادي الفوضى إلى ما قد انتهى إليه علماء اللغة من تأليف مجمع من علماء الدين على اختلاف مذاهبهم ونحلهم ثم إنشاء (مجلة) لتحرير البحث في مواضع النزاع بينهم وتعميم ما يقرره منطق العلم والدين، والحياة الحرة، ويفرضه التجرد لمحض الحق والخير؟
وعلى فرض أن تصطدم هذه الوسائل - في أول الأمر - بما قد فطر عليه الجمهور من جمود في الطبع، واحترام للشائع من أوضاع وتقاليد، والتمسك بالمألوف من عرف ورواية، أو أن تحدث هذه الأبحاث رد فعلٍ في الأوساط الإسلامية كما هو الشأن في كل فكرة جديدة - علميةً كانت أو دينية - لا تنسجم مع الشائع والمألوف من عادة وقول - إنه على فرض أن يكون ذلك كله في أول الأمر، فلابد لهذه الوسائل في النهاية من أن تقوى وتسلس لنتائجها الأفكار والعقول وتراض على مقرراتها الأذواق والنفوس من عامة المسلمين وخاصتهم ولاسيما إذا استمرت معها عواطف المصلحين وحججهم الدامغة وتضافرت على تأييدها وتقريرها في المجتمع الإسلامي الحياة في تطورها والثقافة في تقدمها، وإلا فالاتكال على المصادفات أو ما يشبه الاتكال عليها - في الإصلاح والتأليف - عجز وقنوط لا يقتنع به المصلح المعتد بصواب مبادئه، وسداد خططه، وسمو غايته، ولا يليق بالأمم المتفائلة الطامحة
أجل! ماذا يمنع حماة الدين وقادة الفكر في العالم الإسلامي أن يؤلفوا لجنة دائمة أو لجاناً من العلماء الاختصاصيين الذين عرفوا بمرونة الرأي وسمو الفطرة وسلامة الذوق، وهيأت لهم الظروف أن يضيفوا إلى ثقافتهم الدينية ثقافة اجتماعية عالية تشعرهم بواجبات الحياة وواجبات الدين، وتمكنهم من التوفيق بين ما التبس أو تفاوت من نواميسهما - يوكل إلى هذه اللجنة تسوية الخلاف القائم بين المذاهب الإسلامية وتحرير النصوص والأدلة على ضوء العلم وسداد المنطق النزيه، وتعديل الأحكام والنواميس وتقريرها على وجه تذوب فيه النعرات والفوارق، ويستقيم القصد والغاية، ويستمر العمل والسير على المنهج القويم اللاحب
وهل ذلك بعزيز على همم المخلصين من القادة إذ هم احترسوا في أخذ النصوص والأدلة والأحكام، مما جره عليها عادي الزمن وتصادم العصبيات وتزاحم المذاهب السياسية والدينية وتنازع الأهواء الشخصية والحزبية، من تلبيس، واختلاق، وتصحيف وإدغام
ثم راعوا في تفسيرها وتوجيهها، تجدد الحياة واتساع أفقها وتطور مقتضياتها، وتشعب ضرورياتها وكمالياتها عما كانت عليه في صدر الإسلام وعهد أئمته الأول
فإنه لم يبق في إمكان الفرد أن يقوم بمثل هذه المهام - مهام الاجتهاد - كما ينبغي ويجب حتى في الطائفة الواحدة من طوائف المسلمين، لأن الدين بالنظر لتوسع أبحاثه وتشعب فروعه، ولأن الحياة بالنظر لتعقدها وتطورها المستمر، قد أصبحا أكبر من أن يستقصي حقائقهما ويستكنه أسرارهما ويطابق بين داعيهما فرد مهما كان، ليوكل إليه بمثل هذه المهام الشاقة ولأن الفرد مهما كانت عبقريته ومهما كانت جهوده لا يمكنه أن يكون منزهاً عن الخطأ معصوماً من الزيغ حرياً بأن يستقل بجهود أمة وتراث أجيال، ويتصرف بمقدرات الأفكار والعواطف الدينية
- 4 -
ولكن مثل هذا العمل الإنساني الخطير لا أحسبه يتم على وجهه الأكمل ويكون له أثره الفعال في جميع الأوساط الإسلامية إذا لم تتحفز (النجف) ويهيب بها داعي النهضة إلى أن تجاري (الأزهر) وتتلافى هذه الفوضى السائدة في مدارسها وفي كتبها الدراسية وفي أساتذتها وتلامذتها، ثم في الاجتهاد والتقليد أيضاً بالعمل على تنظيم تلك المدارس ومراقبة الأساتذة والتلامذة والكتب الدراسية فيها، وإعداد اللجان الاختصاصية لتعديل برامج التعليم وتوسيع هذه البرامج، ثم تحوير الكتب الدراسية أو تغييرها وترتيبها على حسب عقلية التلامذة وعلى حسب مراتبهم العلمية، لتتضح بذلك السبل أمام الطالب وتقرب النتائج ويتوفر عليه من الوقت والنفقة ما يزيد في نشاطه وطموحه إلى أن يتثقف ثقافة عالية تيسر له بعد الاختصاص بما يختص به من علوم الدين أن يتذوق الدين وأن يتذوق الحياة بدون مشقة، وأن يتفهمهما ويؤدي فرائضهما على الوجه الصحيح الأكمل لكي يتهيأ للنجف نفسها من وراء ذلك كله أن تتفاهم مع الأزهر، وتجعل للاجتهاد - بالتعاون معه - المحل المرموق والأثر البالغ في نفوس المسلمين وعقائدهم وآدابهم
ثم لكي يتسنى للمعهدين الخالدين ويروق لهما على هدى الاجتهاد وبركة الائتلاف أن ينزلا عن بعض التقاليد، وينظرا للدين وللحياة نظراً مجرداً يرتفع بالدين عن كل هذه الحواشي العفنة البالية، ويسمو بالإنسانية عن كل هذه الفصول التي تثير الريب وتشعب الظنون، وتوسع الخرق بين الأخوين، نظراً حكيماً ملؤه الإخلاص والسمو، يخطو بالإسلام والإنسانية خطوة الأبدية الكبرى إلى الأمام، إلى الاتحاد، إلى السعادة الأبدية والحياة الخالدة
وإلا فإذا دامت النجف على ما نعهدها من الأوضاع المدرسية فمسافة الخلف بعيدة بين المعهدين بعد الفوضى عن النظام، والبداوة عن الحضارة، لا يمكن أن تغني فيها الأقوال والمجاملات عن العمل والإخلاص شيئاً
(النبطية - جبل عامل)
علي الزين